على أنه جعل أسباب هذا التحول غير ما جعله لامرك، وجل اعتماده على الأحوال الخارجة، ولا سيما الهواء واختلافاته من جهة الحرارة والرطوبة، وكمية الحامض الكربونيك فيه إلى غير ذلك، مما يجب أن يؤثر في تكوين الأجسام الحية وبنائها من تأثيره في التنفس. وهو يعتقد بنظام مشترك لبناء كل الأجسام العضوية.
وبينا كان لامرك يبحث في هذا الموضوع، كان في ألمانيا رجلان يبحثان فيه أيضا، وهما الشاعر «غاتي» والطبيعي الشهير والفيلسوف معا «أوكن».
فغاتي يقترب في نظرياته الفلسفية من جفروي سنتيليار، وهو ذو مقام في تشريح المقابلة؛ لاكتشافه عظم ما بين الفكين في الإنسان، ولمذهبه في الجمجمة أنها اجتماع فقرات متحولة. وقد نشر سنة 1790 كتابه «تحول النبات»، وقد بسط فيه ببيان ودقة مبادئ مذهب التسلسل، فقال: إن الورقة أصل في النبات، ومنها يتكون باقي الأعضاء. ثم رجع بعد حين عن هذا الرأي - كما سيأتي - إلى مذهب لامرك وجفروي؛ أي مذهب الارتقاء التدريجي أو التسلسل.
أما لورنس أوكن فكان طبيعيا أعظم من غاتي (1779-1851) ولقد تبع في كتابه «فلسفة الطبيعة» نفس الترتيب الذي تبعه لامرك، وهو لم يبسط فيه مبادئ مذهب التحول فقط، بل مذهب الكريات المهم جدا أيضا. وعنده أن جميع الأجسام الحية ناشئة مما يسميه «العلقة الأولى» (أرشليم)، وهي نفس ما نسميه اليوم «بلاسما أو برتو بلاسما». ومذهبه الشهير في الحيوانات النقيعية التي على موجب رأيه يتركب منها جميع العالم العضوي في الإنسان، فيه إشارة إلى مذهب الكريات الحالي. ومهما يكن في هذين القولين، وهما: التحول والكريات من الصحة، فالعلم لم يستفد منهما سريعا الفائدة المنتظرة؛ للاعتماد فيهما على النظريات الفلسفية العريقة في الإبهام. وزد على ذلك أن أوكن كان يضع أفكاره في قالب من الكلام، هو من الاقتضاب وعدم الصراحة، بحيث كان يجعل انتشارها صعبا جدا.
وفي الجملة فإن آراء أوكن في «فلسفة الطبيعة» لم يزدد شأنها في الثلاثين سنة التي عقبتها إلا انحطاطا، حتى إنه في الجدال الذي حصل بين جفروي من جهة، وكوفيه وأنصاره من جهة على تحول الأنواع في جمعية العلوم بباريس في 22 شباط سنة 1830، اضطر علماء المدرسة الفلسفية أن يرتدوا على أعقابهم خاسرين أمام خصومهم؛ إذ فاز الأصوليون - الذين ينظرون إلى الأشياء من حيث الواقع المنظور فقط - على أصحاب النظر الفلسفي في الطبيعة. والفوز المذكور إنما كان لنقص الشواهد ولسوء فهم الموجود منها، فلم تقبل آراء جفروي بدعوى أنها آراء لا دليل عليها وصحت الغلبة، ولكن إلى حين، لخصومه الذين اقتصروا على الواقع المنظور، واعتبرت مسألة البحث في أصل الأنواع من المسائل التي تعلو على العلوم الطبيعية علوا كبيرا.
وذاع خبر هذا الجدال في كل أوروبا. وقد كتب غاتي - الذي هو، كما قلنا، قريب جدا بأفكاره من جفروي وفلسفته - رسالة جليلة في هذا المعنى، فرغ منها قبل موته بأيام قليلة (1832)، وقد ضمنها شرحا مستوفيا في صفات كوفيه وجفروي ومذهب كل منهما. ومن سنة 1830 إلى سنة 1860 لم يسمع ذكر علم فلسفة الطبيعة لما كان من انتصار خصومه، فنسي العلماء - لما فيه من النقص والخطاء - ما له من المزايا التي لا تنكر، حتى توهموا - كما قال هكل - أن الفلسفة في الأمور الطبيعية لا تتفق مع العلم. وليل نفسه الذي هو أعظم المصلحين في علم الجيولوجيا اعتقد ذلك أيضا وقام ضد لامرك، وهو يذكر في كتابه «قدم الجنس البشري» (صفحة 321) كيف أنه في كتابه «مبادئ الجيولوجيا» (1832) تظاهر ضده، وكثيرا ما يتقدم إليه في كتابه المذكور سائلا العفو حيث يقول:
إن كل ما قدمه لامرك في تحول الأنواع صحيح.
وفي موضع آخر منه ما نصه:
كلما عرفنا صورا جديدة أكثر بان عجزنا عن تحديد الأنواع.
وغير ذلك مما يدل على رجوعه إلى أفكار لامرك.
صفحة غير معروفة