ولا ينبغي أن يتوهم أن جميع الأحياء الأولى أو أكثرها بقيت محفوظة إلى يومنا هذا، فإنه لم يحفظ منها إلا القليل جدا مما وافقته الأحوال، والقسم الأكبر تلاشى لفعل الأشياء الخارجية، ولا سيما ما كان منه غير ممكن الحفظ من طبعه كطائفة الحيوانات الرخوة، والأجزاء الرخوة لباقي الحيوانات، ومتى وجد آثار لهذه الحيوانات العديمة الهيكل ففي غاية الندرة. وما يشاهد في الأحافير غالبا إنما هو أصداف وقواقع كلسية، وعظام وقطع عظام، وشعر وريش، وأسنان وحوافر، ومبرزات متحجرة وما شاكل. وعلى هذه الآثار يكون البحث لمعرفة الأحياء التابعة لها وجنس معيشتها. ومن النادر أن تلتقي الهياكل العظمية للأزمنة الأولى كاملة ومحفوظة جيدا. وأندر منه أن تلتقي الحيوانات كاملة، ولا بد لذلك من أحوال خصوصية. ومن أعظم أمثلة هذا الأخير مماميث (جمع مموث، وهو الفيل الأول ) سيبيريا أو الفيلة الأولى التي هي من أهم أمثلة البالنتولوجية. فهذه الحيوانات توجد كاملة بجلدها وشعرها وأحشائها، وقد مر عليها ألوف من السنين، وزعم بعضهم أنه وجد في معدها بقايا طعامها القديم. وسبب حفظها فعل الجليد أو الأرض المجلودة، حيث وقعت واندفنت حين كان الماء سائلا أو الأرض طينة. ولكي يعلم كم يصعب على العقل البشري إدراك هذه المسائل بدون مساعدة العلم، يكفي توجيه النظر إلى معتقد قبائل سيبيريا الرحالة، الذين يعتبرون هذه الحيوانات أنها مناجذ هائلة حية تدب تحت الأرض، وتموت حالما تقابل النور، وصينيو آسيا الجنوبية يعتقدون ذلك أيضا، وينسبون الزلازل إلى حركتها تحت الأرض.
فيظهر مما تقدم أن معرفة الأحياء الأولى صعبة للغاية؛ لقلة المحفوظ منها ووجوده غالبا في حالة ناقصة جدا؛ ولأن المعلوم من هذا القليل المحفوظ هو دون الطفيف. وإذا تذكرنا بأن ثلثي الأرض أو ثلاثة أخماسها تحجبها البحار، وأن قسما كبيرا من الثلث الباقي تغطيه الجبال الشاهقة، نعلم أنه تمنعنا عن الأبحاث العلمية موانع طبيعية. وإنا لا نعلم شيئا عن أحافير قارات آسيا وأفريقيا وأميركا وأوستراليا الواسعة، وما نعلمه من هذا القبيل إنما هو آت كله من قارة أوروبا الصغيرة. ولقد أصاب دارون حيث قال: إن أغنى مجموعاتنا البالنتولوجية ليس شيئا بالنسبة إلى الحقيقة، وهو آت من قسم من سطح الأرض صغير غير مستوفى البحث فيه، على أن كثرة اختلافات هذه المجاميع تدلنا على كثرة الأحياء التي عاشت على الأرض في كل الأدوار بما يفوق حد الحصر.
ومع كل هذه الصعوبات الناشئة عن قلة المواد المعلومة، وعن نقصها في غالب الأحيان، قد تحققوا أن طبقات الأرض المختلفة الكثيرة تحتوي أجساما عضوية مختلفة؛ أي إنه في الأدوار العديدة لتاريخ الأرض التي كل طبقة من طبقاتها تدل على كل دور من أدوارها، عاشت حيوانات ونباتات خصوصية مختلفة بعضها عن بعض يزيد اختلافها كلما زاد البعد بينها.
وعليه فصاروا يعينون مقام بعض الطبقات في النظام الحيواني من مجرد الأحافير الموجودة فيها، خصوصا الأصداف التي تحفظ جيدا لمادتها الكلسية، والتي تلتقي في الأحافير بكثرة، فإنها اعتبرت زمانا طويلا دليلا على تعيين مقام بعض الطبقات في الأرض، وهي لا تزال إلى اليوم تعتبر أدلة ثمينة، ولو أن كثيرا من الاكتشافات الحديثة يناقض ذلك.
فمما تقدم، ومن الوهم في فهم بعض الحوادث الجيولوجية، نشأ المذهب العظيم القائل بنكبات الأرض وتقلباتها؛ وبالنتيجة مذهب تعاقب الخلق. وهذان المذهبان اللذان أيدهما كوفيه الشهير تغلبا على سواهما حتى هذه الأيام الأخيرة، ويراد بهما انقلاب عام يمحق به كل أثر حياة على سطح الأرض، ثم تقوم على أثره مخلوقات أخرى حية. وهذا التعاقب حصل 36 أو 40 أو 50 مرة في تاريخ الأرض.
على أن علم البالنتولوجية لم يكن يخلو من مسائل كثيرة يصعب أو يستحيل تطبيقها على هذا المذهب، منها امتناع ملاشاة كل الأحياء في وقت معلوم من تاريخ الأرض دفعة واحدة؛ لأنه توجد أصول ثابتة حية لم تتغير في النكبات والانقلابات الجيولوجية، كالحيوانات البحرية الدنيا. وعدا ذلك، فإنا نرى في خلال الأدوار المتعددة تكاثرا تدريجيا في بعض الأنواع، ثم انقراضا بطيئا فيها كذلك؛ مما يدل على أن الصور الواحدة انتقلت من دور إلى دور في تنسيق طبقات الأرض. فهذه الملاحظات لا يصح معها التسليم بانقراض تام يعقبه خلق جديد. وما نعلمه من وحدة النظام الأساسي في العالم العضوي، ومن تقارب البنية في كل الصور الحية لا يقبل ذلك أيضا؛ لأننا نجد في طبقات الأرض المختلفة ليس عددا عظيما من الصور المتشابهة فقط، بل تدرجا بطيئا صاعدا، ونسبة شديدة بين أحياء المكان الواحد المختلفة سواء كان بين الأصول المنقرضة والحية، أو بين كل منها. فإذن، يوجد رابط يربط الصور المتعددة بعضها ببعض، وهذا لا يجب أن يكون في المذهب المار ذكره.
ومع ذلك فعلماء كثيرون أيدوا هذا المذهب، وله نصراء حتى الآن، ومن أشهر نصرائه كوفيه الذي هو بأبحاثه في الأحافير العظمية أول من مهد السبيل لدرس الآثار الأولى درسا علميا. ولقد عرف أيضا في كتابه «تقلبات سطح الأرض» هذه الأمور المتناقضة، وهو يذكرها أيضا على ترتيب مطابق لأفكار دارون، إلا أنه لم يأخذ على نفسه تطبيقها على مذهبه؛ وربما كان السبب امتناع مثل ذلك في حينه. على أنه يعذر بجانب أغاسيز الذي لم يخش فصل المسألة بقوله: «إن الخالق قادر أن يعيد خلق الصورة التي أعجبه خلقها»؛ فإن مثل هذا الجواب يغلق الباب في وجه العلم، وفي وجه العقل البشري.
ومذهب النكبات أو الانقلابات الجيولوجية هو إقرار بالجهل ليس إلا، والتسليم به بدعوى أن سبب الأشياء الحقيقي والطبيعي لم يدرك طفور إلى ما وراء الطبيعة، وهو شأن الناس عموما في تفسير كل ما أشكل عليهم معرفة سببه الطبيعي. على أن الرضا بذلك - وهو شأن كثير من أساتذتنا الفلاسفة - تشبه بهنود أميركا الذين لما رأوا خريستف كولمب نازلا بينهم قالوا: إنه نزل من السماء!
وهذا المذهب لم يثبت كل هذا الزمان الطويل، ولم يقو بعضه على ما سواه حتى يومنا هذا إلا لعدم وجود ما يفضله، ولا سيما أن مبدأ ثبوت الأنواع كان قد رسخ في ذهن الجميع، فكان كل نوع يعتبر أنه ثابت على مر الزمان، وأنه خلق خصوصي، ولم يتزعزع هذا الزعم حتى قام دارون، وأخذت الأبحاث الحديثة تمهد للعلم سبيل التقدم.
على أن مذهب نكبات الأرض وتقلباتها المار ذكره كان قد انتقض قبل دارون بزمان طويل، والفضل في ذلك راجع إلى الجيولوجي الشهير السر شارل ليل الإنكليزي الذي بين في كتابه «مبادئ الجيولوجيا»، بما لا يقبل الاعتراض، أن النكبات المشار إليها لم تكن عامة بل خاصة؛ أي إن الانقلابات لم تعم قط سطح الأرض دفعة واحدة، وإنما الأرض تتبع دائما في تاريخها نشوءا تدريجيا ثابتا مستمرا، وهي دائما وأبدا تحت فعل نفس القوى، ومعرضة لنفس الأحوال التي لا تزال تغير سطحها حتى اليوم. وقال أيضا: إن هذا النشوء بطيء جدا، وغير محسوس بحيث يخفى علينا. وما اشتهر هذا المذهب حتى انضم إليه جمهور الجيولوجيين، وهو الذي مهد السبيل لانحراف الأفكار عن مذهب ثبوت الأنواع.
صفحة غير معروفة