وما عدا الأمور العامة الجوهرية في مذهب دارون، فإن فيه أيضا أمورا أخرى عرضية مهمة ذكرت في بعض المؤلفات قبل دارون بكثير. فإن أحد الأطباء المدعو ولاس تلا في مجمع لوندرة الملكي في سنة 1813 رسالة في امرأة بيضاء، على جلدها بقع سود ذكر فيها «الانتخاب الطبيعي»، حيث قال: إن الطبيعة تكون أنواع البشر كما يغير الزارعون أنواع المواشي، فالسود من البشر يقوون على السموم الميازمية أكثر من البيض؛ لذلك نموا أكثر منهم في المناطق الحارة حتى لم يبق فيها سواهم.
وفي سنة 1820 كان ديكندل وهو نباتي فرنساوي شهير من المؤيدين لمسألة «تنازع البقاء»، وعنده أن جميع النباتات دائما في تنازع بينها، وهو يستنتج من ذلك كل ما يترتب عليه.
فلم يكن يقتضي والحالة هذه لسبق دارون إلا إطلاق ذلك على كل الأحياء كما فعل هو.
وكتاب دارون مال إليه أعظم علماء إنكلترة كليل وولاس وأون وغيرهم، هذا ما عدا هكسلي وهوكر السابق ذكرهما. ولا يخفى ما أوجب هذا الكتاب من اللغط. وفي سنة 1860 قام مطران أكسفرد في جمعية من الطبيعيين الإنكليز، وقال: إن هذا التعليم مخالف للدين، فأسكته الحاضرون مؤيدين دارون، وقائلين له: دعنا ولا تكن حجر عثرة في سبيل العلم.
6
وفي ألمانيا وفرنسا حصل في أول الأمر هياج ضد المذهب المذكور، ثم ما لبث أن هجع. واليوم أكثر علماء ألمانيا وفرنسا ولا سيما علماء المدرسة الحديثة متابعون لدارون في تحول الأنواع،
7
واعتراض الأصوليين الوحيد على مذهب دارون هو أنه افتراض لا يستطاع تبيين صحته، ولقد جهل المعترضون أن افتراضهم الخلق واحدا أو متعاقبا يمتنع تبيين صحته أكثر لتناقضه مع جميع الأشياء، وأما مذهب دارون فبالضد من ذلك يفسر جملة ظواهر كانت قبله غير مفهومة. ولقد كان معروفا أن أمر الخلق الواحد مثلا ممتنع؛ لأن الحيوانات والنباتات الحلمية لا تعيش إلا على أجسام أخرى عضوية، وكثيرا من النبات لا يعيش إلا في ظل نبات آخر. على أن نظر دارون ليس افتراضا، بل اكتشافا، ولا نطيل الكلام في ذلك أكثر الآن؛ لأنا سنعود إليه فيما يأتي.
وقبل أن نفرغ من تاريخ هذه المسألة أقول: إني من جملة الذين تكلموا بمذهب التحول قبل دارون بزمان طويل، وفي الطبعة الأولى 1855 من كتابي «القوة والمادة» في فصل التولد الأول، قلت:
إن تولد أنواع جديدة يحصل طبيعيا بالتسلسل والتحول.
صفحة غير معروفة