خلاف الفقهاء في نقض النوم للوضوء
السؤال
ذكرتم -حفظكم الله- أن في معنى الحدث النوم عند من يراه ناقضًا للوضوء، ففهمت من هذه العبارة أن النوم مختلف فيه، نرجو بيان هذا؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فالأمر كما فهمت وهو صحيح، فإن العلماء ﵏ سلفًا وخلفًا اختلفوا في النوم.
فقال بعض العلماء: النوم ناقضٌ مطلقًا، وهذا القول يرى أن النوم على أي صفة وقع ينقض الوضوء، سواءً نام قاعدًا أو مستلقيًا أو منكبًا على وجهه، وسواءً نام نومًا مستغرقًا أو نومًا يسيرًا، فبمجرد أن تخفق عينه فهو نائم ينتقض وضوءه.
واحتجوا بحديث صفوان بن عسال ﵁ قال: (أمرنا ألا ننزع خِفَافَنَا ثلاثةَ أيامٍ من بولٍ أو نوم).
وجه الدلالة: أنه قال: (أو نوم) ولم يفرق بين نوم وآخر، وقرن النوم بالبول والغائط، فدل على أنه حدث، يعني أنه آخذ حكم الحدث، فقالوا: إن هذا يدل على أن النوم مؤثر.
القول الثاني يقول: النوم ليس بناقض مطلقًا.
واحتجوا بحديث أنس الثابت في الصحيحين أنه قال: (أعتم النبي ﷺ بالعشاء، فخرج عمر يصرخ يقول: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان، فخرج ﷺ ورأسه يقطر يقول: والذي نفسي بيده إنه لوقتها لولا أن أشق على الناس أو على أمتي).
وفي رواية عن أنس في السنن عند أبي داود وغيره: (كان الصحابة ينامون حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضأون) قالوا: هذا يدل على أن النوم ليس بناقض مطلقًا.
وذهب أصحاب القول الثالث إلى التفريق بين نوم القاعد الممكن مقعدته من الأرض، ونوم القاعد غير ممكن مقعدته من الأرض، وهذا هو مذهب الشافعية رحمة الله عليهم، والذين قالوا: إنه ناقض مطلقًا، طائفة منهم ربيعة.
والذين قالوا: ليس بناقض مطلقًا هم الظاهرية.
والذين قالوا: إنه ناقض في حال عدم تمكين المقعدة هم الشافعية، قالوا: إذا نام ممكنًا مقعدته من الأرض لم ينتقض وضوءه، وإن نام على وجهه أو على جنبٍ أو مستلقيًا انتقض وضوءه.
ودليلهم: أنهم جمعوا بين الحديثين، قالوا: حديث: (من بولٍ أو نومٍ) يدل على أن النوم ناقض، وحديث كان الصحابة ينتظرون العشاء هذا في حال كونهم ممكنين مقاعدهم من الأرض، وعلى هذا ينتقض نوم من كان نائمًا مستلقيًا لحديث صفوان وهو الأصل، ونستثني ما ورد الشرع بعدم اعتباره ناقضًا، هذا مذهب الجمع للشافعية.
القول الرابع: وهو مذهب الحنفية، زادوا على قول الشافعية: إذا نام راكعًا أو ساجدًا، قالوا: إنه لا ينتقض وضوءه حتى ولو نام في الصلاة، واحتجوا بما جاء في الحديث عنه ﵊ من الله تعالى: (إذا نام العبد في صلاته وهو ساجد باهى الله به ملائكته وقال: انظروا إلى عبدي! روحه عندي ساجد بين يدي) وهو حديث ضعيف بل باطل، وذكر الإمام ابن الجوزي في العلل المتناهية أنه ليس بصحيح.
القول الخامس في المسألة يقول: إن العبرة في النوم بزوال الشعور، وهو مذهب المالكية والحنابلة وهو الصحيح -إن شاء الله- في هذه المسألة، فإن كان الذي نام قد زال شعوره ولو كان نومه يسيرًا قاعدًا أو قائمًا أو مستلقيًا انتقض وضوءه، وإن كان لم يَزُل معه الشعور لم ينتقض وضوءه.
الحنابلة فرقوا بين القليل والكثير، والمالكية ضبطوه بالشعور، وهذا القول في الحقيقة هو أصح الأقوال في المسألة، أن العبرة بالشعور، فإذا نام الإنسان وشعر بالخارج فهذا لا ينتقض وضوءه بدليل قوله ﵊ في حديث علي ومعاوية: (العين وكاء السَّهِ فإذا نامت العين استطلق الوكاء).
فهذا يدل على أن الناقض في النوم هو زوال الشعور وليس مطلق النوم، وكذلك حديث: (رقد النساء والصبيان).
وعلى هذا فمن نام شاعرًا بنفسه لم ينتقض وضوءه، ولو نام ساعات ومعه الإحساس والشعور لا ينتقض؛ لكن لو زال شعوره ولو لحظة انتقض وضوءه.
والسؤال: كيف يفرق الإنسان بين الشعور وعدمه؟ بعض العلماء يقول: من أمثلة ذلك: لو كان بيده شيء فسقط ولم يشعر به دل على زوال شعوره، كما لو كان يكتب بقلم، ثم ما شعر إلا والقلم سقط دون أن يعلم بسقوطه، دل هذا على أنه قد زال شعوره، فيلزمه الوضوء من هذا النوم.
وقيل: من أمثلته: أن يجلس القوم بجواره يتجاذبون الحديث فلا يفرق بين كلامهم، ولا يستطيع أن يُدْرِك معنى الحديث فيغيب عنه بعض معانيه، أو مرادهم بالأحاديث، فيصبح يسمع الأصوات فقط ولا يعي معناها، فإذا بلغ إلى درجة سماع الأصوات دون وعي لمعناها فقد زال عنه الشعور، وهذا ضابط صحيح.
وعليه فإن أصح الأقوال في النوم أن العبرة بالشعور، فإن لم يكن عنده الشعور انتقض وإلا فلا، بدليل أن النبي ﷺ كان يضطجع بين الأذان والإقامة ثم يؤذِنه بلال بالصلاة؛ وكان يضع كفّهُ تحت خده الأيمن صلوات الله وسلامه عليه، وهذه نومة المضطجع، ومع هذا كان ﵊ يقول: (تنام عيني ولا ينام قلبي) ولهذا قالوا: إن وضوءه لا ينتقض بالنوم من هذا الوجه.
والله تعالى أعلم.
3 / 17