ثَمَرُ الثمامِ
شَرحُ «غَايَة الإحكَامِ فِي آدَابِ الْفَهمِ وَالإِفهَامِ»
تأليف
الإِمَام الْعَلامَة الْمُحَقِّق
مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبدِ الْقَادِر السَّنَبَاوي الْأَزْهَرِي الْمَالِكِي الشَّافِعِي الْمَعْرُوف بـ " الْأَمِير الْكَبِير " رَحمَه الله تَعَالَى (١١٥٤ هـ - ١٢٣٢ هـ)
عُنِيَ بِهِ
عبد الله سُلَيْمَان الْعَتِيق
بمساهمة
اللجنة العلمية بمركز دراسات الْمِنْهَاج للدراسات والنشر
برئاسة أنس مُحَمَّد عدنان الشّرقاوي
دَار الْمِنْهَاج
صفحة غير معروفة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بين يدي الكتاب
الحمد لله الذي أبدع الإنسان وعلَّمه البيان، جودًا وفضلًا منه وإحسانًا.
والصلاة والسلام على سيد الوجود أفصح من نطق بالضاد وأصدقهم لهجة وبيانًا، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، وتابعيهم بإحسان.
وبعد:
فهاك كتابًا فريدًا في بابه، نافعًا أيَّما نفعٍ لطلابه، نسجتْ سطورَهُ يراعتان مباركتان، لعالِمَينِ محققَين مدققَين، العلامة المعمَّر عمر الطَّحْلاوي، وأمير العلماء محمد الأمير السَّنَباوي المالكي.
متعاصرين كانت لهما علوم العربية على طرف الثُّمام، فَحْلَينِ تتبعتْ آثارهما الأنام.
خطَّ الأوَّلُ " غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام "، فشرحها الثاني شرحًا رائقًا مفيدًا بـ " ثمر الثُّمام ".
والسبب في تفرُّده هو موضوعه الذي يعالج مسألة من أهم المسائل الحيويَّة المتصلة بالنص، وهي قضيّة فهمه وتفهيمه، وطرائق الوصول
1 / 7
إلى مرادات كاتبه، ضمن بحث مقتضب قل نظيره بهذه الطريقة في المكتبة العربية.
إذ يقدم أبرز المحطات التي يجب الوقوف عندها قبل إمرار العبارة، ويبين أهم الأخطاء التي يجب التحرز عنها كيلا نردَّ العبارة الصحيحة متوهمين خطأها.
فالعجلةُ في رد النصوص والحكم عليها بالخطإ آفةٌ بشعة، ومظاهرها اليوم في ازدياد مستمر، وأهل العلم في شكاية من أولئك المتهورين الذين يسارعون في نبذ كل ما لا يفهمون ظانين بصاحبه ظن السوء، دون أدنى لفتةِ عتبٍ على أنفسهم التي تحتمل كغيرها الخطأ الناجم عن سوء الفهم كما احتملت العبارة الخطأ الناجم عن سوء الإفهام.
إنها بليَّة عمَّت حتى أعمت، ولا بد لنا من كبح جماحها الهائج، وليس لكبحها دواء أنجع وأنجح من تبصير طالب العلم بحقيقة طلب العلم، ومحاربة ظاهرة التهجين العلمي التي أخذت بالانتشار، فكان من آثارها أن نصاب بأمثال تلك السرطانات المخيفة.
فما إن نسمع بفلان أنه أخذ بطلب العلم .. حتى نسمع بعد غفوة خاطفة يقدم للعامة عالمًا جهبذًا، ومفتيًا لوذعيًا، وداعية أخَّاذًا؟!!!
أما والذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، لن تفلح أمة رضيت بهذا الهزال العلمي والتقهقر الثقافي إذ تُملِّكُ أمرها أطفال العلم وتناديهم بنعوت الجلال.
1 / 8
(ب)
و" ثمر الثُّمام " عُودٌ في عجلة العجلة يحاول أن يبطىء من سيرها، ويعلِّمُ فنَّ تأمُّلِ العبارات، وتقليب النظر فيها، وفحصها وتمحيص أمرها، وإعطائها الوقت اللازم قبل قبولها أو ردِّها.
كان ذلك عبر مسلك علمي ينبِّهُ طالبَ الحق لضرورة الرجوع إلى الأمهات وفهم المدلولات، وقراءة الأصول قراءة تحقيق، مع إضافات غالية نفيسة، بسطتها بنان العلامة الأمير رحمه الله تعالى.
(ج)
ومن اللازم قراءة " ثمر الثُّمام " بوعي واستيعاب، والأخذ بنصائحه ووصاياه في العودة إلى مآخذ العلم وأصوله، فمن صدر عن الأصول تصدَّر، ومن رضي بهزيل فهمه وقطع نسبته هوى وخسر.
(ر)
ولقد نالت دار المنهاج سعادة غامرة عندما قام الأستاذ عبد الله العتيق بتقديم " ثمر الثمام " لها ليخرج إلى عالم النور، فزادت إلى عنايته عناية، حيث استقدمت المزيد من النسخ الخطية لكل من " غاية الإحكام " و" ثمر الثمام "، ودفعت به إلى لجنتها العلمية، التي أعادت مقابلته ودراسته، وركَّنتْ له المقدمات المناسبة من ترجمة لمؤلِّفَيْهِ، وكلمة عن موضوعه، وحلَّته بمزيدٍ مِنَ التعليقات العلمية المفيدة.
1 / 9
فكان لدار المنهاج يد بيضاء في خدمة الكتاب تضاف لما صنعه الأستاذ العتيق.
وفَّى الله تعالى جميع العاملين فيه خيرًا وأجرًا سائلين المولى الكريم النفع العميم، والإخلاص في القول والعمل إنه سبحانه القريب المجيب.
الناشر
1 / 10
ترجمة
العلامة الفقيه المحدث
عمر بن علي بن يحيى الطحلاوي
رحمه الله تعالى
صاحب المتن: " غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام "
اسمه ونسبه
الشيخ الإمام الثبت، العلامة الفقيه المحدث: عمر بن علي بن يحيى بن مصطفى الطحلاوي، المالكي، الأزهري.
ونسبته الطحلاوي - كما ذكر العلامة الزبيدي في " التاج " - هي إلى قرية تدعى: (طحلاء)، مشرفة على النيل من أعمال الشرقية، وذكر الشارح في كتابنا هذا أنها نسبة إلى قرية تدعى: طحلة.
ونعته المؤرخ الفاضل المرادي بالمعمر (١)، ولم تذكر سنة ولادته، غير أنه في عام (١١٤٧ هـ) كان له شأن عظيم وصل إلى دار السلطنة (٢).
شيوخه
للعلامة الطحلاوي " ثبت " نسبه له بصري المكناسي في " ثبته "، وحلاه الحافظ الزبيدي في " معجمه " بالإمام الثبت العلامة (٣).
_________
(١) سلك الدرر (٣/ ١٩٣).
(٢) عجائب الآثار (٢/ ٢٥٦).
(٣) فهرس الفهارس (١/ ٤٦٨).
1 / 11
تفقه على الشيخ سالم النفراوي، وحضر دروس الشيخ منصور المنوفي، والشهاب ابن الفقيه، والشيخ محمد الصغير الورزازي، والشيخ أحمد الملوي، والشبراوي، والبليدي.
وسمع الحديث عن الشهابين أحمد البابلي والشيخ أحمد العماوي، وأبي الحسن علي ابن أحمد الحريشي الفاسي (١).
وأخذ عن العلامة العدوي الصعيدي كما ذكره في كتابنا هذا وأشار إلى تلمذته عليه (٢).
فضله وعلمه
يقول المؤرخ الجبرتي ﵀: (وتمهر في الفنون، ودرَّس بالجامع الأزهر وبالمشهد الحسيني، واشتهر أمره، وطار صيته، وأشير إليه بالتقدم في العلوم.
وتوجه إلى دار السلطنة في مهم اقتضى لأمراء مصر، فقوبل بالإجابة، وألقا هناك دروسًا في الحديث في آيا صوفيا، وتلقى عنه أكابر العلماء هناك في ذلك الوقت، وصُرف معززًا مقضيًا حوائجه، وذلك في سنة سبع وأربعين ومئة وألف.
ولما تمَّمَ عثمان كتخدا القازدغلي بناء مسجده بالأزبكية في تلك السنة .. تعين المترجَم للتدريس فيه، وذلك قبل سفره إلى الديار
_________
(١) عجائب الآثار (٢/ ٢٥٦).
(٢) انظر (ص ١٢٢).
1 / 12
الرومية، وكان مشهورًا في حسن التقرير، وعذوبة البيان، وجودة الإلقاء، وأقرأ " الموطأ " بالمشهد الحسيني، وأفاد وأجاز الأشياخ) (١).
ويقول المؤرخ الفاضل المرادي ﵀: (وصار له الفضل العظيم، والعلم الغض، والفضل التام، وتصدر للتدريس والفتوى، وأقبلت عليه الأفاضل، وانتفعوا به.
فمن جملة من أخذ عنه: المحقق عبد الله بن حجازي الشرقاوي، ومحمد بن عبد المعطي الحريري، والشهاب أحمد بن يونس الخليفي، والسيد محمد أبو الأنوار الوفائي وغيرهم (٢).
وفاته
توفي العلامة الطحلاوي حادي عشر صفر، سنة (١١٨١ هـ)، وصُلِّي عليه بصباحه في الأزهر في مشهد حافل، ودفن بتربة المجاورين.
رحمه الله تعالى، ونَفَعَ بعُلومه .. آمين (٣)
_________
(١) عجائب الآثار (٢/ ٢٥٦).
(٢) سلك الدرر (٣/ ١٩٣).
(٣) سلك الدرر (٣/ ١٩٣)، عجائب الآثار (٢/ ٢٥٦)، فهرس الفهارس (١/ ٤٦٨).
1 / 13
ترجمة
العلّامة البحر المحقِّق
محمّد بن محمّد بن أحمد السَّنَاوي
الأمير الكبير
رحمة الله تعالى ١١٥٤ - ١٢٣٢ هـ
اسمه ونسبه
العلامة البحر العمدة، صاحب التحقيقات الرائقة، والتآليف البارعة الفائقة: أبو محمد (١)، محمد بن محمد بن أحمد بن عبد القادر بن عبد العزيز السَّنباوي الأزهري المالكي الشاذلي، الشهير بالأمير الكبير.
وقد أخبر المصنف عن نفسه أن أصله من المغرب، نزل بعض أجداده بمصر عند الشيخ عبد الوهاب أبي التخصيص (٢)، بناحية من قرى الصعيد غربي النيل تدعى: (سَنَبُو) (٣)، وإليها نسبته السنباوي.
إمام مالكي المذهب، شاذلي المشرب.
وسبب شهرته بالأمير هو لقب جده الأدنى أحمد، كان وأباه
_________
(١) كما أثبته المصنف نفسه في مقدمة " ثبته " المشهور، والذي وقف عليه غالب من ترجم للشيخ، وفي بعض إجازاتٍ كتبت للعلامة الأمير في هذا الثبت كنِّي بأبي عبد الله، وهو كذلك في " شجرة النور الزكية " (٢/ ٣٤٨).
(٢) عجائب الآثار (٧/ ٤٢١).
(٣) بفتح أوله وثانيه، ثم باء موحدة وواو ساكنة. (معجم البلدان) (٣/ ٢٦١).
1 / 14
عبد القادر لهما إمرة بالصعيد (١)، فكان العلامة الأمير يلقب بالأمير الكبير لهذه الشهرة، وولده الشيخ محمد من بعده لُقِّب بالأمير الصغير (٢).
ولادته ونشأته
ولد العلامة الأمير سنة (١١٥٤ هـ) بناحية سنبو المذكورة، ثم ارتحل مع والديه إلى مصر وهو ابن تسع سنين.
نشأ في حجْرِ والدٍ مفضال مقرىء، كان الشيخ الأول في حياته في تلقي كلام رب العالمين.
يقول الأمير عن نفسه وهو يتحدث عن القرآن المجيد: (نَشَأتْ في خدمته عزائمي، من قبل أن تناط عني تمائمي، ولله الحمد على ذلك، أماتنا الله عليه وأحياناَ عليه من كرمه، تلقيته عمَّن لا يحصى كثرة، منهم والدي رحمه الله تعالى، فقد كان من أجلاء حملته الذين يتلونه حق تلاوته (٣).
كان استقرار والده ﵀ في القاهرة وأزهرها يومها عامرٌ بأماثل العلماء في كل فن .. سببًا رئيسًا في إيقاف الصبي محمد الأمير نفسه على طلب العلم وشدِّ الهمة في السعي لتحصيله.
_________
(١) عجائب الآثار (٧/ ٤٢١).
(٢) معجم المؤلفين (٣/ ٦٧٠).
(٣) سدُّ الأرب (ص ١٧).
1 / 15
شيوخه ومقروءاته:
وضع العلامة الأمير ثبتًا جليلًا جمع فيه أعيان العلماء الذين لازمهم وعبَّ عنهم، على اختلاف تخصصاتهم ودرجاتهم.
ذكر العلامة الكتاني في " فهرس الفهارس والأثبات) (٢/ ١٠٩٢) أنه عثر على ظهر إحدى النسخ الموجودة بمصر مكتوبًا عليها اسم لهذا الثبت، وهو: " سدُّ الأرب في علوم الإسناد والأدب ".
وبالوقوف على هذا الثبت نجد الأمير رحمه الله تعالى يذكر عشرة من شيوخه ويقتصر عليهم ويقول: (ولنقتصر من ذكر الأشياخ على هؤلاء العشرة الكرام، وإن كان لنا غيرهم مشايخ عظام، عُمُدٌ فخام، لكن غالب أسانيدهم عن الأخذ عمَّن ذكرنا (١).
وهؤلاء الأشياخ هم:
- الإمام العلامة نور الدين، أبو الحسن، علي بن أحمد الصعيدي العدوي المالكي، المتوفى سنة (١١٨٩ هـ):
قال فيه: (لازمته رحمه الله تعالى ما يفوق على عشرين سنة في كتب المعقول والمنقول إلى أن مات، ففي الحقيقة نسبتنا إليه، وجل انتفاعنا على يديه رضي الله تعالى عنه (٢).
وهو المراد عندما يطلق الأمير في كتبه نحو: (قال شيخنا)، وهو شيخ العلامة الطحلاوي كذلك.
_________
(١) سد الأرب (ص ١٦).
(٢) سد الأرب (ص ٥).
1 / 16
وقد أجازه الشيخ العدوي إجازة أثبتها الأمير في " ثبته " المذكور.
- العلامة الأستاذ محمد بن أحمد البليدي المالكي، المتوفى سنة (١١٧٦ هـ):
قال فيه: (وهو من مشايخ شيخنا المتقدم، بل ومن مشايخ مشايخه (١).
تلقى عنه الأمير: " الأربعين النووية "، و" قصة المولد الشريف " جمع الشيخ النجم الغيطي، و" شرح السعد على عقائد النسفي "، وأجازه رحمه الله تعالى.
- العلامة المسند التاودي بن سودة المالكي، المتوفى سنة (١١٩٢ هـ):
قال فيه: (حضرت عليه في " الموطأ " بالجامع الأزهر عام حجه، وحضره فيه كثير من المدرسين، مالكية وغيرهم، وأجازني إجازة عامة (٢).
- العلامة المسند نور الدين، أبو الحسن، علي بن محمد العربي بن علي العربي السقاط المالكي، المتوفى سنة (١١٨٣ هـ):
سمع منه " الموطأ " بتمامه، و" البخاري " من باب الجنائز إلى آخره، وجملة كبيرة من أول " مسلم "، وأجازه بإجازة أثبتها في " سد الأرب " (٣).
_________
(١) سد الأرب (ص ٧).
(٢) سد الأرب (ص ٨).
(٣) سد الأرب (ص ٩).
1 / 17
- العلامة حسن بن إبراهيم الجبرتي، المتوفى سنة (١١٨٨ هـ):
قال فيه: (حضرت عليه مجالس في فقه الحنفية، وعنده رحمه الله تعالى كان اشتغالنا بالعلوم الحكمية، كالهندسة والهيئة والميقات والأوفاق وغير ذلك) (١) ثم أثبت إجازته منه رحمه الله تعالى.
- العلامة الأديب، جمال الدين، يوسف بن سالم الحفني، المتوفى سنة (١١٧٨ هـ):
ويقال: الحفناوي، قال فيه: (حضرته في " شرح ملا حنفي على آداب البحث " للعضد، وفي " قصيدة: بانت سعاد "، وفي غير ذلك، وأجازنا رحمه الله تعالى " (٢).
- العلامة المحقق العارف، أبو عبد الله، بدر الدين، محمد بن سالم الحفني، المتوفى سنة (١١٨١ هـ):
وهو أخو الشيخ يوسف السابق، وقد أثنى عليه الأمير في " ثبته " ثناء حسنًا، قال فيه: (حضرته في مجالس من " الجامع الصغير " و" النجم الغيطي في مولده ﷺ "، وفي متن " الشمائل " للترمذي، ومات رحمه الله تعالى أثناء قراءتها، وتلقنت عليه الذكر من طريق الخلوتية، وأجازني إجازة عامة) ثم أثبت صورتها في " ثبته " (٣).
_________
(١) سد الأرب (ص ١١).
(٢) سد الأرب (ص ١٣).
(٣) سد الأرب (ص ١٣).
1 / 18
- شيخ الإسلام، شهاب الدين، أحمد بن الحسن الجوهري الكبير، المتوفى سنة (١١٨١ هـ):
قال فيه: (حضرته في " الشيخ عبدالسلام على الجوهرة "، وسمعت منه الحديث المسلسل بالأولية، وتلقيت عنه طريق الشاذلية من سلسلة مولاي عبد الله الشريف، وأجازني رحمه الله تعالى (١).
- الإمام العلامة، أبو العباس، أحمد بن عبد الفتاح الملوي، المتوفى سنة (١١٨١ هـ):
أدركه بعد انقطاعه عن التدريس، وراجعه في مسائل شتا في عدة مجالس، وكان إذ ذاك مُقعدًا، وكُتِبَ للأمير إجازة بإذنه، أثبت صورتها في " ثبته " (٢).
- العالم الفاضل عطية الأجهوري، المتوفى سنة (١١٩٤ هـ):
قال فيه: (حضرته في " المختصر " لسعد الدين التفتازاني على " تلخيص المفتاح " وفي " تفسير الجلالين "، وفي " شيخ الإسلام على الجزرية "، وفي " شرح سيدي محمد الزرقاني على البيقونية ") (٣).
وأما عن مقروءاته التي أسندها:
فهي كثيرة ومتنوعة.
ففي القراءات: قرأ بالسبع من طريق " الشاطبية " و" الدرة،
_________
(١) سد الأرب (ص ١٤).
(٢) سد الأرب (ص ١٥).
(٣) سد الأرب (ص ١٦).
1 / 19
و" الطيبة " ثلاث ختمات على الشيخ المقرىء محمد بن حسن المنيِّر.
وفي كتب السنة: فقد روى " الموطأ " كاملًا عن المحدث المسند شيخه السقاط، وله أسانيد فيه عديدة.
وروى " البخاري " عن العلامة العدوي الصعيدي، وكان يُقرِئه بالأزهر قراءة دراية وتحقيق وإمعان وتدقيق.
وروى " مسلم " بسماع جلِّه عن الشيخ السقاط.
إلى غير ذلك من كتب المسانيد والمستخرجات والسنن، والأجزاء الحديثة، وكثير من المسلسلات، كما هو مثبت في " ثبته " رحمه الله تعالى.
وتجدر الإشارة هنا إلى اهتمام المترجم ﵀ بالتحقيق وإتقان الفهم، وتقديم ذلك على السرد والإكثار من المرويات، فبعد أن ذكر علُوَّ إسناده ورفعة رواياته .. ينبهنا ويقول:
(وقد حُررت المتون والأسانيد في كتب الأصول التي كثرت، وتلقيت بالقبول بحيث لا يخفى ذلك على من راجعه، والغرض المهم الآن: تحصيل آلات الدراية وإتقان الفهم، لا حفظ المتن والسند، خلافًا لمن مال إلى العكس، وقد بلغني عن بعض علماء تونس أنه قيل له: فلان يحفظ كتاب كذا بأسانيده!! فقال: وماذا حصل؟ غايته أنه زِيد في مدينة تونس نسخة من ذلك الكتاب) (١).
_________
(١) سد الأرب (ص ٢٦).
1 / 20
ثم سرد أسانيده إلى مؤلفي كتب التفسير، وعلم الكلام، والسير والمغازي، وإلى أصحاب التصانيف العلمية في علوم شتى، كأصول الفقه، والنحو، وعلوم البلاغة، والأدب، ثم ختم ذلك بكتب التصوف والأخلاق.
مكانة العلامة الأمير العلمية
قال عنه المؤرخ الجبرتي ﵀: (إليه انتهت الرئاسة في العلوم بالديار المصرية، وباهت مصر ما سواها بتحقيقاته البهية، استنبط الفروع من الأصول، واستخرج نفائس الدرر من بحور المعقول والمنقول، وأودع الطروس فوائد وقلدها فرائد) (١).
لقد أخذ العلامة الأمير ﵀ عن الجلَّة من أهل العلم في عصره، وأجازوه إجازة عامة، وشهدوا له بالعلم والفضل (٢)، وقد ألَّف المترجَم فهرسةً حافلة أتى فيها على تفصيل روايته عن هؤلاء الأعلام، والكتب المؤلفة في شتى الفنون والعلوم، وطرق سندها إلى مؤلفيها وأسمائهم ووفياتهم.
ونحن أمام نصَّين شريفين يدلاَّن على المتانة العلمية التي حظي بها هذا الإمام العظيم، ونال بها الرفعة عند أهل عصره.
فمن يطالع أسماء أعلام شيوخه الذين أخذ عنهم وعبَّ من علومهم .. رأى أسماء جليلة، وصدور أئمة بالعلم مشحونة، لها من المؤلفات
_________
(١) عجائب الآثار (٧/ ٤٢١)، حلية البشر (٣/ ١٢٦٧).
(٢) عجائب الآثار (٧/ ٤٢٠).
1 / 21
العلمية التي تشهد بذلك كله، ومع هذا يقول الجبرتي ﵀ عن علامتنا الأمير: (ومهر وأنجب، وتصدَّر لإلقاء الدروس في حياة شيوخه!! ونما أمره، واشتهر فضله خصوصًا بعد موت أشياخه) (١).
أنْ يتصدَّر الشيخ للتدريس في حياة أشياخه وهم من هم!! هذا أمر ليس بالهين، فمن قرأ ترجمة العلامة العدوي الصعيدي، والعلامة البليدي والتاودي والنفراوي وغيرهم .. علم عظم هذه الكلمة في حقِّ العلامة الأمير رحمه الله تعالى.
ويقول المؤرخ الجبرتي ﵀ في حقِّه كذلك: (كان شيخه الصعيدي إذا توقف في موضع .. يقول: هاتوا " مختصر الأمير "!! وهي منقبة شريفة) (٢).
والعلامة الصعيدي العدوي إمام المالكية في عصره وصاحب " شرح مختصر خليل " الذي تتهافت عليه الأيدي، ومع ذلك إذا توقف في موضع .. عاد لتحرير الأمير، تلميذه النجيب الذي لازمه أكثر من عشرين سنة!!
فمن أي الأمرين العجب؟ أمن تقدُّمِ العلامة الأميرِ وحسن تحريراته، أو من إنصاف العلامة العدوي وكرم نفسه؟!
ولم يكن هذا الأدب الجمُّ من العلامة العدوي ليُطمعَ علامتنا الأمير
_________
(١) عجائب الآثار (٧/ ٤٢١).
(٢) عجائب الآثار (٧/ ٤٢٢)، وهذا المختصر الذي يتحدث عنه العلامة العدوي متن سماه:
" المجموع " حاذى فيه " مختصر خليل "، جمع فيه الراجح من المذهب، وشرحه شرحا نفيسًا.
1 / 22
في إهدال مقام الشيخ، بل هو العكس، فانظر إليه في مقدمة كتابه " مطلع النيرين " وهو يذكر مسألة رفعت للشيخ العدوي في الكلام على القدرتين، خط أصلَها ودفعها للأمير يتمم طرزها، فيقول الأمير:
(دفع إليَّ مسوَّدَةَ الجواب التي نمقتْها يدُهُ الكريمة، وأفادني أمورًا باللسان من عباراته النظيمة، وأمرني بضمِّ ذاك لذلك فامتثلتُ للخدمة ...، وحيثُ سمعتَ أيها الألمعي الأديب، والسمدعي اللوذعي اللبيب لفظَ: " أقول " أو " قلت " .. فذلك كغيره للشيخ نفسه، وكلما استحسنَهُ طبعُك الكريم وذهنك المستقيم .. فهو منه وإليه، وغيره ناشىء عن قصوري في جمعي، أو سوءِ تحملي لديه) (١).
مسلكه التربوي والأخلاقي
كان علامتنا الأمير ﵀ كما تصفه كتب الترجمات - رقيق القلب، لطيف المزاج، ينزعج طبعه من غير انزعاج، يكاد الوهم يؤلمه، وسماع المنافر يوهنه ويسقمه (٢)، وكل هذا وصْفٌ يدل على نبْلٍ في الطبع وصفاء في الروح.
وهو على إمامته في علوم العربية والأصلين، بل وعلوم الشريعة عمومًا .. كان أميرَ قلم أدبي بَليل، ونفْس رقيقة شفافة، وصاحب لُطف وظَرْف ممزوج بالتواضع والأدب.
_________
(١) مطلع النيرين (ص ٥)، وانظر ترجمة المؤلف لشيخه العدوي في كتابنا هذا (ص ١٢٢).
(٢) عجائب الآثار (٧/ ٤٢٢).
1 / 23
ولعل مسلكه التربوي الأخلاقي كان من أهم العوامل لتكوين هذه الشخصية العلمية الأدبية الفذَّة.
فقبل أن يجري عليه القلم طابت أنفاسه بصحبة أهل العرفان، وزكت نفسه بزكي نفوسهم، فما زال يتقلب في روضاتهم، ويحظى بأريج ورودهم وأورادهم.
يحدثنا ﵀ عن ذلك فيقول: (أول من أخذ علي العهد في ذلك - أي: تلقين الذكر - ولقنني: الأستاذ الحفني، بمقتضى أخذه في طريقة الخلوتية، عن السيد مصطفى ابن كمال الدين البكري الشامي صاحب " ورد السحر " وغيره، وذلك قبل بلوغي، ثم تلقنت من جماعة كثيرة، منهم شيخنا العدوي على طريق الشناوية أواخر عمره، ومنهم شيخنا الشهاب الجوهري في الطريقة الشاذلية، وأجازني أن أجيز بها، قال:
ونرويها من طرق، منها طريق القطب مولاي عبد الله الشريف المسلسلة بالأقطاب (١).
ثم سرد أسانيده للسادة الوفائية الشاذلية، والعيدروسية، والنقشبندية، بل - كما قال - وجميع طرق السادة الصوفية (٢).
وقد قال عند ختم " ثبته " بكتب القوم: (وإنما أخرناها لأنها الزبدة والمنتهى، فإن الشريعة علم الشرع، والعلوم الآلية وسائلُ لفهمه،
_________
(١) سد الأرب (ص ٢٦٣)، وكلٌّ من شيخه المحدث السقاط والعلامة التاودي ابن سودة من رؤوس الشاذلية.
(٢) سد الأرب (ص ٢٦٥).
1 / 24