شرح الأصول الثلاثة - المقدمة
بدأ المصنف رحمه الله تعالى في كتابه الأصول الثلاثة بمقدمتين يمهد بهما الأصول الإسلامية التي سيذكرها، وهاتان المقدمتان اشتملتا على أهم المسائل الواجب على العبد تعلمها ومعرفتها، وهي: العلم والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، ثم بيان الغاية من خلق الإنسان، وهي العبادة، وأنه ما خلق الإنسان عبثًا.
1 / 1
تعريف بكتاب الأصول الثلاثة ومؤلفه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي هذا الدرس سنقرأ إن شاء الله رسالةً من مؤلفات الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وهذه الرسالة رسالة عظيمة كثيرة الفوائد ألفها ﵀ لبيان ما يحتاج إليه كل مؤمن ومؤمنة، وكل مسلمٍ ومسلمة، وسمى هذه الرسالة (ثلاثة الأصول)، وهي معروفة بهذا الاسم، أو باسم (الأصول الثلاثة)، بين فيها ما يجب معرفته مما يتعلق بالله ﷿، ومما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومما يتعلق بدين الإسلام، وأكثر من ذكر الأدلة في ثنايا هذه الرسالة المباركة ليتبين بذلك أن ما يدعو إليه منبثق من الكتاب والسنة، وأنه معتمد عليهما، لاسيما أن الشيخ ﵀ واجه في دعوته خصومًا ألداء شنعوا عليه وعابوا ما جاء به من دعوة المرسلين، وألصقوا به تهمًا عديدة، ولكن الحق أبلج، والباطل لجلج، فمهما كانت هذه الدعاوى فإنها تتساقط وتتلاشى أمام الحجج والبراهين، وليست المسألة إلا دعاوى فارغة عن مضمونها لا تستند إلا إلى هوى صاحبها أو انحرافه، فكل من ناوأ هذه الدعوة لم يأتِ بشيء يستند إليه ويعتمد عليه فيما ذهب إليه.
فالمهم أن هذه الرسالة رسالة لطيفة موجزة، يحتاج إلى العلم بها كل مسلم، وقد رأينا أن نقرأها عل الله ﷿ أن ييسر ختمها؛ لينتفع بها الإخوة القارئون لهذه الدروس، ويرجعوا بمتنٍ من متون العلم، ورسالة من الرسائل المتعلقة بما هو أهم مطلوب من المؤمن، وهو إفراد الله بالعبادة.
1 / 2
الأربع المسائل التي يجب على الأمة تعلمها
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀ في كتابه الأصول الثلاثة: [بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اعْلمْ رَحِمَكَ اللهُ أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل: الأُولَى: الْعِلْمُ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ، وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
الثانية: العمل به.
الثالثة: الدعوة إليه.
الرَّابِعَةُ: الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيهِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:١-٣] .
قَالَ الشَّافِعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إِلا هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ.
وَقَالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد:١٩] فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ قَبْلَ القَوْلِ والعمل)] .
1 / 3
رفق المؤلف بالمستمع وحرصه على تعليمه
افتتح الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀ هذه الرسالة المباركة بالبسملة كسائر رسائل أهل العلم ومؤلفاتهم، وذلك تأسيًا بكتاب الله ﷿، واتباعًا لسنة النبي ﷺ، وجريًا على ما سلكه سلف هذه الأمة من التيمن بالبداءة بذكر الله جل وعلا واسمه ﷾.
والبسملة؛ الكلام عليها معروف ومتكرر، وجعل بين يدي رسالته ومقصوده من بيان الأصول التي يجب تعلمها مقدمتين: المقدمة الأولى: بين فيها ما يجب على كل أحد تعلّمه، وهذه مقدمةٌ تمهيدية يحثّ فيها مطالعَ هذه الرسالة على لزوم الصراط الذي يكفل له النجاة، فهي تمهيد وتوطئة لما يريد بيانه في هذه الرسالة، فقال ﵀: [اعلم رحمك الله]، وهذا من لطفه وحسن تأليفه ورفقه بمن يتعلم، فدعا للمتعلّم سواءٌ أكان قارئًا أم مستمعًا بالرحمة، وهذا منهج مهم وطريق لابد من التنبه إليه، وهو أن يكون المعلِّم والداعية إلى دين الله ﷿ شفيقًا رحيمًا، وأن يشعر من يدعوه أنه يريد به الخير والهدى، ويريد أن يخرجه من الظلمات إلى النور؛ فإن هذا الأسلوب من أسباب قبول الدعوة، ومن أسباب قبول العلم، ولذلك قال الله جل وعلا في رسوله: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران:١٥٩]، وينبغي أن يكون الداعية إلى دين الله ﷿ رءوفًا رحيمًا، كما قال الله جل وعلا في حق نبيّه ﷺ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١٢٨]، فهذا وصفه الذي وصفه الله به، ولذلك أسر القلوب ﷺ، وانقادت له الأفئدة قبل الأبدان.
قال ﵀: [اعْلمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أربع مسائل] فهذه مسائل من العلم العيني الذي يجب على كل أحدٍ؛ لأن العلم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: علم عيني يجب على كل أحدٍ تعلمه.
والقسم الثاني: علم كفائي يجب على من تقوم بهم الكفاية تعلمه.
وضابط العلم العيني هو: ما لا يقوم دين المرء إلا به سواءٌ في العقائد، أو في الأعمال، أو في الأقوال.
فما لا يستقيم دينك إلا به يجب عليك أن تتعلمه مما يتعلق بعلوم الاعتقاد أو مما يتعلق بالعمل أو مما يتعلق بالقول.
1 / 4
المسألة الأولى: العلم
يقول ﵀ في بيان هذه المسائل الأربع: [الأولى: العلم] ثم بين ما هو العلم الذي يجب تعلمه على كل أحد فقال: [وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة] .
فمعرفة الله واجبة على كل أحد، وهي أمر جبلت عليه القلوب، وفطرت عليه الأفئدة، فالناس مفطورون مجبولون على التعبد لله ﷿، ولا يمكن أن يعبدوه إلا إذا عرفوه، فبكمال المعرفة يحصل كمال العبودية، فكلما ازداد العبد علمًا بالله ﷿ ومعرفةً به ﷾ ازداد عبوديةً له ﷾، والعلم بالله والمعرفة به أصل العلوم والمعارف؛ لأن العلم به يتحقق مقصود الوجود، والمقصود من الخلق، كما قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، وسيأتي تفصيل ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى في كلام الشيخ.
الثاني: معرفة نبيه، والمقصود بالنبي هنا: هو نبينا محمد ﷺ، وذلك أن معرفة النبي ﷺ بها يعرف الشرع؛ لأنه الرسول الذي أرسله الله ﷿ إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، فيجب معرفة النبي ﷺ، ومعرفته تكون من خلال سنته، ومن خلال الدلائل الدالة على صدقه وعلى صحة ما جاء به.
الثالث من المعارف -كما قاله المؤلف رحمه الله تعالى-: معرفة دين الإسلام بالأدلة.
والمقصود بدين الإسلام أي: العمل الذي جاء به الإسلام من أحكامه وشرائعه العينية، وذلك في الأصول التي يجب على كل أحدٍ أن يقرّ بها حتى يكون مؤمنًا، وهي ما تضمنه حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمدًا رسول الله -وهذان تقدما-، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ البيت من استطاع إليه سبيلًا) .
فهذه أصول الأعمال في دين الإسلام، فيجب معرفتها بالأدلة، ومعرفة هذه الأعمال تختلف درجتها باختلاف حال الناس، فالصلاة يجب معرفتها على كل واحدٍ من أهل الإسلام، وأما الحج فإنه لا يجب معرفته تفصيلًا إلا على من أراد أن يحج ممن استطاع؛ لأنه واجب على المستطيع فقط، فالمعرفة لدين الإسلام تتفاوت وتختلف باختلاف أحوال الناس.
1 / 5
المسألة الثانية: العمل بالعلم
المسألة الثانية: (العمل به) .
والضمير في قوله: [به] عائد إلى العلم، وذلك أن العلم إنما يراد للعمل، فمن كان علمه عونًا له على العمل فقد حقق المقصود من العلم وطلبه، ومن كان مقصوده من العلم جمع المعلومات وتكثيرها لا للعمل به فيخشى أن يكون داخلًا في قول الله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ [التكاثر:١]؛ لأنه حجة على صاحبه كما قال النبي ﷺ: (القرآن حجة لك أو عليك)، وإنما يكون حجة عليك إما بالإعراض عنه وعدم رفع الرأس به، وإما بالإقبال عليه دون العمل بما تضمنه من الأحكام والتوجيهات، فهو حجة على من قرأه وحفظه ثم هجره في عمله وقوله واعتقاده.
1 / 6
المسألة الثالثة: الدعوة إلى العلم والعمل
المسألة الثالثة: (الدعوة إليه) والضمير يعود إلى المتقدم من العلم والعمل، وذلك أن النبي ﷺ أرسله الله بالهدى ودين الحق، والهدى: هو العلم النافع، ودين الحق: هو العمل الصالح وإليهما دعا رسول الله ﷺ، فدعا إلى العلوم النافعة، ودعا إلى الأعمال الصالحة التي هي ثمرة العلم، فالدعوة إليه تعود إلى الأمرين المتقدمين.
1 / 7
المسألة الرابعة: الصبر على الأذى
المسألة الرابعة: (الصبر على الأذى فيه) يعني: في العلم والعمل والدعوة إليه، فالضمير يعود إلى جميع ما تقدم، فالإنسان بحاجةٍ إلى أن يصبر حتى يتعلم، وبحاجةٍ إلى أن يصبر ليعمل، وبحاجةٍ إلى أن يصبر ليدعو، والصبر في الأصل هو حبس النفس عن محبوباتها ومنعها من ذلك، والصبر -أيها الإخوة- شأنه عظيم، ولذلك أكثر الله جل وعلا من الأمر به، والثناء على أهله في كتابه، فما من خلةٍ حميدةٍ ولا خصلةٍ فاضلةٍ ولا خلقٍ كريم ٍولا سجايا صالحةٍ ولا أعمال برٍّ وحسناتٍ إلا ومنشؤها الصبر، ولذلك كان الصبر أفضل ما يوفق إليه العبد، قال النبي ﷺ: (وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر) .
ومعلوم أن العلماء قسموا الصبر إلى ثلاثة أقسام: الأول: الصبر على طاعة الله.
الثاني: الصبر عن معصية الله.
الثالث: الصبر على أقدار الله.
وأفضلها وأشرفها وأكبرها منزلةً هو الصبر على طاعة الله، والفضل لها جميعًا ثابت، قال تعالى: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [النساء:٩٥]، فينبغي للمؤمن أن يحرص على تحقيق الصبر في جميع هذه الأمور.
1 / 8
الدليل على المسائل الأربع الواجب تعلمها
بعد أن فرغ المؤلف ﵀ من ذكر هذه المسائل الأربع التي يجب تعلمها على كل أحدٍ قال: [وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:١-٣] .
وهذا هو الدليل على وجوب تعلّم هذه المسائل، وهذه السورة هي سورة العصر، افتتحها الله جل وعلا بالقسم بالزمان الذي هو محل الأعمال، فقوله: ﴿وَالْعَصْرِ﴾ الواو للقسم، والعصر هو المقسم به، والله جل وعلا يقسم بما شاء من مخلوقاته، فهو ﷾ يقسم بنفسه وبصفاته وبأفعاله، ويقسم بما شاء من مخلوقاته، ومن ذلك القسم ما أقسم به هنا، حيث أقسم ﷾ بالعصر وهو الزمان لبيان شرفه وعظم مكانته، ثم أتى بجواب القسم بقوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، والإنسان هنا المراد به جنس الإنسان، فيشمل كل من اتصف بهذا الوصف.
(لَفِي خُسْرٍ) الخسر: ضد الربح، أي: لفي خسارة كخسارة التجار في أرباحهم، وقال: (لَفِي خُسْرٍ) ولم يقل: (خاسر) ليبين إحاطة الخسر به من كل مكان، فإن (في) تفيد الظرفية، فالخسر محيط بالإنسان من كل جوانبه، وفي القسم على هذا الأمر، وفي تأكيده بـ (إنَّ) التي تفيد التوكيد في قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ دلالة واضحة على عظم الأمر، وأن الله أراد من هذا القول: شحذ الهمم للانفكاك من أسباب الخسارة، والأخذ بأسباب النجاة؛ فإن الله ﷾ بعد أن أقسم على هذا الأمر -وهو خسارة جنس الإنسان- بيَّن السبيل والطريق الذي يتخلص به الإنسان من هذه الخسارة.
والخسارة على درجات، فالخسارة المطلقة هي خسارة من خسر الدنيا والآخرة نعوذ بالله من ذلك، ودونها دركات كبيرة وكثيرة من الخسارة، لكن طريق النجاة موصوف وصفًا واضحًا بينًا في هذه السورة الكريمة في الاستثناء الذي ذكره الله ﷿ في قوله: (إلَّاْ الَّذِينَ آمَنُوا)، ولم يبين في الآية ما الذي يُؤمن به ليعم جميع ما يجب الإيمان به، فيكون المعنى: إلا الذين آمنوا بكل ما يجب الإيمان به مما يتعلق بالله ﷿، ومما يتعلق بملائكته، وما يتعلق بكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره وهل يمكن أن يتحقق الإيمان بلا علم؟ لا يمكن أن يكون إيمان بلا علم، فالإيمان فرع العلم وثمرته، ولذلك قال المؤلف ﵀ في المسائل التي تجب: الأولى: العلم ودليل العلم قوله تعالى: (إِلَّاْ الَّذِينَ آمَنُوا)، والدلالة على هذا باللازم، فاستثناء الذين آمنوا يدل لزامًا على وجوب العلم، فهذه دلالة باللازم؛ لأنه لا يمكن أن يحصل إيمانٌ إلا بعلم، فمن لوازم الإيمان أن يكون صاحبه عالمًا.
1 / 9
دليل وجوب العمل بالعلم
وقوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هذا الوصف الثاني من الأوصاف التي علق عليها النجاة من الخسارة، والصَّالِحَاتِ تشمل كل عمل صالح ظاهرٍ أو باطن، واجبٍ أو مستحب، من حقوق الله أو من حقوق عباده، كل هذا يدخل في قوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وانظر كيف أخّر العمل عن العلم؛ لأنه لا يمكن العمل الصالح إلا بعد الإيمان الذي لا يحصل إلا بالعلم النافع.
1 / 10
دليل الدعوة إلى العلم والعمل
ثم بعد أن ذكر هذين الوصفين ذكر وصفًا ثالثًا -وهو دليل المسألة الثالثة التي يجب علينا تعلمها- وهو الدعوة إليه، قال: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) أي: أوصى بعضهم بعضًا بالحق، والتواصي بالحق من صور وأنواع العمل الصالح، وإنما نص عليه وذكره لأهميته وأثره في حصول النجاة، ولئلا يظن الظانُّ أنه باستكثاره من الأعمال الصالحة في نفسه يحصل له النجاة وإن أهمل من يجب عليه نصحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولذلك جاء النص على التواصي بالحق مع أنه من الأعمال الصالحة.
والتواصي بالحق يشمل أن يوصي الإنسان نفسه بالحق، ويأمرها بالمعروف، وينهاها عن المنكر، وكذلك يشمل أن يكون ذلك مع غيره ممن يعايشهم، سواءٌ أكانت له ولاية عليهم، أم لم تكن له ولاية عليهم، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حق أهل الإيمان بعضهم على بعض.
1 / 11
دليل الصبر على الأذى
الوصف الرابع الذي تحصل به النجاة: قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) أي: أوصى بعضهم بعضًا بالصبر، وأي أنواع الصبر؟ أنواع الصبر كلها، والتي هي الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على أقدار الله تعالى، وهذا الأمر في هذه الآية (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) داخل في الذي قبله، فإن التواصي بالصبر من التواصي بالحق، وخصه بالذكر لأهميته وعظم أثره في تحقيق النجاة والسلامة من الخسارة، وإن كان داخلًا مندرجًا فيما تقدم من العمل الصالح والتواصي بالحق، وبقدر ما يتصف الإنسان بما ذكر من الأوصاف في هذه السورة يحصل له بقدر ذلك من النجاة، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر، وإذا علم العبد المؤمن ذلك حرص أن يستكثر من هذه الصفات وأن يزداد منها؛ لأنه بها يحصل له الفوز والسلامة من الخسارة المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، وهذه الآية واضحة الدلالة على ما تقدم من وجوب تعلم هذه المسائل، ووجه ذلك أن إنجاء النفس من الخسار واجب، وقد بين الله ﷾ طريق ذلك، وهو ما تضمنه الاستثناء في قوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، فدل ذلك على وجوب تَعَلُّم هذه المسائل الأربع التي يتحقق بها للمرء السلامة في الدنيا والآخرة.
قال الشافعي ﵀: (لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلا هذه السورة لكفتهم)، وهذا لا يعني أن ما زاد على هذه السورة لا حاجة إليه، وإنما مراد الشافعي أن هذه السورة كافية شافية في بيان طريق النجاة، وإلا فأهل الإسلام بحاجةٍ إلى كل حرف نزل في كتاب الله ﷿، ليس لهم عنه غنية ولا بهم عنه كفاية، بل هم محتاجون إلى كل حرفٍ في كتاب الله ﷿، ولذلك كان من أعظم ما أصيبت به الأمة بوفاة النبي ﷺ هو انقطاع الوحي عن نبي الأمة، فمراد الشافعي ﵀ بقوله: (لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلا هذه السورة لكفتهم) في بيان طريق النجاة والسلامة من الخسارة التي اتصف بها الإنسان.
1 / 12
تقديم الله للعلم قبل القول والعمل
ثم قال ﵀: [وقال البخاري ﵀: (بابٌ: العلم قبل القول والعمل] .
فلابد من العلم قبل العمل، وأيّ عملٍ لا يبنى على علم فهو لا يزيد صاحبه من الله إلا بعدًا؛ لأنه إحداث وابتداع وضلال.
ثمّ قال: [(والدليل - أي: على وجوب تقديم العلم على العمل - قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد:١٩])] .
سئل سفيان بن عيينة ﵀ عن فضل العلم فقال: ألم ترَ كيف بدأ الله بالعلم؟ يعني: في قوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾، فيكفي في بيان فضل العلم أن الله بدأ به قبل العمل، فالواجب على المؤمن أن يحفل بالعلم، وأن يجتهد فيه، ويبذل فيه مهجته ووقته وعمره، وألا يبخل عليه بشيء؛ لأن العلم تزكو به الأخلاق، وتصلح به الأعمال، ويرفع الله به ذكر العبد في الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين) .
والمراد أنه يرفع به من أقبل عليه وأخذ به حفظًا وعلمًا وعملًا وتعلمًا وتدبرًا وغير ذلك مما يكون في كتاب الله ﷿.
قال: (فبدأ بالعلم قبل القول والعمل)، وبهذا يكون الترتيب الذي ذكر المؤلف ﵀ ترتيبًا دل عليه الكتاب وقول السلف؛ لأن قوله: [وقال البخاري] هذا في موضع الاستدلال على ترتيب هذه المسائل، أما أصل هذه المسائل فقد دل عليها الدليل من سورة العصر، وأما الترتيب فإنه جاء في قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ﴾، وقول البخاري رحمه الله تعالى.
1 / 13
المقدمة الثانية في باب ما يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمه من المسائل
قال رحمه الله تعالى: [اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مسلم ومسلمة تعلم هذه المسائل الثلاث والْعَمَلُ بِهِنَّ: الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ [المزمل:١٥-١٦] .
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدُ فِي عِبَادَتِهِ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن:١٨] .
الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة:٢٢]] .
هذه هي المقدمة الثانية التي قدم بها الشيخ ﵀ ذكر الأصول الثلاثة، وهو ذكْره ﵀ لمسائل يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها، وهو أيضًا بيان لأولى المراتب، في قوله: [الأولى: العلم] يعني: من أول ما يجب تعلمه على الإنسان هي هذه المراتب الثلاث التي ذكرها ﵀، حيث قال: [اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مسلم ومسلمة تعلم هذه المسائل الثلاث والعمل بهن] .
فليس العلم فحسب هو المطلوب، بل العلم والعمل معًا؛ لأن العمل هو المقصود.
1 / 14
الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَلَمْ يَتْرُكْنَا هملًا
قال ﵀: [الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا، فَمَنْ أَطَاعَهُ دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار] .
ثم ذكر الدليل على ذلك.
أما: أن الله خلقنا فلا يرتاب في ذلك مؤمن، بل هذا مما فطر الله عليه الناس، وهو من مستلزمات وأفراد توحيد الربوبية، فالواجب الإقرار بأن الله هو الخالق، ولا يوجد أحد يعارض في هذا؛ فإن الجميع مقرون بأن الله ﷾ خالق كل شيء، وكذلك الرزق، فهذا مما يجب الإقرار به في توحيد الربوبية؛ فإن توحيد الربوبية هو إفراد الله جل وعلا بالخلق والرزق والملك والتدبير، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ [يونس:٣١]، فهذه الآية هي الدليل على أن توحيد الربوبية لا يثبت ولا يقر إلا بالإقرار بأن الله ﷾ هو الخالق والرازق والمدبر، وهذا مما فطر الخلق عليه، وبدأ الشيخ ﵀ به تمهيدًا لما بعده، وإلا فلا معارضة ولا خلاف بين الناس في الإقرار بأن الله ﷾ هو خالقهم ورازقهم ومالكهم ومدبرهم.
ثم قال: [ولم يتركنا هملًا] ثم بين وجه ذلك فقال: [بل أرسل إلينا رسلًا] .
فإرسال الرسل دليل على عناية الله جل وعلا بخلقه، وأنه ﷾ لم يتركهم هملًا لا يُقصَدُون بشيءٍ من العبادة، ولا يُطلب منهم شيء.
ثم بين ما الواجب تجاه من أرسلهم الله ﷿ فقال: [فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النار]، والطاعة هنا المراد بها: الطاعة في الجملة، أي: في أصل ما جاءوا به، وأما في أفراد ما جاءوا به فمن أطاعهم دخل الجنة واستحقها، ومن عصاهم استحق النار، لكن قد يدخلها وقد لا يدخلها، أما في أصل ما جاءوا به من التوحيد فإنه من أطاعهم فيه دخل الجنة، ومن عصاهم فيه دخل النار كما دلت على ذلك الأدلة.
قال: [والدليل على هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا﴾ [المزمل:١٥]، وهذا دليل على أن الله لم يتركنا هملًا، بل أرسل إلينا رسولًا، فقال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ [المزمل: ١٥]، والخطاب هنا لمشركي مكة الذين بعث فيهم النبي ﷺ وكذبوه وعاندوه، فخاطبهم الله بهذا الخطاب قائلًا: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ [المزمل:١٥]، فهذا أمر ليس بجديد ولا محدث، ولستم ببدعٍ ممن سبق، بل جرت على هذا سنة الله أن يبعث إلى الناس من يدعوهم ويبصرهم بما يجب عليهم، وإنما نظَّر بفرعون لمشابهة مشركي مكة كفر فرعون؛ فإن فرعون كان كفره من جهتين: من جهة عبادة غير الله، ومن جهة الإباء والاستكبار، وكذلك الذين بُعث فيهم النبي ﷺ من مشركي مكة؛ فإنهم كانوا يعبدون غير الله، وكانوا يأنفون ويستكبرون عن اتباع النبي ﷺ، حتى قال الله عنهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف:٣١]، وذلك احتقارًا للنبي ﷺ؛ إذ لم يكن من أعلى أشرافهم فيما زعموا، ثمّ قال تعالى: ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ [المزمل:١٦] أي: أخذًا شديدًا ثقيلًا وهذا فيه التهديد لهم، وأنهم لن يتركوا هملًا، ولو كانوا متروكين هملًا لما أرسل إليهم رسولًا، ولما هددهم بهذا التهديد، وهو تهديد لكل من خالف الرسل فيما جاءوا به.
1 / 15
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ معه أحد في عبادته
قال رحمه الله تعالى: [الثانية -يعني: من المسائل التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها- أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ في عبادته أحد، لا ملك مقرب، ولا نبيّ مرسل، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن:١٨]] .
وجه الدلالة على أن الله لا يرضى بالشرك كائنًا من كان المشرك به أن الله جل وعلا قال: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾ هذا من جهة، ومن جهة أخرى تأكيدًا لهذا التوحيد قال: ﴿فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ فإثبات المساجد وهي محال العبادة لله ﷾ وحده لا شريك له، وتعقيب ذلك بالنهي عن دعاء غيره دليل على أن الله ﷾ لا يرضى أن يشرك معه غيره.
ويدل لذلك أيضًا قوله: ﴿وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر:٧] .
ودليل ذلك من السنة أن النبي ﷺ قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) .
وهذا دليل على أنه ﷾ لا يرضى أن يشرك معه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبيّ مرسل، فضلًا عن أن يشرك معه الأشجار والأحجار والأصنام، فإذا كان لا يرضى أن يشرك معه ملك وهو من أشرف الخلق ومن الخلق الغيبي الذي نعلمه، ولا نبيٌّ مرسل وهم أشرف جنسًا من بني آدم فكيف بالإشراك معه غيره ممن هو دونهم؟! لا شك أن الله ﷾ لا يرضاه بل يبغضه، وقد قال الله جل وعلا في بيان عقوبة من وقع منه الشرك: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة:٧٢]، وهذا فيه التهديد البليغ البين على هذا العمل، وفيه بيان عظم الشرك، وأنه أمر خطير كبير لا يرضاه الله، وإلا فلما توعد عليه بهذا الوعيد الشديد العظيم من تحريم الجنة والإخبار بدخول النار.
1 / 16
الثالثة: حرمة موالاة من حاد الله ورسوله ﷺ
ثم قال ﵀ في بيان المسألة الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ فلا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، ولو كان أقرب قريب] .
هذا من أصول الإيمان، فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وذلك أنه إذا وقر الإيمان في قلب العبد أحب ما يحبه الله، وأبغض ما يبغضه الله ﷾؛ والله ﷾ يحب التوحيد وأهله، ويبغض الشرك والكفر وأهله، فمن أحب أهل الشرك ووادّهم وتقرّب منهم فإنه قد حادّ الله ﷾، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة:٥١]، والموالاة مأخوذة في الأصل من: (ولي الشيء): إذا قرب منه والقرب يكون في الأصل بالقلب، ثم يتبعه قرب القول والعمل، والمنهي عنه هنا هو قرب القلب في المودة والمحبة، وقرب القول والعمل، ﴿إلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ [آل عمران:٢٨]، وإلا من استثناهم الله ﷿ في قوله: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة:٨]؛ لأن هذا من جملة الإحسان الذي كتبه الله على كل شيء.
فالبر والقسط مع الكفار ليس من الموادّة والموالاة التي حرمت، وهذه مسألة مهمة يجب التنبه لها؛ لأن المنهي عنه هو موالاة القلب لا البر والإحسان فيمن استثناهم الله ﷿ في هذه الآية.
ثم قال المؤلف ﵀ في الاستدلال على هذه المسألة: [والدليل -أي: الدليل على أنه لا يجوز مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانَ أقرب قريبٍ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [المجادلة:٢٢]، وافتتاح الآية بهذا النفي فيه التشويق إلى معرفة ما تضمنه قوله: ﴿لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة:٢٢]، والمحادّة هي الممانعة والمضادة لله جل وعلا ولرسوله، ﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ﴾ أي: ولو كان أولئك المحادون آبَاءَهُمْ، أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ، أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وهؤلاء متفاوتون في الصلة، إلا أنهم من أقرب من يتصل بهم الإنسان، وبدأ بمراتبهم الأقرب فالأقرب.
وقوله تعالى: (أولئك) المشار إليه هم الذين لا يوادّون هؤلاء، إذا كانوا محادّين لله ورسوله، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ أي: ثبت ورسخ في قلوبهم الإيمان، ﴿وَأَيَّدَهُمْ﴾ أي: قواهم وأمدهم.
﴿بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ أي: بوحيه ﷾ الذي به تثبت قلوبهم، وبعونه الذي يستطيعون به مواجهة هؤلاء.
فقوله تعالى: ﴿بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ يشمل المدد بالوحي من الكتاب والسنة، ويشمل أيضًا العون والتأييد والتقوية والنصر، وقوله تعالى: ﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [المجادلة:٢٢]، هذا جزاؤهم؛ لأنهم قدموا محاب الله على ما تقتضيه طبائعهم، ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾ [المجادلة:٢٢]، فأضافهم إليه تشريفًا وتكريمًا وإجلالًا لفعلهم، وكل ما يضيفه الله ﷾ لنفسه مما ليس من صفاته إنما المقصود به التشريف والتكريم، وقد يضاف الشيء إضافة خلقٍ، ولكن هذا قليل.
قال تعالى: ﴿ألا إن حزب الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، والفلاح أجمع كلمةٍ للخير في لسان العرب، وهي حصول المطلوب والأمن من المرهوب، فيحصل لهؤلاء مطلوبهم ويأمنون مما يرهبونه ويخافونه في الدنيا والآخرة.
1 / 17
بيان ملة إبراهيم الحنيفية
قال ﵀: [اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، وَمَعْنَى (يعبدونِ): يوحدونِ، وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْه الشِّركُ، وَهُوَ دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء:٣٦]] .
هذا التمهيد أيضًا للأصول الثلاثة، وهو بيان لدين الإسلام في الجملة؛ فإن دين الإسلام هو ملة إبراهيم، فقال ﵀: [اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إبراهيم أن تعبد الله وحده] والحنيفية التي كلٌ يتمنى أن ينتسب إليها، وكلٌ يسعى إلى الاتصاف بها هي ملة إبراهيم، وهي التي من رغب عنها فقد سفه نفسه، كما قال الله جل وعلا: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة:١٣٠] أي: خسرها وأهملها.
والدليل على أن ملة إبراهيم هي الحنيفية قوله تعالى: ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران:٩٥]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:١٢٠]، فملة إبراهيم هي الحنيفية التي جاء بها النبي ﷺ مجددًا لها، وداعيًا إليها.
والحنيفية في الأصل؛ مأخوذة من: (حنف)، وهو: الميل من الضلال إلى الاستقامة.
ويقابلها الجنف، وهو: الميل من الاستقامة إلى الضلال.
1 / 18
أمرا لله جميع الناس باتباع ملة إبراهيم
ثم قال في بيان مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ: [أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا له الدين]، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة:١٣٥] لا قولًا، ولا اعتقادًا، ولا عملًا، ولا حالًا، ولا مآلًا، فإنه ليس منهم في شيء، ولذلك قال في بيان ملة إبراهيم: [أن تعبد الله وحده] وأكد ذلك بقوله: [مخلصًا له الدين] أي: مُخَلِّصًا له العمل من كل شائبة شرك تجعل فيه لغير الله نصيبًا، فقوله: [مخلصًا له الدين] أي: العمل والعمل عمل القلب والجوارح، وليس الجوارح فقط.
قال: [وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ وَخَلَقَهُمْ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]] وهذا دليل على الغاية من الخلق، وبدأ في الاستدلال بالغاية لكون الله جل وعلا أخبر الخلق بأنه إنما خلقهم ليعبدوه، وليدل على أنه يجب عليهم أن يعبدوه وحده لا شريك له، وإلا لما حققوا ما من أجله خلقوا، فهو دال على الأمرين: على أن هذا هو الغاية من الخلق، وعلى أن الله أمرهم به، بعبادته وحده ﷾.
وأما كون ذلك أمرًا لجميع الناس فلأن هذا هو الغاية من خلق جميع الناس، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] أي: إلا من أجل عبادته وحده، واللام هنا لام التعليل وليست لام العاقبة والصيرورة، لأنه من المعلوم أن أكثر الخلق ليسوا على هذا الأمر، ولم يحققوا هذه الغاية، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام:١١٦] وقال تعالى -في سورة الشعراء في ذكر القصص-: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء:٨] وقال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ:١٣] وكل هذه الأدلة تدل على أن اللاّم هنا لام التعليل الغائية، لا لام التعليل الفاعلة، أي: التي هي للعاقبة والصيرورة، وانظر كيف جاء الخبر عن هذه الغاية بأسلوب النفي والاستثناء الذي يفيد الحصر، وأنه لم يخلقهم لشيء آخر، وإنما خلقهم لهذه الغاية.
1 / 19
معنى العبادة التي أمر الله بها
ثم قال ﵀: [ومعنى (يعبدون): يوحدون]، وذلك من تفسير ابن عباس ﵁، فإنه فسر قوله تعالى: (ليعبدون) بـ (يوحدون)، ولاشك أن أول ما يدخل وأولى ما يدخل في قوله: (ليعبدون) هو التوحيد؛ لأنه هو غاية الوجود، وهو أصل العبادة الذي لا تصح إلا به، كما قال ﷾: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:١١٠]، فالشرك مفسد للعمل مذهب للغاية من الخلق، مبطل لما قصده الله جل وعلا من خلق الجن والإنس.
1 / 20