[مقدمة الشارح]
بسم الله الرحمن الرحيم [1] سبحانك وحنانيك [2] يا سبوح يا قدوس [3] ! وفقنا اللهم كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا [4] وأرنا اللهم حقائق الأشياء كما هي [5] ، حتى يحمدك كلنا بجملة محامدك كلها، على جميع نعمك بكليتها [6] ؛ واقشع [7]
صفحة ١٦
اللهم سحائب ظلمات [1] الجهل عن بصائرنا، كيلا نجهلك في شيء من الأشياء؛ وأذقنا اللهم طعم عفوك وغفرانك لنا لنتقلب [2] في رضوانك وجنانك العلى كيف نشاء- انت الذي «تعرفت إلى كل شيء فما جهلك شيء [3] » وإن من شيء إلا يسبح بحمدك [4] واختلفت في الآثار والأطوار فما يعزب عنك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك [5] - وانطق ألسنتنا بحمدك وشكرك واشرح صدورنا للإسلام لك ولرسلك [6] .
الحمد لله الذي تجلى لعباده من غير أن يرى، وأراهم نفسه من غير أن يتجلى [7] حتى قال من لا تحد الألسن كماله: «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله» [8] والحمد [9] لله الظاهر من رأس إبرة لمن يشاء، والمستتر في السماوات والأرض عمن
صفحة ١٧
يشاء، حتى يعتقد هذا بأن لا هو ويشهد ذلك بأن لا غيره؛ فسبحان الذي لا هو الا هو، و كل شيء هالك إلا وجهه ؛ [1] والحمد لله الدال على سر وحدته كل شيء.
ففي كل شيء له آية «2»
تدل على انه واحد «3»
والهادي إلى نور عظمته كل ضوء وفيء، فمن جوامع الكلم [4] وأجمعها [5] :
وأشرقت الأرض بنور ربها [6] ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا [7] ، فتبارك الله الذي كل ما فرضته ثانيا فهو هو، ولا شيء يعادله ويماثله.
وصل اللهم على سابق الأنوار لديك، وقائد الأبرار أليك، المخلوق من نوره اللوح والقلم الأعلى، ومن أجله العرش والكرسي والسماوات العلى، محمد المبعوث على [8] الإنس والجان [9] ، المنعوت في جميع الكتب بكل لسان،
صفحة ١٨
صاحب لواء الحمد [1] والمقام المحمود [2] والمختص بشفاعة كافة [3] الأمم والحوض المورود.
وعلى شقيق [4] نوره، وحقيق اموره، صنوه [5] الذي هو [6] كشخصه، وصهره الذي هو من نفسه كنفسه [7] ؛ واولادهما اللذين هم تفاصيل شهودهما وتقاسيم وجودهما.
ثم على جميع المرسلين والأولياء ، والنبيين والأصفياء، والصديقين والشهداء.
ثم على الممتحنين من شيعة هؤلاء، ما دامت الأرض والسماء، وفاضت الأنوار من الحجب [8] [العليا].
صفحة ١٩
وبعد، فهذا علق [1] مضنون [2] الا عن عباد الله المخلصين، وعلم مكنون لا يحتمله الا صدور الممتحنين [3] ، وباب مغلق لا ينفتح الا للملحاح، وطريق مظلم لا يسلك الا بمشكاة فيها مصباح [4] - «جل جناب الحق عن أن يكون شريعة [5] لكل وارد، أو يطلع عليه إلا [6] واحد بعد واحد»- هذا أصول أصول الدين، وفروع شجرة عين اليقين، لا يؤمن بتلك كل كفور، وقليل من عبادي الشكور [7] ولا يقتطف جنا هذه كل سائر؛ وشاهق [8] المعرفة أشمخ من أن يطير إليه كل طائر؛ بل هو نور يستضيء به السالك إلى الله بقدم العرفان، وبصيرة لمن أعطاه الله عين العيان، وقائد صدق ينتهي إلى رضوان الله الأكبر، ورائد حق يشير إلى خير مستقر- ولعمر الحبيب- انه سر الأولياء، والعلم المختص بشيعة آل العباء، [9] أسداه [10] الملتجئ إلى عتبة باب العلم،
صفحة ٢٠
المرتجي من ربه بسطة في العلم وصحة في الجسم [1] ، المتمسك بحبل النبي والوصي، محمد بن محمد مفيد، المدعو بسعيد الشريف القمي، أوقات مطالعة كتاب التوحيد لشيخنا صدوق الطائفة أبي جعفر [2] محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي- طاب ثراه وحشره الله مع من ارتضاه-؛ فأخرج ذلك لأهل الولاية من أحبائه الطالبين وأولاده الروحانيين. ولما كان بعض هذه الأسرار حين ما طلعت من مشارق الأنوار، وقعت في هامش ذلك الكتاب المستطاب حسب اختلاف الآفاق، وأراد [3] أن تدور كلها في وسط السماء حيث يستضيء بشروقها أرباب الذواق [4] والإشراق، أوردها [5] في دائرة الجمع والتأليف ورصفها أحسن ترصيف؛ فجاءت بقوة الله وعونه صحيفة تقرب [6] من صحف الأقدمين وتبعد [7] عن فهم المحدثين. والمرجو من الله مغيث النفوس وبارئها، ومبدع العقول وجاعلها، أن يجعل مغارب هذه الأنوار جبال عقول الأحرار [8] ويعصمها من خطفة من يجعل علمه بضاعة التجار؛ ومن الله القوة في البدء [9]
صفحة ٢١
والخاتمة وبه الاعتصام من شرور أهل الجهالة والبطالة، وهو المستعان وعليه التكلان.
صفحة ٢٢
الثاني،
انها كما تدل على توحيد المعبود الحق، كذلك تدل على هلاك ما سواه وبطلان ما عداه؛ لأن كل ما يطاع من دونه وينظر إليه من أن له حولا وقوة، فهو إله كما قال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه [1] وقد نفت الكلمة كل إله سواه.
الثالث،
انها تدل على ان كل عبادة صدرت من أي عابد، فهو بالحقيقة لله، ومرجعه إلى الله، وإليه يرجع الأمر كله؛ وذلك لأن كل ما يتوهم في شيء من خير فهو من الله، وإليه ترجع عواقب الثناء.
الرابع،
انها بحسب التركيب مأخوذة الحروف من لفظة الله إذ لا حرف فيها، الا وهي في تلك اللفظة [2] المباركة. وفي ذلك إشارة إلى أن مدلول تلك الكلمة، هو تفصيل معنى هذه اللفظة؛ لأن الله اسم للذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية، المنعوت بنعوت الربوبية، المقدس عن الشريك في الوجود والكمال، وفي الصفات والأفعال؛ وأن [3] كل وجود وكل كمال وجود، فانما هو من شعاع وجوده، ورشحات جوده [4] ، فاللفظة الشريفة دلت بإجمالها على تفرده تعالى بالوجود الحقيقي؛ وأن [5] كل ما سواه غير مستحق للوجود وكمالات الوجود بذاته.
الخامس،
انها مشتمله على لفظة الله سوى أسمائه الاخر؛ إذ هذه اللفظة هو الاسم الجامع لجميع الأسماء فكأن ذكره هو ذكر جميع الأسماء.
صفحة ٢٣
السادس،
ان حروفها المكتوبة و [1] المتلفظ بها، خمسة عشر [2] وعدد أبواب الجنة والنار كذلك [3] . وفي ذلك إشعار بأن المتلفظ بها عن صدق اعتقاد، يدخل في جملة الموحدين ويفتح له أبواب الجنان ويغلق عنه أبواب النيران؛ وأيضا، إشارة إلى ان جهنم عبارة عما سوى الله وان الجنة هو النظر إلى الله.
السابع،
ان حروفها من جوف [4] الفم؛ فيمكن بها التكلم جهرة وخفية.
الثامن،
ان نفي الأغيار في هذه الكلمة متقدم على إثبات [5] الواحد القهار، [و] إشارة إلى ان السالك إلى الله ما لم ينف غيره ولم يحكم بهلاك ما سواه، لم يصل إلى قرب الله وجواره.
التاسع،
ان الحرف الأول منها، «اللام» والآخر «الهاء» والمركب منهما، له ف له الملك [6] في الأولى والآخرة و له الخلق والأمر [7] .
العاشر،
ان لهذا التركيب بحسب الوضع الإلهي فوائد عظيمة بحسب التأثير وترتب الآثار الغريبة من تصفية الباطن، وتنوير القلب [8] ، وتكميل النفوس
صفحة ٢٤
الإنسانية، وحصول التقرب إلى الملكوت الأعلى والملائكة المقدسة، ومشاهدة الأنوار، واللحوق إلى الأبرار، والتخلص من الصفات الذميمة، والنقاوة عن الأخلاق الردية، كما يعرفه أهل الذكر فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [1] وقد أطنبت الكلام في اشتقاق لفظة الله، وفي علميتها وعدمها، وفي تقدير الخبر في الكلمة الشريفة ودفع الشكوك عن ذلك، في كتابنا الأربعين [2] من أراد ذلك فليطلب هناك.
الحديث الثاني [قول «لا إله الا الله» خير عبادة]
بإسناده عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «خير العبادة قول لا إله إلا الله».
شرح:
العبادة، لغة، هي غاية الخضوع ونهاية التذلل. والمراد ب القول ما كان عن عرفان قلبى وإيقان نفسي، إذ لا يجوز الشهادة الا بمعرفة القلب.
وأما كونه «خير العبادة»، فلأنه أصل الإسلام ولا يصح سائر العبادات الا به؛ ولأن غاية الخضوع متحققة فيه؛ إذ مفاد الكلمة الطيبة، نفي ما سوى الله تعالى بالهلاك الذاتي والبطلان الحقيقي وإثبات [3] الواحد الحق العلي وليس فوق الفناء المحض خضوع؛ إذ العبادات الأخر، مشتملة على نوع خضوع- كالافتقار والذلة والتبصبص [4] والمسكنة وطلب العفو والرحمة وأمثالها- وهذا «القول» إظهار للفناء الكلي والفقر الحقيقي، وان الكل منه، وله، وبه، وإليه، فهو خير العبادة.
صفحة ٢٥
الحديث الثالث [شهادة «لا إله الا الله» أعظم ثوابا]
بإسناده «عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: «ما من شيء أعظم ثوابا من شهادة أن لا إله إلا الله لأن الله عز وجل لا يعدله شيء ولا يشركه في الأمر احد».
شرح:
وجه التعليل [1] ، انه لما كان الله جل مجده لا يعدله ولا يشاركه شيء في أمر من الأمور، فكذا ثواب الشهادة بوحدانيته والإقرار بوجوده، لا يشبهه ثواب عمل من الأعمال ولا يعدله جزاء علم من العلوم؛ إذ شرف العلم والابتهاج به، إنما هو باعتبار شرف معلومه. وأيضا، لما كان الله عز وجل لا يشركه شيء في أمر من الأمور ومن جملة الأمور المتعلقة به ثواب الشهادة به، فلا يشرك ثوابها [2] ثواب شيء من الأشياء.
[ما يمكن معرفته فيه تعالى هو الألوهية لا الذات]
قال بعض اهل المعرفة [3]
:
لما كان متعلق معرفة كل عارف والذي يمكن إدراك
صفحة ٢٦
حكمه، إنما هو مرتبة الألوهية، أمر في كتابه العزيز نبيه صلى الله عليه وآله- الذي هو أكمل الخلق- فقال: فاعلم أنه لا إله إلا الله [1] منبها له ولمن تبعه، على ما يمكن معرفته والظفر به. ومعلوم ان الألوهية مرتبطة بالمألوه، ومرتبط [2] بها المألوه- على ما يقتضيه سر التضايف [3] - فلذلك يمكن معرفتها، بخلاف الذات فانها لا نسبة لها إلى شيء؛ بل الكل لديها مستهلك؛ فلذلك ورد: «تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في ذات الله» [4] - انتهى ملخصا.
الحديث الرابع [كلام في الأصول الخمسة ومعنى الرب]
بإسناده عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «إن الله تبارك وتعالى ضمن للمؤمن ضمانا» قال: قلت: «وما هو؟» قال:
«ضمن له- إن هو أقر له بالربوبية ولمحمد صلى الله عليه وآله بالنبوة ولعلي عليه السلام بالإمامة وأدى ما أفترض عليه- أن يسكنه في
صفحة ٢٧
جواره» قال: قلت: «فهذه والله الكرامة التي لا يشبهها كرامة الآدميين!» قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: «اعملوا قليلا تنعموا [1] كثيرا».
شرح:
«ان» في قوله عليه السلام: «إن هو» (بكسر الهمزة) للشرط- حذف جوابه أو قدم [2] على الخلاف-؛ وفي قوله: «أن يسكنه» (بالفتح) مصدرية والجملة مفعول «ضمن».
اعلم، انه عليه السلام ذكر أربعة أمور، لكنها مشتملة على الأصول الخمسة مع زيادة العمل بالفرائض بيان ذلك: ان الإقرار بالربوبية، يتضمن الإقرار بالتوحيد والصفات الكمالية والتنزه من أوصاف النقص- من الظلم والجور وغير ذلك- والإقرار بالمعاد وهذه هي الثلاثة من الأصول الخمسة.
وجه التضمن: ان الرب: إما بمعنى «المالك» أو «القادر» وكل منهما يصحح ما قلنا:
أما المعنى الأول، فلأن «الرب» بهذا المعنى هو الذي ينفذ مشيته في مملكته كيف شاء وكما شاء إيجادا وإعداما وإظهارا وإعادة كما قال عز من قائل نصا على الإظهار والإعادة: برب المشارق [3] ، إشارة إلى الأول [4] والمغارب ، إشارة إلى الثاني [5] . وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: ربنا الذي أعطى كل شيء
صفحة ٢٨
خلقه ثم هدى [1] قوله تعالى: خلقه ثم هدى بيان لقوله: «أعطى» ولذا لم يأت بالواو: خلقه- أول خلقه- وهداه إلى صلاح المعاش والمعاد؛ وقال إشارة إلى الأول: اقرأ باسم ربك الذي خلق [2] والى الثاني: ارجعي إلى ربك [3] أي إلى سيدك ومالكك. وأشار إلى الأول والى العدل [4] والصلاح بقوله: وربك يخلق ما يشاء ويختار [5] . والموجودات كلها مملكة واحدة لله تعالى لارتباط بعضها ببعض وانتظامها على ترتيب منسق [6] ؛ فمدبرها ومالكها واحد والنافذ المشية لا محالة متصف بالعلم والقدرة وسائر الصفات الكمالية، وعادل لا يجور؛ إذ الجور إنما هو لنقص نفوذ المشية وقد فرض نافذا؛ فالإقرار بالربوبية، يتضمن الإقرار بالتوحيد والعدل والمعاد كما بينا بالدلائل المقنعة.
وأما المعنى الثاني، «فالرب» بهذا المعنى هو الذي يقدر على الإيجاد والإعادة والعدل والصلاح ويستغني عن كل شيء ولا يستغنى عنه، وبذلك يظهر الأمور الثلاثة [7] . قال الله جل مجده إشارة إلى الإبداء والإعادة: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [8] ، والخلق لا يكون الا بقدرة.
وأما القول بإمامة علي عليه السلام، فهو يتضمن للإقرار بالأئمة من أولاده عليهم السلام؛ إذ القائل بخلافته ووصايته بلا فصل، إنما يحكم بالنص، لا بالإجماع والاختيار. والنص من رسول الله صلى الله عليه وآله على إمامة علي [9] والأئمة شرع سواء وكذلك نص كل سابق على اللاحق. فصحت الأصول الخمسة بالتعبيرات الثلاث.
وأما قوله: «وأدى ما افترض عليه» فإشارة إلى الفروع التي كلها أصل واحد من الأصول وهو الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله من عند الله مع العمل به.
[نتائج قرب الفرائض والنوافل]
وأما قوله: «أن يسكنه في جواره» فهو إشارة إلى نتيجة هذه الأصول وهو نتيجة قرب الفرائض. ومعنى «السكنى في جوار الله»، هو أن يحشر مع ملائكة الله لأنهم لم يتجاوزوا عن مقامهم الذي رتبهم الله فيه من التسبيح والتحميد؛ فهم كأنهم أيضا يؤدون فرائض الله. ومعنى «الكون مع الملائكة»، هو أن يصير مطهرا من الأدناس البشرية ونقيا من الأوساخ الجسمانية ويصير من الملائكة العرشية.
وأما نتيجة قرب النوافل، فهي أعظم من ذلك وهو «المحبوبية التامة» المستتبعة لأن يفنى العبد [10] عن كله ويبقى مع الله جل جلاله كما في الحديث القدسي:
«فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله» [11] .
صفحة ٢٩
الحديث الخامس [من مات ولا يشرك بالله شيئا دخل الجنة]
بإسناده عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن جده عليهم السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «من مات ولا يشرك بالله شيئا- أحسن أو أساء- دخل الجنة.
شرح:
قوله: «ولا يشرك بالله» جملة حالية منفية ولذا جاء «الواو» في هذا الحديث وترك في الحديث الحادي والثلاثين [1] . وتنكير «الشيء» مع وقوعه في سياق النفي يفيد العموم؛ فمعناه: لا يشرك بالله شيئا في شيء من الذات والصفات والأفعال، بأن يعتقد أن لا ذات متأصل سواه ولا وجود حقيقي لما عداه ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا [2] ولا حول ولا قوة الا بالله.
ولا شك، ان هذا الاعتقاد مما يوجب دخول «الجنة» وهي «الكون مع الله» والحكم [3] بفناء الكل وهلاكه، سوى وجه الله. وأما المعتقد بهذه العقيدة، المسيء بارتكاب الأفعال القبيحة أو الاتصاف بالصفات الذميمة، فيحتمل أن يعاقب بحرارة النار أولا لسيئته ثم يدخل الجنة، ويحتمل عدم العقوبة بسبب المغفرة لقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [4] والعلم عند الله.
صفحة ٣٠
الحديث السادس [كلام في التقوى]
بإسناده «عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: هو أهل التقوى وأهل المغفرة [1] قال: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أهل أن اتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا وأنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئا أن أدخله الجنة. وقال عليه السلام: «إن الله تبارك وتعالى أقسم بعزته وجلاله أن لا يعذب أهل توحيده بالنار ابدا».
شرح:
«التقوى» مصدر تقى يتقي كقضى يقضي. والواو فيها مبدلة من الياء المثناة التحتية، لأن الياء في «فعلى» إذا كانت اسما، تبدل واوا كما تقول:
«شروى» من شريت. وإن كانت صفة، تركوها على أصلها من غير إبدال كما في «ريا» تأنيث ريان. وأما التاء الفوقية منها، فأصلها «واو» لأنها من «الوقاية» لكن لما كثر استعمال [2] «الاتقاء» على لفظ الافتعال، توهموا ان «التاء» من نفس الكلمة فجعلوه اتقى يتقي في الماضي والغابر مع التخفيف. ثم لما لم يجدوا مثلها حتى يلحقوا به، قالوا: تقى يتقي [3] بحذف الهمزة على وزن قضى يقضي فصار مصدره «تقوى» والصفة «تقي» على وزن [4] فعيل. والأمر للمذكر «اتق» كاقض وللمؤنث «اتقي» كاقضي.
صفحة ٣١
وكلمة «أن» في قوله: «أن اتقى» (بالفتح) على المصدرية، والفعل [1] مسند إلى المفعول، والجملة مع معطوفه في حكم المفرد على أن يكون مضافا إليه «للأهل»؛ وفي قوله: «إن لم يشرك بي عبدي» للشرطية؛ وفي قوله: «أن أدخله [2] الجنة» (بالفتح) للمصدرية على أن يكون مما اضيف إليه [3] «الأهل» [4] وهو قائم مقام الجزاء. والجملة الشرطية توسطت بين المضاف والمضاف إليه وقد شاع الفصل بينهما.
وأما صيغتا: «التقوى» و«المغفرة» [5] ، فالاول على المجهول، والثاني على المعلوم إن نسبا [6] إلى الله تعالى، وبالعكس من ذلك إن نسبا [7] إلى العبد [كما] [8] في قوله:
اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة.
وفسر «التقوى» بعدم الإشراك [9] وهو «التقوى في الاعتقاد» وفسر «المغفرة» بدخول الجنة لأنها تستلزمه [10] . وقوله: «أبدا» قيد للنفي.
صفحة ٣٢
الحديث السابع [ان الله حرم أجساد الموحدين على النار]
بإسناده عن أبي بصير، قال: قال ابو عبد الله عليه السلام: «إن الله تبارك وتعالى حرم أجساد الموحدين على النار».
شرح:
في هذا الحديث أمور:
الاول،
ان الموحدين لا يعذبون بالنار وذلك لا ينافي [1] أن لا يعاقب [2] ، [3] بغيرها كالآلام الدنيوية وشدة النزع وضغطة القبر، إلى غير ذلك- نعوذ بالله منها-.
الثاني،
ان الأجساد محشورة ومنعمة ومعذبة، خلافا لمن لم يعتقد ذلك.
ولحشر الأجسام ووجوب وقوعه سر عظيم لا يعرفه إلا من أخذ من مشكاة النبوة علمه.
الثالث،
وجه حرمة أجساد الموحدين على النار، هو ان النار مخلوقة من غضب الله جل جلاله وهو سبحانه إنما ينظر أولا إلى البواطن، فمنشأ النار إنما هو من باطن الإنسان، فإذا كان الباطن معتقدا لتوحيد الله ومؤمنا بكتبه ورسله والدار الآخرة، فليس للنار- التي هي المخلوقة من غضب الله- منشأ أو مبدأ في باطن ذلك الموحد، فلا يعذب بالنار، وإن كان قد يعاقب بغيرها بسبب إساءة الأعمال كالأمور الخارجة- من الأمراض الدنيوية وغيرها- كما قلنا.
الرابع،
ان الشيخ (رحمه الله) نقل في رسالة الاعتقادات [4] عن المعصومين عليهم
صفحة ٣٣
السلام، ان أهل التوحيد إنما يتألمون بخروجهم من النار. ووجه ذلك؛ ان الخروج إنما يكون عند ما يتخلصون من أثر القبائح والذمائم، فحينئذ يستشعرون بما يخالف الحالة الأولى. وليس «الألم» إلا إدراك المنافر فقبل الخروج، كانت تلك الحالة ملائمة لهم بسبب رسوخ الأخلاق الذميمة وآثار الأعمال القبيحة في أنفسهم [1] وإن كانت منافية لاعتقاداتهم؛ لكن لغلبة الآثار التي هي نتائج هذه الذمائم والقبائح، لم يستشعروا بها من حيث المنافرة. وحين التخلص منها استشعروا بها؛ فصح انهم لا يعذبون بالنار وإنما يتألمون بالخروج منها [2] .
وجه آخر،
انهم بخروجهم [3] من النار ودخولهم الجنة التي اعدت [4] لهم واستعدوا لها، اطلعوا على ما فاتهم من جنة نعيم الأعمال والأخلاق وجنات أخرى لسائر الاعتقادات الحقة فيتألمون بذلك الفقدان إلى أن تتداركهم [5] العناية الإلهية.
وأيضا،
لما كانوا من أهل التوحيد الخالص، التذوا بكل ما حكم به عليهم ربهم،- حيث كانوا يطلبون رضا مولاهم ويرون نعمته ولطفه في كل ما يصل إليهم- فإذا فارقوا حالة البلاء بالخروج من النار، حسبوا انقطاع هذه الرحمة
صفحة ٣٤
وانعدام تلك النعمة، إلى أن فازوا بنعمة الجنان؛ ففي الحد [1] المشترك يتألمون حيث لم يدروا إلى ما ذا يصيرون. وبالجملة، هذه الحالة تشبه حالة الموت والخروج من الدنيا واضطراب النفس فيها مع تيقنها بأن ذلك أولى لها؛ بل يمكن أن يكون هذا وجها رابعا [2] ، [3] .
الحديث الثامن [شهادة «لا إله الا الله» والشرك بالله، موجبتان لدخول الجنة والنار]
بإسناده عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال:
«الموجبتان من مات يشهد أن لا إله الا الله [4] دخل الجنة ومن مات يشرك بالله [5] ، دخل النار».
شرح:
«الموجبتان»، مبتدأ حذف خبره [6] لوجود العلة وهو قوله: «من مات» إلى آخره. ونظير ذلك في حذف الجزاء لوجود السبب قوله تعالى: وإن يكذبوك فقد
صفحة ٣٥