الرسل مبعوثون للدعوة إلى إفراد الله بالعبادة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا تقررت هذه الأمور فاعلم: أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرون بذلك، كما قررناه وكررناه؛ ولذا قالوا: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ﴾ [الأعراف:٧٠].
أي: لنفرده بالعبادة، ونخصه بها من دون آلهتنا؟ فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى، ولا قالوا: إنه لا يعبد، بل أقروا بأنه يعبد، وأنكروا كونه يفرد بالعبادة، فعبدوا مع الله تعالى غيره، وأشركوا معه سواه، واتخذوا معه أندادا، كما قال تعالى: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢٢] أي: وأنتم تعلمون أنه لا ند له، وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك.
وكان يسمعهم النبي ﷺ عند قولهم: لا شريك لك.
فيقول: (قدْ قدْ، أي: أفردوه ﷻ، لو تركوا قولهم: إلا شريكًا هو لك) فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به، كما قال تعالى: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام:٢٢].
﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ﴾ [الأعراف:١٩٥] فنفس اتخاذ الشركاء إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا الأنداد بالخضوع لهم والتقرب وبالنذور والنحر لهم، إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم لديه.
فأرسل الله تعالى الرسل تأمرهم بترك عبادة كل ما سواه، وتبين أن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، وأن التقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده.
وهذا هو توحيد العبادة، وقد كانوا مقرين -كما عرفت في الأصل الرابع- بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده والرازق وحده].
خلاصة هذا الكلام: أن الرسل بعثهم الله تعالى لدعوة الناس إلى توحيد العبادة، وإفراد الله بالعبادة، وإخلاص العبادة له ﷿.
وأما توحيد الربوبية، وإن كان توحيدًا مطلوبًا وتوحيدًا صحيحًا -وهو أحد أنواع التوحيد- إلا أنه أمر فطري أقر به المشركون ولم ينكروه، بل ولم يخالفوا فيه؛ فلهذا بعث الله الرسل بتوحيد العبادة، وإخلاص العبادة له ﷿، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:٣٦].
وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:٢٥]، وهذا هو الأمر الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وسيلتان إلى توحيد العبادة، فإذا عرف المسلم ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله، فعليه أن يعبد هذا الرب الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى.
والمؤلف ﵀ يبدأ ويعيد، ويكرر هذا من أول الرسالة إلى آخرها، ويبين أن الرسل بعثوا لأمر الناس بإفراد الله بالعبادة ونهيهم عن الشرك، وأن توحيد الربوبية أمر فطري أقر به المشركون؛ ولهذا فإن الرسل ما دعتهم إليه، لأنهم يقرون به، ولأنهم موحدون لله في الربوبية، ولكن الرسل إنما بعثهم الله بتوحيد العبادة، وإفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك، فهذا خلاصة هذه الرسالة من أولها إلى آخرها، وهذا خلاصة كلام المؤلف؛ ولهذا يقول المؤلف ﵀: (وإذا تقررت هذه الأمور فاعلم: أن الله تعالى بعث الأنبياء عليم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة) أي: يدعون الناس إلى أن يفردوا الله بالعبادة، والعبادة كما سبق هي: الأوامر والنواهي التي جاءت بها الشريعة، فالأوامر يفعلها المسلم امتثالًا لأمره، والنواهي يتركها، وبهذا دعت الرسل الناس إلى أن يفردوا الله بالعبادة ويخصوه بها، فالرسل من أولهم -وهو نوح ﵊ إلى آخرهم -وهو نبينا وإمامنا محمد ﷺ يدعون الناس إلى العبادة وإفراد الله تعالى بالعبادة.
قوله: (لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه) لأنهم مقرون بذلك، فهم لم يدعوهم إلى إثبات أن الله خلقهم، لأنهم معترفون بهذا، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف:٨٧].
وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت:٦١]، ولهذا قوله: (لا) يعني: لم يبعثوا إلى إثبات أن الله خلقهم، إذ هم مقرون بذلك، كما قررناه وكررناه، وقد ذكر المؤلف: أنه قرر هذا وكرره.
وقوله: (لذا قالوا) أي: أن الأمم قالوا لرسلهم: ﴿أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ﴾ [الأعراف:٧٠] وهذا كما أخبر الله عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح: ﴿أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ﴾ [الأعراف:٧٠] أي: لنفرده بالعبادة فقط، فقوم نوح وغيرهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، ونوح ﵊ أمرهم بأن يفردوا الله بالعبادة، فقال: لا تعبدوا إلا الله، وهم يريدون أن يعبدوا الله ويعبدون معه غيره، فيشركون بالله؛ ولهذا أنكروا عليه أمرهم بإفراد الله بالعبادة.
وقوله: (فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله) أي: هذا هو الذي اعترضوا عليه، وإلا فهم يعبدون الله، لكنهم يريدون أن يعبدوا الله ويعبدوا معه غيره، ولذلك أنكرت الرسل عليهم عبادة غير الله معه، ولم ينكروا عليهم توحيد الربوبية؛ لأنهم مقرون به، ولم ينكروا عليهم عبادة الله؛ لأنهم يعبدون الله، لكن أنكروا عليهم الإشراك في توحيد العبادة.
ولهذا قوله: (ولم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى).
أي: ما أنكروا وجود الله، بل هم معترفون بوجود الله، ولم يقولوا: إنه لا يعبد، بل هم يعبدون الله، وأقروا بأنه يعبد، ولكنهم أنكروا كونه يفرد بالعبادة، فعبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه سواه، واتخذوا معه أندادًا، يعتقدون أنهم الأمثال والنظراء، وجعلوهم معبودين، وسووهم بالله في المحبة والتعظيم والإجلال، سواء من الأصنام والأوثان والأشجار والأحجار والأنبياء والصالحين وغيرهم، كما قال تعالى: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢٢] أي: وأنتم تعلمون أنه لا ند له، وقد كان المشركون يقولون في تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك.
فعندما يقول المسلم: لبيك لا شريك لك.
هذا توحيد، ولكن قولهم: إلا شريكًا.
هذا نقض للتوحيد، حيث أنهم أثبتوا لله شريكًا، وهذا من جهلهم حين أثبتوا لله شريكًا يملك؛ فأنكر عليهم النبي ﷺ ذلك، وجعل يعلمهم تلبية التوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأبطل قولهم: إلا شريكًا هو لك؛ لأن هذا هو الشرك، وكان يسمعهم النبي ﷺ عند قولهم: لا شريك لك، ويقول: قد أفردوه ﷻ، لو تركوا قولهم: إلا شريكًا هو لك، وهذا الحديث أخرجه مسلم عن ابن عباس ﵁، وفيه: (كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله ﷺ: ويلكم قد قد) حيث أنهم يقولون: إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت، وهذا من جهلهم، حيث أنهم يعبدون الله بزعمهم وهم يشركون.
وقوله: (فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به) أي: أنهم حينما أشركوا بالله في نفس الشرك إقرار بالله، فأقروا بالله ووجود الله، ووحدوا الله في الربوبية، لكن أثبتوا معه غيره، فكونهم يقرون به ويشركون معه غيره فهم يعبدونه ويعبدون معه غيره، وهذا دليل على أنهم أقروا بتوحيد الربوبية، وأقروا بوجود الله، فنفس شركهم إقرار بوجود الله، وإقرار بالربوبية، واستشهد بقوله تعالى: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام:٢٢] أي: مع الله، إذًا: أثبتوا وجود الله.
وقوله تعالى: «وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» وقوله تعالى: ﴿ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ﴾ [الأعراف:١٩٥] [القصص:٦٤] كل هذا في إثبات العبادة لله تعالى مع إشراك غيره معه.
ففي نفس الشرك أقروا بالله، فأقروا بالله ووجود الله، ووحدوا الله في الربوبية، لكن أشركوا معه، فكونهم يقرون به ويشركون معه غيره، دليل على أنهم أقروا بتوحيد الربوبية، وأقروا بوجود الله، فنفس شركهم إقرار بوجود الله، واستشهد المؤلف بقوله تعالى: ﴿أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام:٢٢] يعني: مع الله! إذًا: أثبتوا وجود الله، فقوله: ﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ [القصص:٦٤]، وقوله: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ﴾ [الأعراف:١٩٥] هذا كله فيه إثبات لوجود الله، ولهذا قال المؤلف: [فنفس اتخاذ الشركاء إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا الأنداد] يعني: أن المشركين لم يعبدوا الأنداد، إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى.
وقوله: [بالخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم].
أي: بالخضوع، والذل، والمحبة، والدعاء، والركوع، والسجود، وغيرها، ولماذا عبدوا الأنداد؟! قال: [لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم لديه] كما سبق أن الله ﷾ أخبر عن ذلك بقوله: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر:٣].
وقال سبحانه
2 / 7