قوله: "لا المسائل القياسية" أي لا يشترط في الفقيه العلم بالمسائل القياسية؛ لأنها نتيجة الفقاهة والاجتهاد لكونها فروعا مستنبطة بالاجتهاد فيتوقف العلم بها على كون الشخص فقيها فلو توقفت الفقاهة عليها لزم الدور، فإن قيل هذا إنما يستقيم في أول القائسين. وأما من بعده فيجوز أن يشترط فيه العلم بالمسائل القياسية التي استنبطها المجتهد الأول من غير لزوم دور قلنا لا يجوز للمجتهد التقليد، بل يجب عليه أن يعرف المسائل القياسية باجتهاده فلو اشترط العلم بها لزم الدور نعم يشترط أن يعرف أقوال المجتهدين في المسائل القياسية لئلا يقع في مخالفة الإجماع، فإن قيل المسائل القياسية مما ظهر نزول الوحي بها، إذ القياس مظهر لا مثبت فيشترط للمجتهد الأخير العلم بها قلنا نزول الوحي بها إنما ظهر للمجتهد السابق لا في الواقع ولا عند المجتهد الثاني وليس له تقليد الأول فلا يشترط له معرفته ويمكن أن يراد ما ظهر نزول الوحي به لا يتوسط القياس، ثم هاهنا أبحاث الأول أن المقصود تعريف الفقه المصطلح بين القوم، وهو عندهم اسم لعلم مخصوص معين كسائر العلوم وعلى ما ذكره المصنف هو اسم لمفهوم كلي يتبدل بحسب الأيام والأعصار فيوما يكون علما بجملة من الأحكام ويوما بأكثر وأكثر وهكذا يتزايد إلى انقراض زمن النبي عليه السلام، ثم أخذ يتزايد بحسب الأعصار وانعقاد الإجماعات وأيضا ينتقص بحسب النواسخ والإجماع على خلاف أخبار الآحاد. الثاني أن التعريف لا يصدق على فقه الصحابة في زمن النبي عليه السلام لعدم الإجماع في زمانه وكأنه أراد أنه العلم بما ظهر نزول الوحي به فقط إن لم يكن إجماع وبه وبما انعقد عليه الإجماع إن كان ومثله في التعريفات بعيد. الثالث أنه يلزم أن يكون العلم بالأحكام القياسية خارجا عن الفقه، وذلك عندهم معظم مسائل الفقه اللهم إلا أن يقال إنه فقه بالنسبة إلى من أدى إليه اجتهاده، إذ قد ظهر عليه نزول الوحي به وحينئذ لا المسائل القياسية للدور، بل يشرط ملكة الاستنباط الصحيح هو أن يكون مقرونا بشرائطه وما قيل: إن الفقه ظني فلم أطلق العلم عليه فجوابه أولا أنه مقطوع به فإن الجملة التي ذكرنا أنها فقه وهي ما قد ظهر نزول الوحي به وما انعقد الإجماع عليه قطعية. وثانيا: أن العلم يطلق على الظنيات كما يطلق على القطعيات كالطب ونحوه، وثالثا أن الشارع لما اعتبر غلبة الظن في الأحكام صار كأنه قال كلما غلب ظن المجتهد بالحكم يثبت الحكم فكلما وجد غلبة ظن المجتهد يكون ثبوت الحكم مقطوعا به فهذا الجواب على مذهب من يقول إن كل مجتهد مصيب يكون صحيحا، وأما عند من لا يقول به فيراد بقوله كلما غلب ظن المجتهد يثبت الحكم أنه يجب عليه العمل أو يثبت الحكم بالنظر إلى الدليل وإن لم يثبت في علم الله تعالى
...................................................................... ..........................
يكون الفقه بالنسبة إلى كل مجتهد شيئا آخر. الرابع أنه إن أريد بظهور نزول الوحي لظهور في الجملة فكثير من فقهاء الصحابة لم يعرفوا كثيرا من الأحكام التي ظهر نزول الوحي بها على بعض الصحابة كما رجعوا في كثير من الوقائع إلى عائشة رضي الله تعالى عنها ولم يقدح ذلك في فقاهتهم، وإن أريد الظهور على الأعم الأغلب فهو غير مضبوط لكثرة الرواة وتفرقهم في الأسفار والأشغال ولو سلم فيلزم أن لا يكون العلم بالحكم الذي يرويه الآحاد من الفقه حتى يصير شائعا ظاهرا على الأكثر فيصير فقها وبالجملة هذا التعريف لا يخلو عن الإشكال والاختلال.
قوله: "فجوابه أولا" مشعر بأن ما أظهر القياس نزول الوحي به فهو خارج عن الفقه للقطع بأنه ظني، ثم ما ورد به النص أو الإجماع أيضا إنما يكون قطعيا إذا كان ثبوتهما أيضا قطعيا القطع بأن الأحكام الثابتة بأخبار الآحاد ظنية.
صفحة ٣٢