الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد
قال أبو الطيب يمدح الأمير الدولة أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان عند نزوله إنطاكية، (ومنصرفه) من الظفر بحصن برزويه، في جمادى الأخيرة من ستة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وهي أول ما أنشده. رحم الله الجميع بمنه.
وفاؤُكما كالرَّبعِ أشْجاهُ طاسِمُه ... بأن تُسْعِدا والدَّمعُ أشْفَاهُ ساجِمُهْ
يقول: وفاؤكما لي بالإسعاد على الحب كهذا الربع، الذي أشجاه
1 / 157
للنفس ما ذهب من آثاره، وعفا من رسومه، ووفاؤكما كذلك، وإذا عدمت إسعادكما جلست استشف بالدمع الذي هو جنة المحزون. وأشفاه ساجمه كما أن وفاؤكما أشجاه للنفس ذاهبه.
وما أنا إلاّ عاشقُ كُلُّ عاشقٍ ... أعقُّ خَلِيْلَيْهِ الصَّفَّيينِ لائِمُهُ
ثم قال، مبينًا لعذره، وطاعنًا على صاحبيه في لومه: وما أنا إلا عاشق يريد: أنه كمن تقدمه من العشاق، وكل عاشق خليليه المصافيين الذي يؤثر لومه، ويستجيد عذله، فلا شكر ما أكرهه من لومكما، وأرغبه من إسعادكما.
وقد يَتَزَيا بالهَوَى غَيْرُ أهْلِهِ ... وَيَسْتَصْحِبُ الإنْسَانُ من لا يُلائِمُهْ
ثم أكد ملامة صاحبيه، بأنهما منعاه ما يمكنهما من إسعاده، بظاهر يتكلفانه له وإن لم يعتقداه بالهوى أهله، ويستصحب الإنسان من لا يوافقه على رأيه.
بَلِيْتُ بِلَى الأطْلالِ إنْ لَمْ أقِفْ بها ... وُقوفَ شَحِيْحٍ ضَاعَ في التُّرْبِ خَاتِمُهْ
ثم دعا على نفسه، مستبصرًا في مذهبه، بأن يبلى بلى الأطلال
1 / 158
الدارسة، ويتغير تغير الرسوم العافية، إن لم يقف بديار أحبته، متتبعًا لها، ومعتنيًا بها، وقوف شحيح ضاع خاتمه في الترب. واعتمد خاتمه؛ لأنه صغير الجرم، مهم الأمر،
فلصغره يخفى موضعه، ولاهتمامه يحب تتبعه. واشترط ضياعه في الترب ليكون تطلبه فيه، وهو موضع آثار الديار، ورسوم الأطلال.
كَئِيْبًَا تَوَقَّاني العَوَاذِلُ في الهَوَى ... كَمَا يَتَوَقَّى رَيَّضَ الخَيْلِ حَازِمُهْ
ثم يقول: إنه يقف في هذه الأطلال كئيبًا محزونًا، يتوقاه عاذله، ويتخوفه لائمه، كما يتوقى الذي يحزم الفرس الريض صولته، ويحذر نفرته.
قِفي تَغْرَمِ الأولى مِنَ اللَّحْظِ مُهْجَتي ... بِثَانيةٍ وَالمُتْلِفُ الشَّيَء غَارِمُهْ
ثم خاطب محبوبته، فاستوقفها ليطلب لحظته الأولى لها، بمهجته التي أتلفتها؛ لأن المتلف غارم. واشترط اللحظة الأولى، يشير بذلك إلى تناهي
1 / 159
حسن محبوبته؛ لأن من أتلف في أول لحظة فهو من الحسن في أرفع مرتبة.
سَقَاكِ وَحَيانا بِكِ الله إنَّما ... عَلَى الْعِيسِ نَوْرُ والخُدُودُ كَمائِمُهْ
ثم دعا لمحبوبته بالسقيا، رعاية لها، وتمنى قربها، شغفًا بها، ثم مائل شيئين بشيئين أحسن مماثله؛ مثل الخدور المشتملة على أحببته بالأكمام المشتملة على النور، ومثل حسن أحببته بحسن النور، فماثل بين ساترين مستطرفين، ومستورين مستحسنين.
وما حَاجَةُ الأظْعَان حَوْلَكِ في الدُّجَى ... إلى قَمَرٍ ما واجدُ لَكِ عَادِمُهْ
ثم ذكر أن الأظعان حول محبوبته لا تحتاج إلى الاستنارة بقمر؛ لأنها تستغني بضيائها، وتستنير بحسنها، ولا يعدم القمر من وجدها.
إذا ظَفِرتْ مِنْكِ العُيُونُ بِنَظْرَةٍ ... أَثابَ بها مُعْي المَطِيِّ وَرَازِمُهْ
ثم قال: إن العيون إذا ظفرت بلحظة من محبوبته أوجبت من النشاط، وبعثت من الفرج، ما يثوب معه إلى المعي نشطته، وإلى الضعيف قوته.
حَبيبُ كأنَّ الحُسْنَ كان يُحِبُّهُ ... فَآثَرَهُ أوْ جَارَ في الحُسْنِ قاسِمُهْ
ثم وصف حبيبته بوفور الحظ من الحسن، حتى كأن الحسن أحبه، فخصه بجملته
وآثره في قسمته.
1 / 160
تَحُولُ رِمَاحُ الخَطَّ دُونَ سِبَائِهِ ... وَيُسْبَى لهُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ كَرائِمُهْ
ثم قال: إن محبوبته من قوم أعزة، لا يطرح عدو في أن يسبي فيهم، ولا تعتصم كرائم غيرهم منهم، وإنها تأمن السبي، ويسبى لها كرائم الأحياء.
وَيُضْحَى غُبارُ الخْيلِ أدْنَى سُتُورِهِ ... وآخِرُهَا نَشْرُ الكِبَاءِ المُلازِمُهْ
ثم ذكر: أن أدنى ستورها ممن أرادها غُبار خيول قومها، وأقربها منها دخان بخورها، فوصفها بأشد المنعة، وذكر أنها في غاية النعمة.
وَمَا اسْتَغْرَبَتْ عَيْني فِرَاقًَا رأيْتُهُ ... ولا عَلَّمَتْني غَيْرَ ما القَلْبُ عَالُمِه
ثم قال: إنه لم يستغرب ما طرقه به الدهر من فراق أحبته، لما تصرف فيه من حوادث الأيام وفجائعها، وإنما علم ما علم، وطرق بما عهد.
فلا يَتَّهِمْني الكَاشِحُونَ فَإنني ... رَعَيْتُ الرَّدَى حَتَّى حَلَتْ لي عَلاقِمُهْ
ثم قال: فلا يتهم الكاشحون قوله، ولا يستنكروا أمره، فقد تقلب في صروف الدهر وشدائده حتى استحلى مرة، واستسهل صعبه.
1 / 161
مُشِبُّ الذي يَبْكي الشَّبَابَ مُشِيْبُه ... فَكَيْفَ توَقَّيهِ وَبانْيهِ هَادِمُهْ
ثم ذكر تقلب الدهر بأهله، وتصريفه لهم بطبعه، وأنه الذي سر بالشباب وأبكى بالمشيب، فكيف توقيه! وإنما يهدم ما بناه، ويأخذ ما أعطاه.
وَتَكْملةُ العَيْشِ الصِّبَا وَعقِيْبُهُ ... وغَائِبُ لَوْنِ العَارضَيْنِ وَقَادِمُهْ
ثم قال: إن العمر إنما تكملته بالصبا والكبر، والشباب والشيب، وإنها تتعاقب وتتداول؛ فالصبا أول، والكبر آخر، وسواد الشعر غائب، والشيب قادم.
وما خَضَبُ النَّاسُ البَياضَ لأنهُ ... قَبِيْحُ ولكنْ أحْسَنُ الشَّعْرِ فَاحِمْهْ
ثم قال: إن الشيب لم يخضب لقبحه، ولا استحسن سواد الشعر لنفسه، ولكن الشيب ذل على انقضاء العمر فاستكره، وأطمع فاحم الشعر في العيش فاستحسن.
وأحْسَنُ مِنْ ماءِ الشَّبِيْبةَ كُلِّهِ ... حَيَا بارٍقٍ في فازَةٍ أنا شائِمُهْ
الحيا: الغيث الذي تحي به الأرض، والبارق: السحاب الملمع، والشائم الذي يرقب موضع الغيث، والفازة القبة.
1 / 162
وكان سيف الدولة قد اصطنع فازة ديباج فوصفها أبو الطيب في هذا الشعر، وتسبب، فقال: إن أحسن من ماء الشبيبة الذي اجتمع الناس على الكلف بوقته، والأسف لفقده، جود يشبه الغيث بكثرته، لملك يخلف السحاب بكرمه، نشيمه: أي: نرقبه من قبة، وننتجعه من فازة وأشار بذلك إلى كرم سيف الدولة الممدوح، وجعله حيًا على الاستعارة.
عَلَيْها رِياضُ لم تَحُكْهَا سَحَابةُ ... وأغْصَانُ دَوْحِ لم تَغَنَّ حَمَائِمُهْ
ثم وصف الفازة، فشبه أثوابها بقطع الرياض، إلا أن أمثلة زهراتها لم تحكه أيدي السحاب، وأغصان شجرها مخالفة لأغصان سائر الشجر؛ لأنها لا تتغنى حمائمها، ولا تتجاوب طيورها. فأومى بهذا الاشتراط إلى أنها صور ممثلة، وصناعات مؤلفة، وهذا من البديع يعرف بالإيماء والإشارة.
1 / 163
وَفَوْقَ خَواشي كُلِّ ثَوْبٍ مُوَجَّهِ ... مِن الدُّرِّ سِمْطُ لم يُثَقّبْهُ نَاظِمُهْ
السمط: السلك المغلق المنظوم، والموجه: المستقبل.
ثم ذكر: أن كل ثوب يستقبل من هذه الفازة فوق حواشيه سموط لآلئ تجتمع غير مثقوبة، وتتآلف غير منظومة، يومئ بهذا الاشتراط إلى أنها لآلئ أمثلة لا لآلئ حقيقة.
تَرَى حَيِوانَ البَّرَّ مُصْطَلحًَا بها ... يُحَاربُ ضِدُّ ضِدَّهُ ويُسَالُمهْ
ثم ذكر ما تشتمل عليه أثواب هذه الفازة من التصاوير، وأن الأضداد من حيوان البر تبدو فيها إذا سكنت مصطحبة متسالمة، وإذا اضطربت مختلفة متواثبة.
إذَا ضَرَبَتْهُ الرَّيحُ مَاجَ كأنَّه ... تَجُولُ مَذَاكِيهِ وَتَدْ أي ضَراغِمُه
المذاكي: الخيل المسنة، وتدأي: تتهيأ للوثوب، والضراغم: الأسد.
1 / 164
ثم يقول: إذا حركت الريح شيئًا من هذه الأثواب، أراك المذاكي من خيله في هيئة المتجاولة، والضراغم من أسده في هيئة المتصاولة.
وفي صُورةِ الرّوميِّ ذي التَّاجِ ذِلَّةُ ... لأبْلَجَ لا تيجَانَ إلاَّ عَمَائِمُهْ
الأبلج: النقي ما بين الحاجبين، وهو من صفات السادة.
فيقول: إن في أمثلة ذلك الديباج صورة سيف الدولة، وصورة ملك الروم وقد تخاضع له، وتذلل على عادته، وأن ملك الروم، وإن كان متوجًا فإن التيجان في الحقيقة العمائم التي هي زي سيف الدولة، وأن أرفع الزي زي من تكون له الغلبة، وتعرف فيه القدرة.
تُقَبِّلُ أفْواهُ المُلُوكِ بِساطَهُ ... وَيكْبُرُ عَنْها كُمُّهُ وَبَراجِمُهْ
البراجم: رؤوس السلاميات من ظاهرة الكف، إذا قبض القابض يده نشزت وارتفعت، واحدتها برجمة.
ثم أخذ في مدحه، ووصف حاله، فقال: إن الملوك يتواضعون عن تقبيل
1 / 165
يده وكمه، ويقتصرون على تقبيل بساطه، إعظامًا لقدره، واعترافًا بفضله.
قِيامًا لمن يَشْفي مِنَ الدَّاءِ كَيُّهُ ... ومِنْ بَيْن أذْني كُلِّ قَرْمٍ مواسِمُهْ
ثم ذكر أن الملوك يقومون بين يديه إعظامًا له، وأن أدبه يبصرهم من جهلهم، ويشفيهم من دائهم، وأن ملكه لقرومهم وذوي الأقدار منهم، يقوم مقام السمة بين آذانهم، والوشم في الأعناق والأيدي غاية استدلال المالك لمن ملكه، وقد فعل ذلك الحجاج بقوم من عجم السواد؛ ولذلك قال الفرزدق في بعض من طعن على نسبه من العرب:
لو كانَ حيًَّا لَهُ الحَجَّاجُ ما وُجِدَتْ ... كَفَّاهُ سَالِمةً من نَقْشِ حَجَّاجِ
قَبَائِعُها تَحتَ المَرَافِقِ هَيْبَةَ ... وأنْفَذَ مِمَّا في الجُفون عَزَائِمُهْ
القبائع: رؤوس السيوف، واحدتها قبيعة.
ثم ذكر أن الملوك لإعظامها له، تعتمد بين يديه على قبائع سيوفها، وعزائمه أنفذ مما في جفونها.
1 / 166
لَهُ عَسْكرا خَيْلٍ وطَيْرٍ إذا رَمَى ... بَها عَسْكَرًا لم تَبقَ إلاَّ جَمَاجِمُهْ
ثم ذكر أن الطير تصحب خيله اعتيادًا لكثرة وقائعها، على نحو قول النابغة.
إذا ما غَزَوا بالجيشِ حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب
فكأنها لملازمتها عسكره من عديد جيشه وحشمه، فإذا رمى عسكرًا بخيله وطيره أهله، ولم يبق منه غير جماجم أهله.
أجِلَّتُها من كُلَّ طَاغٍ ثَياُبُه ... وَمْوطُئَها مِنْ كُلَّ بَاغٍ مَلاَ غُمهُ
ثم ذكر قدرته على أعاديه، واستعلاءه على مخالفيه، فقال: إن جلال خيله من ثياب طغاتهم، وماطئها ملاغم أفولههم، مشيرًا بذلك إلى قتلهم، والملاغم: ما حول الفم، وليس تتم الصفة التي ذكر إلا بعد الإمعان في قتلهم، وإهلاكه لهم، وبلوغ الغاية في الظهور عليهم.
1 / 167
فقد مَلَّ ضَوْءُ الصُّبْحِ مِمَّا تُغِيُره ... وَمَلَّ سَوادُ الليلِ مِمَّا تُزَاحِمُهْ
ثم ذكر: أنه لا يزال يغير في الصبح، ويسري في الليل، ويطاعن بالرماح حتى تتكسر صدورها، ويلاطم بالسيوف حتى يملها.
ومَلَّ القَنَا مِمَّا تَدُقُّ صُدُور ... ومَلَّ حَدِيدُ الهْنِدِ مِمَّا تُلاَطُمهْ
سَحَابٌ مِنَ العِقْبَانِ تَزحَفُ تَحْتَهَا ... سَحَاب إذا اسْتَقَتْ سَقَْتَها صَوَارِمُهْ
ثم وصف جيوشه وكثرتها، وصحبة الطير لها وملازمتها، فشبه العقبان لكثرتها بسحائب مستعلية، تحتها سحاب من جيوشه، إذا استسقت سقتها سيوفه من ماء أعدائه، وألحمت طيوره أجسادهم وحذف من هذا في لفظه ما دل عليه بإشارته.
سَلَكْتُ الدَّهْرِ حَتَّى لَقِيْتُهُ ... عَلَى ظَهْرِ عَزْمِ مُؤْيدَاتٍ قَوَائمُهُ
المؤيدات: المثقلات.
ثم ذكر نفسه: أنه سلك صروف الدهر بتقلبه فيهان حتى لقي سيف
1 / 168
الدولة ممتطيًا لعزم قد أثقل وفوره قوائمه. وجرى هذا على سبيل. الاستعارة.
مَهَالِكَ لم تَصْحْب بَهَا الذَّئبَ نَفْسُهُ ... ولا حَمَلتْ فيِهَا الغُرابَ قَوادُِمهْ
ثم وصف ما تقلب فيه من خطوب الدهر، قبل لقائه سيف الدولة، التي لا تصحب الذئب فيها نفسه مع جراته عليها، ولا تحمل الغراب فيها قوادمه مع اعتياده لها.
والقوادم: صدور ريش جناح الطائر، أربع في كل جناح.
فَأَبْصَرْتُ بَدْرًا لا يَرَى البَدْرُ مِثْلَهُ ... وخَاَطْبُت بَحْرًا لا يَرَى العْبَر عَائِمْ
عبر النهر: شطه.
ثم ذكر: أنه من سيف الدولة؛ ممدوحه، بدر كرم، ومولى نعم، يستعظم البدر أمره، ويقصر دونه، ولا يعهد مثله، وخاطب بحرًا لا يبصر العائم شطه، ولا يدرك الناظر ساحله.
غَضِبْتُ لَهُ لَمَّا رَأيتُ صِفاتِهِ ... بِلاَ وَاصفٍ والشَّعر تَهْدي طَمَاطُمة
1 / 169
الطماطم: أصوات لا يستبين لفظها.
ذكر: أنه غضب له من جلالة أوصافه، وتقصير وصافه، وشبه ما كان يمدح من الشعر قبله بالطماطم، التي هي أصوات لا تفهم، واختلاطات لا تعلم، فوجه إلى قصده عزمه، وأعمل في امتداحه نفسه.
وكُنْتُ إذَا يَمَّمْتُ أرْضًَا بَعِيدة ... سَرَيْتُ فَكُنْتُ السِّرَّ واللَّيْلُ كَاتِمُهْ
يقول: إنه لنفاذ عزمه، وشدة جلده، إذا قصد أرضًا بعيدة إدرع الليل، والليل، واستتر به، وواصل السرى فيه، وكان موضعه من اشتمال الليل عليه، والخفاء فيه، موضع السر من حامله، والضمير المصون من كاتمه.
لَقَدْ سَلَّ سَيَّفَ الدَّوْلةِ المْجْدُ مُعْلِمًا ... فَلاَ المَجْدُ مُخْفِيهِ ولا الضَّرْبُ ثَالُمِهْ
ثم أخذ في المدح، فقال: إن المجد قد أعلم سيف الدولة، مباهيًا بجلالته، وواثقًا بصرامته، فلا المجد يخفيه لتزيينه بموضعه، ولا الضرب يتلثمه لحسبه وكرمه.
عَلَى عاتِقِ المُلْكِ الأغَرِّ نِجَادُهُ ... وفي يَد جَبَّارِ السَّماواتِ قائِمُهْ
1 / 170
ثم أخذ له صفات من اسمه، أبان بها جلالة قدوه، فقال: إنه من الملك في أرفع مواضعه، ومن تأيد الله ﷿ في المحل الذي تمضيه فيه يده، وإذا كان كذلك، اكتنفه نصرهن وساعدته أقداره.
تُجارِبُهُ الأعْدَاءُ وَهْيَ عِبَادُهُ ... وَتَدَّخِرُ الأمْوَالَ وَهْيَ غَنَائِمُهْ
ثم قال: الأعداد تحاربه وهي عباده، والعباد: جمع عبد على قياسه. لأن قدرته عليهم قدرة المالك على عبده، وتدخر الأموال وهي غنائم له؛ لأنها غير ممتنعة عليه.
وَيَستْكْبِرُون الدَّهْرُ والدَّهْرَ دُونه ... وَيَستْعظمون الموتَ والموتُ خَادُمِهُ
ثم قال: فمالهم يستكبرون الدهر، الدهر دونه؛ لأنه مستعمل بحسي إرادته، تقرب له فيه السعادة بغيته، ويسهل عليه الإقبال رغبته، وكذلك يستعظمون الموت، الموت يخدمه؛ لأنه يفني أعداءه، ويبتر أعمارهم، ويقلل عددهم، وييسر الله ذلك له، وينتقم من أعدائه به.
1 / 171
وإن الذي سَمَّى عَلِيًَّا لَمُنْصِفُ ... وإنَّ الذي سَمَّاهُ سَيْفًا لَظَالِمُهْ
ولما ذكر أن الدهر طوعه، والموت معينه، قضى بالظلم على من سماه سيفًا؛ لتقصر السيف عنه، وبالإنصاف على من سماه عليًا؛ لمشاكلة العلو له، وجعل هذا الاسم، وإن كان عليًا علمًا مخصوصًا، صفة مشتقة له، تشاكل حاله، وتوافق حقيقته.
وما كُلُّ سَيْفِ يَقْطَعُ الهامَ حَدُّهُ ... وتَقْطَعُ لَزْبَاتِ الزَّمَانِ مَكَارِمُهْ
ثم أكد ذلك بقوله: أنه لا يوجد سيف غيره يقطع الهام حده، ويوجب الخصب
فضله، وتقطع لزبات الزمان مكارمه، وهي الشدائد، فبين أن فضله على السيف فضل ظاهر، وشرفه عليه شرف بين، وأنه يقصر عنه، ويتواضع دونه.
1 / 172
وقال يمدحه، وقد عزم الرحيل عن إنطاكية:
أيْنَ أزْمَعْتَ أيُّهذا الهُمَامُ ... نَخْنُ نَبْتُ الرُّبَا وأنْتَ الغَمَامُ
المزمع: المعتزم، والربا: جمع ربوة، وهي الأكمة.
فيقول: أين أزمعت على الرحيل عنا أيها الملك، ونحن الذين أظهرتهم نعمك، إظهار الغمام لنبت الربا، وهو من آنق النبت، ولذلك ضرب الله تعالى المثل به، فقال تعالى: (ومَثَلُ الذينَ يُنْفِقونَ أمْوَالَهم ابْتِغاءَ مَرْضاتِ الله وتَثْبِيتًا من أنْفُسِهم، كَمَثلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أصَابها وابلُ).
وهو مع ذلك أقرب النبت موضعًا من الغمام، وأشده افتقارًا إليه، لأنه لا يقيم فيه، ويسرع الانسكاب عنه، ولهذا شبه أبو الطيب حاله به.
1 / 173
نَحْنُ مَنْ ضَايَقَ الزَّمانُ له في ... كَ وخَانَتْهُ قُرْبَكَ الأيَّامُ
ثم ذكر: أن الزمان ضايقه في الاقتراب من سيف الدولة، ولم يسمح له به، وخانته الأيام فيه؛ لاتصال حركاته، وكثرة غزواته.
في سَبيل العُلاّ قِتَالُكَ والسل ... مُ وَهَذا المُقامُ والإجْذَامُ
السلم: الصلح، وأوله يكسر ويفتح، فمن كسره ذكره، ومن فتحه أنثه، والإجذام: الإسراع.
فيقول: إن قتال سيف الدولة وسلمه، وإقامته ورحلته في طريق المجد وسبيل الكرم، وإنه لا يألف من ذلك إلا ما شرف قدره، وأظهر فضله.
ليْتَ أنا إذا ارتَحَلتْ لَكَ الخَيْلُ ... وَأنَّا إذا نَزَلْتَ الخِيَامُ
ثم قال: ليت أني ومن يتصل بي نتحمل من مئونتك ما تتحمله الخيل عند رحلتك، وننوب في صيانتك عن الخيام عند إقامتك، رغبة في الشرف بقربك، والقضاء لحقوق فضلك.
كُلَّ يَوْمٍ لَكَ احتِمَالُ جَديدُ ... وَمَسيرُ للمَجْدِ فيه مُقامُ
1 / 174
ثم ذكر: أنه لا ينفك من مرحلة وغزوة، يرفه المجد فيها بتعبه، ويجمه بتمونه،
فيوجب ذلك انفراده به، واجتيازه له، ولقد أبدع بالمطابقة بين المسير والمقام.
وإذَا كانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًَا ... تَعِبَتْ في مُرَادِهَا الأجْسَامُ
ثم قال: وإذا عظمت النفوس، وارتفعت الهمم، سهل في مرادها الشديد، وقرب البعيد، وتعبت الأجسام، الأجسام، واستكره المقام.
وَكَذا تَطْلُع البُدُورُ عَلَيْنَا ... وَكَذَا تَقْلَقُ البُحُورُ العِظَامُ
وكذلك البدور إنما تطلع علينا سائرة، وتبدو لأعيننا راحلة، والبحر يمد ويحشر، ويهيج ويضطرب، فبين أن من عظم شأنه، كثر تمونه، ولم يستقر به موضعه، والبدور جمع بدر، وكأنه جعل بدر كل شهر بدرًا على حياله.
ولَنَا عَادَةُ الجَميلِ من الصَّبرِ ... لَو أنَّا سِوَى نَوَاكَ
ثم يقول: نحن أهل الصبر والحفاظ، والمعتادون لذلك، لو أننا
1 / 175
نطرق بغير نواك، ونعرض لغير بعدك، ولكن ذلك مما يخذل الصبر فيه محاولة، ولا يسعد عليه طالبه.
كُلُّ عَيشٍ ما لَمْ تُطِبْهُ حِمَامُ ... كُلَّ شَمْسٍ ما لَمْ تَكُنْهَا ظَلامُ
ثم بين ذلك، بأن ذكر: أن العيش في غير جنبته موت، والحياة إذا لم تطب بقربه حمام، والشمس إذا لم تتأيد بضيائه ظلمته، والنهار إذا لم يستمد ببهجته سدفة، ومن كانت هذه حاله، فالصبر معدوم عند فقده.
أزِلِ الوَحْشَةَ التَّي عِنْدَنا يا ... مَنْ بِهِ يأنَسُ الخميسُ اللُّهَامُ
الخميس: الجيش، واللهام: الذي يلتهم الأرض بكثرته، والالتهام: الابتلاع.
فيقول: أزل بقدومك علينا الوحشة التي أوجبتها رحيلك عنا، يا من بموضعه يأنس الجيش الكثير، والذي يعتد الجيش بشجاعته أكثر من اعتداده بجماعته. وأبدع بالمطابقة بين الأنس والوحشة.
والذي يَشْهَدُ الوغى سَاكِنَ ... القلْبِ كأنَّ القِتَالَ فِيها ذِمَامُ
ثم قال: والذي يشهد الحرب، رابط الجأش، ثابت النفس، غير
1 / 176