شرح نهج البلاغة
محقق
محمد عبد الكريم النمري
الناشر
دار الكتب العلمية
الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤١٨ هجري
مكان النشر
بيروت
ثم قام فسكت الناس كلهم ، فقال : أيها الناس ، إن أمري لم يزل معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب ، وقد والله أخذت منكم وتركت ، وأخذت من عدوكم فلم تترك ، وإنها فيهم أنكى وأنهك ، ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا ، وكنت ناهيا فأصبحت منهيا ، وقد أحببتم البقاء ، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون . ثم قعد .
قال نصر : ثم تكلم رؤساء القبائل ، فكل قال ما يراه ويهواه ، إما من الحرب أو من السلم ، فقام كردوس بن هانئ البكري فقال : أيها الناس ، إنا والله ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه ، ولا تبرأنا من علي منذ توليناه ، وإن قتلانا لشهداء ، وإن أحياءنا لأبرار ؛ إن عليا لعلى بينة من ربه ، وما أحدث إلا الإنصاف ، فمن سلم له نجا ، ومن خالفه هلك . ثم قام شقيق بن ثور البكري ، فقال : أيها الناس ، إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله ، فردوه علينا ، فقاتلناهم عليه ، وإنهم قد دعونا اليوم إليه ، فإن رددناه عليهم حل لهم منا ما حل لنا منهم ، ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ورسوله ، ألا إن عليا ليس بالراجع الناكس ، ولا الشاك الواقف ، ؛ وهو اليوم على ما كان عليه أمس ، وقد أكلتنا هذه الحرب ، ولا نرى البقاء إلا في الموادعة .
قال نصر : ثم إن أهل الشام لما أبطأ عنهم علم حال أهل العراق : هل أجابوا إلى الموادعة أم لا ؟ جزعوا فقالوا : يا معاوية ، ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه ، فأعدها جذعة ، فإنك قد غمرت بدعائك القوم ، وأطمعتهم فيك .
فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص ، فأمره أن يكلم أهل العراق ، ويستعلم له ما عندهم ، فأقبل حتى إذا كان بين الصفين نادى : يا أهل العراق ، أنا عبد الله بن عمرو بن العاص ، إنه كانت بيننا وبينكم أمور للدين أو الدنيا فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا وأعذرتم ، وإن تكن للدنيا فقد والله أسرفنا وأسرفتم ، وقد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه لأجبناكم ، فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذاك من الله . فاغتنموا هذه الفرصة ، عسى أن يعيش فيها المحترف وينسى فيها القتيل فإن بقاء المهلك بعد الهلك قليل .
فأجابه سعد بن قيس الهمداني ، فقال : أما بعد يا أهل الشام ، إنه قد كانت بيننا وبينكم أمور حامينا فيها على الدين والدنيا ، وسميتموها غدرا وسرفا ، وقد دعوتمونا اليوم إلى ما قاتلناكم عليه أمس ، ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم ، وأهل الشام إلى شامهم ، بأمر أجمل من أن يحكم فيه بما أنزل الله سبحانه ، فالأمر في أيدينا دونكم ، وإلا فنحن نحن وأنتم أنتم .
فقام الناس إلى علي عليه السلام ، فقالوا : أجب القوم إلى المحاكمة ، قال : ونادى إنسان من أهل الشام في جوف الليل بشعر سمعه الناس ، وهو :
رؤوس العراق أجيبوا الدعاء . . . فقد بلغت غاية الشده
وقد أودت الحرب بالعالمين . . . وأهل الحفائظ والنجده
صفحة ١٣٠