شرح نهج البلاغة
محقق
محمد عبد الكريم النمري
الناشر
دار الكتب العلمية
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤١٨ هجري
مكان النشر
بيروت
أطت بهم أرحامهم فلم يطع
ثائرة الغيط ولم يشف الغلل
ومنها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط ، كان عبد الله بن الزبير شجاعا وكان أبخل الناس ن ، وكانالزبير أبوه شجاعا وكان شحيحا ، قال له عمر : لو وليتها لظلت تلاطم الناس في البطحاء على الصاع والمد ، وأراد علي عليه السلام أن يحجر على عبد الله بن جعفر لتبذيره المال ، فاحتال لنفسه ، فشارك الزبير في أمواله وتجاراته ، فقال عليه السلام ، أما إنه قد لاذ بملاذ ، ولم يحجر عليه ، وكان طلحة شجاعا وكان شحيحا ، أمسك عن الإنفاق حتى خلف من الأموال ما لا يأتي عليه الحضر ، وكان عبد الملك شجاعا وكان شحيحا ، يضرب به المثل في الشح ، وسمي رشح الجر لبخله ، وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في الشجاعة والسخاء كيف هيي ، وهذا من أعاجيبه أيضا عليه السلام . | قال الرضي رحمه الله : وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد ، والمعنى المكرر ، والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا ، فربما اتفق الكلام المختار فيء رواية فنقل على وجهه ، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول ، إما بزيادة مختارة ، أو بلفظ أحسن عبارة ، فتقتضي الحال أن يعاد ، استظهارا للاختيار ، وغيرة على عقائل الكلام ، وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا ، فأعيد بعضه سهوا ونسيانا ، لا قصدا أو اعتمادا ، ولا أدعي مع ذلك أنني أحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام ، حتى لا يشد عني منه شاذ ، ولا يند ناد ، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي ، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي ، وما علي إلا بذل الجهد ، وبلاغة الوسع ، وعلى الله سبحانه نهج السبيل ، وإرشاد الدليل . | ورأيت من بعد تسميه هذا لالكتاب بنهج البلاغة ، إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ، ويقرب عليه طلابها ، وفيه حاجة العالم والمتعلم ، وبغية البليغ والزاهد ، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل ، وتنزيه الله سبحانه وتعالى من شبه الخلق ، ما هو بلال كل غلة ، وشفاء كل علة ، وجلاء كل شبهة ، ومن الله استمد التوفيق والعصمة ، وأتنجز التسديد والمعونة ، واستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان ومن زلة الكلم قبل زلة القدم ، وهو حسبي ونعم الوكيل . | الشرح : في أثناء هذا الاختيار : تضاعيفه ، واحدها ثني كعذق وأعذاق ، والغيرة بالفتح والكسر خطأ . وعقائل الكلام : كرائمه ، وعقيلة الحي : كريمته ، وكذلك عقيلة الدود ، والأقطار : الجوانب ، واحدها قطر . والناد : المنفرد ، ند البعير يند . الربقة : عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة . وقوله : وقوله ' وعلى الله نهج السبيل ' أي إبانته وإيضاحه ، نهجت له نهجا ، وأما اسم الكتاب فنهج البلاغة ، والنهج هنا ليس بمصدر ، بل هو اسم للطريق الواضح نفسه ، والطلاب ، بكسر الطاء : الطلب ، والبغية : ما ينبغي . وبلال كل غلة ، بكسر الباء : ما يبل به الصدى : ومنه قوله : انصحوا الرحم ببلالها ، أي صلوها بصلتها وندوها ، قال أوس :
كأني خلوت الشعر حين مدحته
صفا صخرة صماء يبس بلالها
وإنما استعاذ من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان ، لأن خطأ الجنان أعظم وأفحش من خطأ اللسان ، ألا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفر الإنسان بلسانه وهو غير معتقد للكفر بقلبه ، وإنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلة القدم ، لأنه أراد زلة القدم الحقيقية ، ولا ريب أن زلة القدم أهون وأسهل ، لأن العاثر يستقيل من عثرته ، وذا الزلة تجده ينهض من صرعته ، وأمة الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها ، ولا ينهض صريعها ، وطالما كانت لا شوى لها ، قال أبو تمام :
يا زلة ما وقيتم شر مصرعها
وزلة الرأي تنسي زلة القدم
صفحة ٤٠