169

شرح نهج البلاغة

محقق

محمد عبد الكريم النمري

الناشر

دار الكتب العلمية

رقم الإصدار

الأولى

سنة النشر

١٤١٨ هجري

مكان النشر

بيروت

لولا محاذرة العواقب لم تزل . . . للحاسد النعمى على المحسود

وتذاكر قوم من ظرفاء البصرة الحسد ، فقال رجل منهم : إن الناس ربما حسدوا على الصلب ، فأنكروا ذلك ، ثم جاءهم بعد ذلك بأيام ، فقال : إن الخليفة قد أمر بصلب الأحنف بن قيس ، ومالك بن مسمع ، وحمدان الحجام ؛ فقالوا : هذا الخبيث يصلب مع هذين الرئيسين ! فقال : ألم أقل لكم إن الناس يحسدون على الصلب ! وروى أنس بن مالك مرفوعا : إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب .

وفي الكتب القديمة : يقول الله عز وجل : ' الحاسد عدو نعمتي ، متسخط لفعلي ، غير راض بقسمتي ' .

وقال الأصمعي : رأيت أعرابيا قد بلغ مائة وعشرين سنة ، فقلت له : ما أطول عمرك ! فقال : تركت الحسد فبقيت .

وقال بعضهم : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد .

قال الشاعر :

تراه كأن الله يجدع أنفه . . . وأذنيه إن مولاه ثاب إلى وفر

وقال آخر :

قل للحسود إذا تنفس ضغنه . . . يا ظالما وكأنه مظلوم !

ومن كلام الحكماء : إياك والحسد ، فإنه يبين فيك ولا يبين في المحسود .

ومن كلامهم : من دناءة الحاسد أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب .

وقيل لبعضهم : لزمت البادية ، وتركت قومك وبلدك ! قال : وهل بقي إلا حاسد نعمة ، أو شامت بمصيبة ! بينا عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه ، إذ هتف هاتف : يا أمير المؤمنين ، طأطئ من إشرافه ، وقصر من عنانه ، واشدد من شكاله - وكان عبد الملك متهما عند الرشيد بالطمع في الخلافة - فقال الرشيد : ما يقول هذا ؟ فقال عبد الملك : مقال حاسد ودسيس حاقد يا أمير المؤمنين . قال : قد صدقت ، نقص القوم وفضلتهم ، وتخلفوا وسبقتهم ؛ حتى برز شأوك ، وقصر عنك غيرك ، ففي صدورهم جمرات التخلف ، وحزازات التبلد . قال عبد الملك : فأضرمها يا أمير المؤمنين عليهم بالمزيد ، وقال شاعر :

يا طالب العيش في أمن وفي دعة . . . محضا بلا كدر ، صفوا بلا زنق

خلص فؤادك من غل ومن حسد . . . فالغل في القلب مثل الغل في العنق

ومن كلام عبد الله بن المعتز : إذا زال المحسود عليه ، علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شيء .

صفحة ١٨٩