شرحُ مُسْنَد الشَّافِعيِّ
تأليفُ
الإِمام العلَّامة حُجَّة الإِسلام
عبد الكريم بن محمَّد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسن القزويني
أبي القاسم الرافعي الشافعي
المتوفى سنة ٦٢٣هـ
حقّقه
أبو بكر وائل محمَّد بكر زهران
(دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث)
المجلد الأول
إصدارات
وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية
إدارة الشؤون الإِسلامية
دولة قطر
1 / 1
شرح مسند الشافعي
1 / 3
حُقُوق الطبع مَحْفُوظَة
لوزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية
إدارة الشؤون الإِسلامية
دولة قطر
الطَبعة الأولى/ ١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إدارة الشؤون الإِسلامية
الحمدُ لله حقَّ حمده، والصلاةُ والسلامُ على نبيه وآله وصحبه.
أما بعد:
فإنَّ "شرحَ مسند الإمام الشافعي" للإمام أبي القاسم الرافعي (ت ٦٢٣ هـ) يوضح أدلة الفقه الشافعي من السنة النبوية، وقد أفاضَ الإمامُ الرافعي في بيان الأحاديث ورواتِها وعللِ بعضِها، بما يغني القاريء عن مراجعة كتب علم الرجال، والكتاب مليءٌ بالفوائدِ الفقهيةِ والحديثيةِ، إذا لا يخفى أن الإِمام الرافعيَّ يقفُ في مقدمة علماء الشافعية، هو والإمامَ النوويّ، فهما معتمدان في تقرير أحكامِ المذهبِ.
وقد حَظيَ الكتابُ بقراءةٍ وتعليقاتٍ نافعةٍ، ونأملُ أن يسدَّ ثغرة في المكتبة الإِسلامية، فهو يُنشر للمرة الأولى بعد أن بقي قرونًا طويلةً بعيدًا عن أيدي القُرَّاءِ.
ومما يجدرُ التنبيه إليه أن "مسند الشافعي" الذي شرحه الرافعي، مستل من "كتاب الأم" النسخة المصرية التي تمثل فقه الشافعي الجديد، وللشافعي "كتاب الرسالة" المشهورة، وهو أيضًا إصداران: في العراق أولًا ثم في مصر ثانيًا، وكانت النسخة المصرية عند الإِمام أحمد بن حنبل، وهذا ما لم تكشف عنه الدراساتُ الحديثةُ، فالحمدُ للهِ على توفيقِهِ.
إدارة الشؤون الإِسلامية
1 / 5
شكر وتقدير
إلى أستاذي الفاضل: الشيخ حسين عكاشة
فقد راجع معي الكتاب
وإلى أخي الحبيب الشيخ خالد الرباط
صاحب دار الفلاح
والأخ الفاضل أ/ محمود حمزة
والأخ الفاضل/ أبي مهاب محمَّد فاروق رشاد
على ما بذلوه من مجهودٍ كبير لإخراج الكتاب
وإلى زوج أختي: أبو أحمد أشرف أبو زيد النزيلي
على إحضاره لي المخطوط من جامعة الكويت
فجزاهم الله خيرًا
1 / 6
مقدمة
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيدنا ونبينا محمَّد أشرفِ الخلقِ وخاتَمِ الأنبياءِ والمُرسلين.
وبعد
فإنَّ كتاب مسند الإِمام الشافعيّ لا تخفى أهميته، وشرحه هذا يضاعف تلك الأهمية، حيث إن مؤلفه الإِمام الرافعي من كبار أئمة الشافعية، ومتفق على عظيم منزلته واعتماد آرائه في المذهب الشافعي، مع اعتنائه بعلوم الحديث رواية ودراية كما يظهر هذا من خلال كتابه هذا وغيره.
ثم إنَّ النسخة الخطية التي اعتُمد عليها في تحقيقِ هذا الشرح، تُعَدُّ وحيدةً في مكتبات المخطوطات المفهرسة، فهذا التحقيق والنشر الطباعي لها، يُعد إنقاذًا حقيقيًّا للكتاب من الهَلَكَةِ، التي تعرضت لها نسخ الكتاب الأخرى، كما أن في ذلك إحياء لما تضمنه هذا الشرح من معارف وآرء ونصوص لا يوجد مجموعها في غيره، ولا أعلم أن الكتاب قد طُبع قبل هذه الطبعة.
وهذا من شأنه أن يحفز همم الناشرين إلى الإقبال عليه، والحرص على تعجيل طبعه.
لكن الأخ الفاضل الشيخ "وائل بكر" محقق الكتاب، وكذلك بعض إخوانه الأفاضل، رغبوا إليَّ أن أكتب هذا التقديم المتواضع لتلك الطبعة الأولى للكتاب.
1 / 7
وقدم إليَّ الأخ المحقق ما كتبه في مقدمة التحقيق من التعريف بالإمام الشافعي، ومسنده والتعريف بالإمام الرافعي وشرحه، والتعريف بنسخة الشرح الخطية وبيان منهج تحقيق النص وتوثيقه والتعليق عليه.
كما قدم لي بعض نماذج الشرح المحققة، وبعد مراجعة هذا كله، تحدثت مع الأخ المحقق في بعض الجوانب الأخرى مما لم أطَّلع عليه، وعلى ضوء ذلك أبديت له بعض الملحوظات اليسيرة في مباحث مقدمة التحقيق، فاستجاب مشكورًا لها.
وبذلك يكون هذا العمل متميزًا، بما حواه من جهود متنوعة في مقدمات التحقيق، وفي إخراج النص محققًا وموثقًا ومعلقًا على ما رآه المحقق بحاجة إلى تعليق.
ثم ما صُنع له من فهارس فنية تيسر الاستفادة من محتوياته، ولا سيما فهرس الرواة المعرف بهم خلال الشرح، وفهرس الأحاديث والآثار، والموضوعات، وغيرها.
وأسألُ الله تعالى لنا وللأخ المحقق كل توفيق وسداد، وكذا لمن يسعى في إخراج هذا العمل إلى أيدي طلبة العلم إنه سميع مجيب.
وكتب
أ. د. أحمد معبد عبد الكريم
أستاذ الحديث بجامعة الأزهر
1 / 8
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ، ونعوذ بالله مِنْ شرورِ أنفسنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إلله إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ (١).
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ (٢).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ (٣).
أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمَّد ﷺ وشرَّ الأمورِ محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وبعد:
فإن من أعظم حقوق علمائنا السابقين علينا أن نعمل على نشر كتبهم بعد ضبطها ضبطًا صحيحًا، فإن لم نستطع السداد فلنقارب؛ فإن علماءنا قد بذلوا جهدًا كبيرًا وعناءً وسهرًا حتى يقدموا لأمة الحبيب هذه الثمرات الطيبة، بل إن من علمائنا وسلفنا الصالح من كان يسافر السفر الطويل الشاق من أجل التقصي والبحث والضبط، فرحم الله سلفنا
_________
(١) آل عمران: ١٠٢.
(٢) النساء: ١.
(٣) الأحزاب: ٧٠ - ٧١.
1 / 9
الصالح، وجازهم يا الله عنا خير الجزاء.
وإن من البر والإحسان أن نعمل على تقديم كل نافع ومفيد إلى طلبة العلم حتى يتزودوا به ويتسلحوا لأعداء هذا الدين، فنحن الآن والله نواجه حربًا على ديننا الحنيف، والواجب علينا هو طلب العلم الشرعي والتسلح به، ونشر كتب السلف الصالح.
وإنه ليسعدني أن أقدم إلى أحبتي وإخواني في الله كتاب: "شرح مسند الشافعي" وهو كتاب نافع مفيد -إن شاء الله تعالى- يحوي من درر الفوائد الفقهية، وغرر العوائد الحديثية، ما تقر به الأعين، فلا يستغني عنه طالب فقه ولا حديث بإذن الله تعالى، سائلًا الله ﷿ أن ينفع به المسلمين، وأن يسدد خطانا في سبيل ضبط ونشر كتب سلفنا الصالحين، رحمة الله عليهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
وقد قمت بعمل مقدمة لهذا العمل الطيب المبارك، احتوت على ثلاثة أبواب:
الأول: "الإِمام الشافعي ومسنده".
الثاني: "التعريف بالإمام الرافعي وشرحه".
الثالث: "منهج العمل في تحقيق الكتاب".
1 / 10
الباب الأول "مسند الإِمام الشافعي"
وفيه مباحث:
الأول: التعريف بالإمام الشافعي.
الثاني: مسند الشافعي.
الثالث: التعريف بالإمام الربيع راوي المسند.
الرابع: التعريف بالإمام أبي العباس الأصمّ جامع المسند.
الخامس: عناية العلماء بمسند الشافعي.
1 / 11
المبحث الأول "التعريف بالإمام الشافعي" (١)
محمَّد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، الإِمام عالم العصر، ناصر الحديث، فقيه الملة، أبو عبد الله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي، الغزي المولد، نسيب رسول الله ﷺ وابن عمه؛ فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب.
مولده ونشأته:
ولد الإِمام الشافعي في سنة خمسين ومائة، وهي السنة التي توفي فيها الإِمام أبو حنيفة النعمان ﵀.
والمشهور الذي عليه الجمهور أنه ولد بغزة وقيل عسقلان، وقيل: باليمن.
قال البيهقي: والذي يدل عليه سائر الروايات من ولادته بغزة ثم حمله منها إلى عسقلان ثم إلى مكة أشهر (٢).
ومات أبوه إدريس شابًّا فنشأ محمَّد يتيمًا في حجر أمه فخافت عليه
_________
(١) انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" ١/ ٤٢، "الجرح والتعديل" ٧/ ٢٠١، "حلية الأولياء" ٩/ ٦٣ - ١٦١، "مناقب الشافعي" للبيهقي ١/ ٧٦، "تاريخ بغداد" ٢/ ٥٦ - ٧٦، "صفوة الصفوة" ٢/ ١٦٥، "تهذيب الأسماء والصفات" ١/ ٤٤ - ٦٧، "وفيات الأعيان" ٤/ ١٦٣ - ١٦٩، "سير أعلام النبلاء" ١٠/ ٥ - ٩٩، "الوافي بالوفيات" ٢/ ١٧١ - ١٨١، "البداية والنهاية" ١٠/ ٦٩١ - ٦٩٤، "طبقات الشافعية" للإسنوي ١/ ١١ - ١٤.
(٢) "مناقب الشافعي" للبيهقي ١/ ٧٥.
1 / 12
الضيعة فتحولت به إلى مكة وهو ابن عامين فنشأ بمكة.
طلبه للعلم:
أقبل الإِمام الشافعي ﵁ على طلب العلم منذ الصغر، وكان قبل ذلك مقبلًا على الرمي حتى فاق فيه الأقران، وصار يصيب من عشرة أسهم تسعةً، ثم أقبل على العربية والشعر فبرع في ذلك كله.
يقول الشافعي عن نفسه: كنت يتيمًا في حجر أمي فدفعتني إلى الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي من أن أَخْلُفَهُ إذا قام، فلما جَمَعْتُ القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث والمسألة فأحفظهما، فلم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به القراطيس، فكنت أنظر إلى العظم فآخذه فأكتب فيه فإذا امتلأ طرحته في جرّة، فاجتمع عندي حُبَّان -جرة ضخمة-. (١)
قال مصعب بن عبد الله الزبيري: كان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام الناس والأدب، ثم أخذ في الفقه بعد، وكان سبب أخذ الفقه: أنه كان يومًا يسير على دابة له وخلفه كاتب لأبي، فتمثل الشافعي بيت شعر، فقرعه كاتب أبي بسوط، ثم قال له: مثلك تذهب مروءته في مثل هذا، أين أنت من الفقه؟ قال: فهزه ذلك، فقصد مجالس الزنجيّ بن خالد وكان مفتي مكة، ثم قدم علينا فلزم مالك بن أنس. (٢)
أخذ الشافعي العلم ببلده عن: مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة، وداود بن عبد الرحمن العطار، وعمه محمَّد بن علي بن شافع فهو ابن
_________
(١) رواه ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي" ص ٢٤، وأبو نعيم في "الحلية" ٩/ ٧٣، والبيهقي في "مناقب الشافعي" ١/ ٩٢.
(٢) رواه أبو نعيم ٩/ ٧٠ - ٧١، والبيهقي في "مناقب الشافعي" ١/ ٩٦.
1 / 13
عم العباس جد الشافعي، وسفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، وسعيد بن سالم، وفضيل بن عياض، وعدة.
وارتحل وهو ابن نيف وعشرين سنة وقد أفتى وتأهَّل للإمامة إلى المدينة، فحمل عن مالك بن أنس "الموطأ" عرضه من حفظه، وقيل: من حفظه لأكثره، وحمل عن إبراهيم بن أبي يحيى فأكثر، وعبد العزيز الدراوردي، وعطاف بن خالد، وإسماعيل بن جعفر، وإبراهيم بن سعد، وطبقتهم.
وأخذ باليمن عن: مطرف بن مازن، وهشام بن يوسف القاضي، وطائفة. وببغداد عن: محمَّد بن الحسن فقيه العراق ولازمه وحمل عنه وقر بعير، وعن إسماعيل بن علية، وعبد الوهاب الثقفي، وخلق.
وصنف التصانيف، ودون العلم، وردَّ على الأئمة متبعًا الأثر، وصنف في أصول الفقه وفروعه، وبَعُدَ صيته، وتكاثر عليه الطلبة.
حدث عنه: الحميدي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبو يعقوب يوسف البويطي، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وحرملة بن يحيى، وموسى بن أبي الجارود المكي، وعبد العزيز المكي صاحب "الحيدة"، وحسين بن علي الكرابيسي، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، والحسن بن محمَّد الزعفراني، وأحمد بن محمَّد الأزرقي، وأحمد بن سعيد الهمداني، وأحمد بن أبي شريح الرازي، وأحمد بن يحيى بن وزير المصري، وأحمد بن عبد الرحمن الوهبي، وابن عمه إبراهيم بن محمَّد الشافعي، وإسحاق بن راهويه، وإسحاق بن بهلول، وأبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي المتكلم، والحارث بن سريج النقال، وحامد بن يحيى البلخي، وسليمان بن داود المهري، وعبد العزيز بن عمران بن مقلاص، وعلي بن
1 / 14
معبد الرقي، وعلي بن سلمة اللبقي، وعمرو بن سواد، وأبو حنيفة قحزم بن عبد الله الأسواني، ومحمد بن يحيى العدني، ومسعود بن سهل المصري، وهارون بن سعيد الأيلي، وأحمد بن سنان القطان، وأبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، ويونس بن عبد الأعلى، والربيع ابن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزي، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وبحر بن نصر الخولاني، وخلق سواهم (١).
مناقبه وأقوال العلماء فيه:
صنف كبار العلماء في مناقب هذا الإِمام قديمًا وحديثًا، ونال بعض الناس منه غضًّا فما زاده ذلك إلا رفعة وجلالة، ولاح للمنصفين أن كلام أقرانه فيه بهوى، وقلَّ من برز في الإمامة وردَّ على من خالفه إلا وعودي نعوذ بالله من الهوى، وهذه الأوراق تضيق عن مناقب هذا السيد.
فأما جدهم السائب المطلبي، فكان من كبراء من حضر بدرًا مع الجاهلية فأسر يومئذ، وكان يشبَّه بالنبي ﷺ، ووالدته هي الشفاء بنت أرقم بن نضلة ونضلة هو أخو عبد المطلب جد النبي ﷺ، فيقال: إنه بعد أن فدى نفسه أسلم.
وابنه شافع له رؤية، وهو معدود في صغار الصحابة.
وولده عثمان تابعي، لا أعلم له كبير رواية.
وكان أخوال الشافعي من الأزد.
قال المزني: ما رأيت أحسن وجهًا من الشافعي ﵀ وكان ربما قبض على لحيته فلا يفضل عن قبضته.
_________
(١) انظر: "تاريخ بغداد" ٢/ ٥٦ - ٥٧، "سير أعلام النبلاء" ١٠/ ٥ - ٨.
1 / 15
وقال أبو عبيد: ما رأيت أعقل من الشافعي.
وقال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة.
قال الذهبي: هذا يدل على كمال عقل هذا الإِمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون.
وقال معمر بن شبيب: سمعت المأمون يقول: قد امتحنت مُحَمَّد ابن إدريس في كل شيء فوجدته كاملًا.
وقال أحمد بن مُحَمَّد ابن بنت الشافعي: سمعت أبي وعمي يقولان: كان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا التفت إلى الشافعي فيقول: سلوا هذا.
وقال تميم بن عبد الله: سمعت سويد بن سعيد يقول: كنت عند سفيان، فجاء وجلس فروى ابن عيينة حديثًا رقيقًا فغشي على الشافعي، فقيل: يا أبا مُحَمَّد مات مُحَمَّد بن إدريس، فقال ابن عيينة: إن كان مات فقد مات أفضل أهل زمانه (١).
عقيدته:
كان الشافعي على عقيدة أهل السنة والجماعة مبغضًا لما سواها.
قال الحاكم: سمعت أبا سعيد بن أبي عثمان، سمعت الحسن ابن صاحب الشاشي، سمعت الربيع، سمعت الشافعي وسئل عن القرآن فقال: أف أف القرآن كلام الله، من قال: مخلوق؛ فقد كفر.
وقال أبو داود وأبو حاتم: عن أبي ثور، سمعت الشافعي يقول: ما
_________
(١) انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٠/ ١٧.
1 / 16
ارتدى أحد بالكلام فأفلح.
وقال محمَّد بن يحيى بن آدم: حدثنا ابن عبد الحكم، سمعت الشافعي يقول: لو علم الناس ما في الكلام والأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد.
وقال الزبير بن عبد الواحد: أخبرني علي بن محمَّد بمصر، حدثنا محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: كان الشافعي بعد أن ناظر حفصًا الفرد يكره الكلام، وكان يقول: والله لأن يفتي العالم فيقال: أخطأ العالم خير له من أن يتكلم فيقال: زنديق، وما شيء أبغض إلي من الكلام وأهله.
قال الذهبي: هذا دال على أن مذهب أبي عبد الله أن الخطأ في الأصول ليس كالخطأ في الاجتهاد في الفروع (١).
قال المزني: سمعت الشافعي يقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تكلم في الفقه نما قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه قال: كان الشافعي إذا ثبت عنده الخبر قلده، وخير خصلة كانت فيه: لم يكن يشتهي الكلام إنما همته الفقه.
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يقسي القلب ويورث الضغائن.
وسمعنا الشافعي يقول: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا
_________
(١) انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٠/ ١٩.
1 / 17
بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر ينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام.
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
وسمعته يقول: تجاوز الله عما في القلوب، وكتب على الناس الأفعال والأقاويل.
وعن الشافعي قال: ما كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني، ولا قبله إلا هبته واعتقدت مودته.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: قال الشافعي: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه كوفيًّا كان أو بصريًّا أو شاميًّا.
وقال حرملة: قال الشافعي: كل ما قلته فكان من رسول الله ﷺ خلاف قولي مما صح فهو أولى، ولا تقلدوني.
وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ﷺ فقولوا بها ودعوا ما قلته.
وسمعته يقول وقد قال له رجل: تأخذ بهذا الحديث يا أبا عبد الله؟ فقال: متى رويت عن رسول الله حديثًا صحيحًا ولم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.
وقال الحميدي: روى الشافعي يومًا حديثًا، فقلت: أتأخذ به؟ فقال: رأيتني خرجت من كنيسة، أو علي زنار حتى إذا سمعت عن رسول الله ﷺ حديثًا لا أقول به.
قال الربيع: وسمعته يقول: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا رويت عن رسول الله ﷺ حديثًا فلم أقل به.
1 / 18
ويروى أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط.
ومن أقواله ﵁: (١)
بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.
وعنه: ما رفعت من أحد فوق منزلته إلا وضع مني بمقدار ما رفعت منه.
وعنه: ضياع العالم أن يكون بلا إخوان، وضياع الجاهل قلة عقله، وأضيع منهما من واخى من لا عقل له.
وعنه: إذا خفت على عملك العجب فاذكر رضى من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب؛ فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله، آلات الرياسة خمس: صدق اللهجة، وكتمان السر، والوفاء بالعهد، وابتداء النصيحة، وأداء الأمانة.
قال محمَّد بن عصمة الجوزجاني: سمعت الربيع، سمعت الشافعي يقول: ثلاثة أشياء دواء من لا دواء له، وأعيت الأطباء مداواته: العنب ولبن اللقاح وقصب السكر، لولا قصب السكر ما أقمت ببلدكم.
وسمعته يقول: كان غلامي أعشى لم يكن يبصر باب الدار؛ فأخذت له زيادة الكبد فكحلته بها فأبصر.
وعنه: عجبًا لمن تعشى البيض المسلوق فنام كيف لا يموت؟!.
وعنه: الفول يزيد في الدماغ، والدماغ يزيد في العقل.
وعنه: لم أر أنفع للوباء من البنفسج يدهن به ويشرب.
_________
(١) انظر: "مناقب الشافعي" للبيهقي ٢/ ١٢٢، "سير أعلام النبلاء" ١٠/ ٤١.
1 / 19
وعن الشافعي: العلم ما نفع، ليس العلم ما حفظ.
وعنه: اللبيب العاقل هو الفطن المتغافل.
وعنه: لو أعلم أن الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته.
وقيل له: ما لك تكثر من إمساك العصا ولست بضعيف؟ قال: لأذكر أني مسافر.
وقال: من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء الدنيا.
وقال: الخير في خمسة: غنى النفس، وكف الأذى، وكسب الحلال، والتقوى، والثقة بالله.
وعنه: أنفع الذخائر التقوى وأضرها العدوان.
وعنه: اجتناب المعاصي وترك ما لا يعنيك ينور القلب عليك بالخلوة، إياك ومخالطة السفهاء ومن لا ينصفك، إذا تكلمت فيما لا يعنيك ملكتك الكلمة ولم تملكها.
وعنه: لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس صرف إلى الزهاد.
وعنه: سياسة الناس أشد من سياسة الدواب.
وعنه: العاقل من عَقَلَهُ عَقْلُه عن كل مذموم.
وعنه: للمروءة أركان أربعة حسن الخلق والسخاء والتواضع والنسك.
وعنه: لا يكمل الرجل إلا بأربع: بالديانة والأمانة والصيانة والرزانة.
وعنه: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته.
وعنه: علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقًا.
وعنه: من نم لك نم عليك.
وعنه قال: التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام، التواضع يورث المحبة والقناعة تورث الراحة.
1 / 20
وقال: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلا من لا يرى فضله.
وقال: ما ضحك من خطأ رجل إلا ثبت صوابه في قلبه.
مصنفاته: (١)
١ - " الرسالة" وهو أول مؤلف ظهر في علم الأصول.
٢ - "الحجة" وهو الذي أملاه على تلامذته بالعراق، ويُعبَّر عن مسائله بأنها مذهب الشافعي القديم.
٣ - "أحكام القرآن" وهو كتاب عظيم النفع، ونموذج رائع في الكتابة الفقهية الأصلية.
٤ - "إبطال الاستحسان" يرد فيه على الحنفية القائلين به.
٥ - "جماع العلم" وهو انتصار للسنة والعمل بها.
٦ - "إثبات النبوة والرد على البراهمة".
٧ - "المبسوط" في الفقه رواه عنه الربيع بن سليمان والزعفراني.
وفاته:
توفي الإِمام الشافعي ﵁ في سنة ٢٠٤ هـ بمصر، حيث وافته المنية بأرضها وفيها كان الشافعي قد تكامل نموه، ونضجت آراؤه، ورأى في مصر ما لم يكن رآه من قبل من عرف، وحضارة، وآثار للتابعين.
_________
(١) انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٠/ ٥ - ٩٩، "معجم المؤلفين" ٣/ ١١٦.
1 / 21