شرح المشكل من شعر المتنبي
) تلقى بهم زَبدَ التيار مُقربةٌ ... على جحافلها من نصحهِ رثمُ (
يعني زوارق يحثُها سيف الدولة لأصحابه، حتى عبروا عليها هذا النهر. والرثمُك بياض الشفة العليا، والجحْفلةَ للفرس: كالشفة للإنسان، يقول: جُزت بهم التيار على هذه الزوارق. والتيار: هو الموج يقذف على مقادم هذه الزوارق، والسُّمَيريات بالزبد، وهو أبيض، فكأن ذلك الزبد عليها رثمٌز ثم جعل الزوارق مُقربة الخيل، لأنهم كانوا يعبُرون عليها هذه الأنهار بالخيل، فأقام هو الزوارق مُقام الخيل، فاستجاز لذلك أن يصفها بالمقربة. ولما جعلها خيلًا مُقربة، استجاز أن ينسب إليه أعضاء الخيل وشباتها. فجعل لها حجفلة، إنما هي الخيل، وجعل لها رثما حين جعل لها جحْفلةز والنضج: مارمى به الزبد. يقال: نضحَ ونَضخَ: وقيل ما كان فعلا فهو نَضح؛ بالحاء غير معجمة، وما كان اسما فهو بالخاء معجمة. وهكذا رُوى هذا البيت عنه.
فإن قلت: كيف قلت إن المقربة هنا زوارق، وهو يقول عقب هذا البيت:
تجفل الموجُ عن لبات حيلهم ... كما تجفلُ تحت الغارة النعمُ
فأنبأ أنهم عبروا على الخيل. وقال في موضع آخر وذكر هذا العبور:
حتى عبرن بأرسناس سوابحا ... يَنُشرون فيه عمائم الأبطال
فالقول عندي: أن بعضهم عبر على الخيل، وبعضهم على زوارق. وقد يجوز أن يكون قوله:) تجفل الموجُ عن لبات خيلهم (: عنى فيه الخيل الزوارق، على ما تقدم في البيت الأول.
ومما يدلك أنه عنى الزوارق قوله بعد هذا:
) دُعمُ فوارسُها رُكابُ أبطنُها ... مكدُوُدةٌ وبقوم لا بها الألمُ (
فالخيل لا تُركب بطونها، وإنما يُركب منها الظهور. وأراد المتنبي بقوله: ركاب أبطنها: أن يفصلها من أنواع الخيلز وقوله:) بقوم لا بها الألم (: إنما الم بالقنا لا بها وإن كُدت. وقيل الألم بالقوم العاملين فيها.
) من الجيادِ التي كدت العدُو بها ... وما لها خِلَقٌ مِنها ولا شِيمُ (
اي السفن مبلغة لك من عدُوك، ما أبلغتك الخيل منهم، فهي من الخيل بمشاركتها إياها في ذلك. لكن لا تشبهها في حلقة ولا خليقة. الخيل حيوان، والسفن عيدان.
) صَدَمتهم بخِميس أنت غُرتُهُ ... وسمهريتُهُ في وَجْهه غَمَمُ (
انت غُرته: اي انت أمامه، فكنى بالغرة عن التقديم والشهرة. ولما جعل للخميس غُرة، فوصفه بما هو من شيات الخيل، استجاز أن يصف بالغَمَم، وهو كثرة شعر الناصية. فجعل الرماح المشرعة في وجهه بمنزلة الشعر الكثير. وجعل الغمم وهو عرض، خبرًا عن السمهرية، وهي جوهر تجوزًا وكأنه أراد، وتكاثفلإ السمهرية في وجهه غمٌ. لكنه حذغ المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. ونظيره قوله تعالى:) وَلَكِنَّ البِرَّ من آمَنَ باللهِ (اراد: ولكن) ذا البر من آمن بالله (، ولُيقابل الجوهر بالجوهر، والعرض بالعرض. ولذلك اعتقد النحويون الحذف في مثل هذا.
) فلا سقى الغيثُ مَاوَارَهُ من شجرٍ ... لو زال عنهُ لوارتْ شخصه الخمُ (
يعني ماوارى ابن شُمَشقِبق من الشجر، وذلك أن الشجر حال بينه وبين المُتبعين، فأنت. فدعا المتنبي على هذا الشجر ألا يسقيه الغيث حين وارى هذا المنهزم، فكان ذلك سبب نجاته.) لو زال عنه (: اي لو زال هذا الشجر عنه، فلم يوارهم لقتل، فتجمعت الرخمُ عليه تواريه بُشخوصها.
وقيل: لو رأته لأكلته فيتوارى في أجوافها. ويروى: لوارى شخصه الرجم بالجيم وهو القبر، والأول أسبق، لأن القتيل في المعترك، إلى أن تأكله الطير والسباع أقرب منه إلى أن يقبر، وبذلك وصَفت العرب قتلاها. كقول عنترة:
فَتَركته جَزَرَ السباع بنشنه ... ما بين قُلة رأسِه والمعصم
وقال:
إن يفعلا فلقد تركتُ أباهما ... جزرًا لخامعةٍ ونسرٍ قشعمِ
وقال آخر:
تركتُ أباك قد أطلى ومالت ... عليه القشعمان من النسور
وله ايضا:
) فارقتكُم فإذا ما كان عندكمُ ... قبل الفراق أدى بعد الفراق يدُ (
) إذا تذكرتُ ما بيني وبينكُمُ ... أعان قلبي علىالشوق الذي أجدُ (
هدان البيتان يخاطب بهما سيف الدولة، بعد فراقه إباه، وهما يخرجان على ذم سيف الدولة وعلى حمده.
1 / 80