شرح المشكل من شعر المتنبي
يعني عجاجة الإسلام، وعَجاجة الروم ربما جازت النهر فالتقتا، وربما قصرتا عن ذلك فتفرقتا.
) ركَض الأميرُو كاُّللجينِ حَبَابُه ... وَثنى الأعنة وهو كالقيانِ (
اي جاوزه أبيض بريئًا من الدم والقتلُ لم يقع بعد، ثم أوقع بالروم فسالت دماؤهم في) أرسناسِ (فاحمر، وةُعَثره للرجوع، وهو من ذلك الدم أحمر كالعقيان، وأراد: ركض الأمير الخيل فحذف المفعول.
) وَحشاهُ عادِيةً بغيرِ قوائمٍ ... عُقم البُطُون جوالك الألوان (
يقول حشا سيف الدولة هذا النهر سُعثا سُودا بالقار عُقمًا: اي لا تحمل. وإنما أقام السُّفن في هذا النهر مُقام الخيل. وقيل:) عادية بغير قوائم (لان السفن سابحة لا ماشية. ونظير قوله:) حوالِك الألوان (قول الآخر في وصف سفينة:
وإلى نداك ركبُتها زنجيةً ... كرُمت منابتُ أصلها من عَرْعَرِ
) وعلى الدُّرُوب وفي الجرُّجُوع غضاضةٌ ... والسيرُ ممتنعٌ من الإمكانِ (
اي: كان الذي عددنا من أحوالك، وذكرناه من أخبارك على الدروب.
وإن شئت قلت: وعلى الدروب لك آثار أيضًا، إذ في الرجوع غضاضةٌ ونقصان على الراجع، والسير حينئذ صعبٌ لا يُمكن، وقوله:) وفي الرجوع غَضَاضة (و) السيرُ ممتنع (، جملتان في موضع الحال. ولو قال:) والسيرُ ممتنعٌ (، لكان الكلام تاما، لأنه قد عُلم أن الممتنع غير ممكن. ولكن القافية وباقي بناء البيت أحوجاه إلى قوله:) من الإمكان (.
) وفَوارسٌ يُحيى الحمامُ نُفُوسها ... فكأنها ليستْ مِنَ الحيوان (
من شأن الحمام أن يمين ولا يُحيى، لكن هؤلاء الحِمام نفوسهم، بما يتبع موتهم في الحروب من عالي الذكر؛ وجميل الثناء، بحسن البلاء، كقول أبي تمام:
ألفُوا المنايا فالقتيلُ لديهمُ ... من لم يُخلِّ العيش هو قتيل
وإن شئت قلت: يُحيى الحمامُ نفوسهم، وهؤلاء يُحبونه ويُؤثرونه؛ فكأنهم ليسوا من الحيوان، لان الحيوان يكرهون الحِمام؛ وهؤلاء يحبونه ويؤثرون حُب الحِمام نفوسهم.
) حُرمُوا الذي أملوا وأدرك منهُمُ ... آملهُ من عادَ بالحرمانِ (
اي الذي أملُوه من الظفر بسيف الدولة؛ وأدرك الناجي منهم بنفسه أمله الحادث له حينئذ، لأنه لما حُرم الظفر، وعلم أن سيف الدولة مُظفر به، جعل أقصى آماله السلامة والنجاة بذاته، فمن تهيأ له ذلك منهم، فقد نال أمله الحادث، وإن كان قد حرم ذلك الأول. ونحوه قول أمرئ القيس:
وقد طوفت في الآفاق حتى ... رَضيتُ من الغنيمة بالإيابِ
ومن أشعار المَثَل:
الليلُ داجٍ والكباشُ تَنْتَطِح ... فمن نَجَا برأسهِ فقد ربحْ
وله ايضا:
) عُقبى اليمين على عُقْبى الوَغى ندمُ ... ماذا يزيدُك غي إقدامكَ القَسمُ (
كان الدمستق أقسم على أن يلقى سيف الدولة. فلما لَقيَهم انهزم، فَنَدِم على قسمه، فجعله المتنبي مثلًا. يقول: إذا حلقت أن تلقى من لست قِرنا له مُوازيًا، ولا كُفُؤًا مساويًا، ندمت على ما فرط منك من حلفك. ثم قال: ماذا يزيُدك في إقدامك القسمُ؟ اي لا تقسم فإن ذلك لا يزيدك في إقدامك؛ بل ربما أعقبك الندم، وهذا نحو قول العرب: الصدق يُنبئ عنك لا الوعيد.
وقوله:) على عُقْبى (متعلقة باليمين وإن يُستعمل منه فعل. وحروف الجر إنما تتعلق بالأفعال والأسماء المشتقة منها. لكن جاز تعلُّقُها باليميمن، لان في اليمين معنى الحَلفِ؛ فكما تتعلق بحَلَف؛ كذلك تعلقت بما هو في معناها. والعُقبى: العاقبة.
) وَلى صَوَارِمهُ إكذاب قَولهِمُ ... فُهن ألسنةٌ أفواهُها القمَمُ (
كان زعيم الروم أقسم ليغلِبنَّ سيف الدولة أو لا يبرحُ؛ فكان الأمر بخلاف ما أقسم عليه ليكُونن، فأعقب ما كان من ذلك القسم، أشد ما يكون من الندم. فيقول: ولى سيفُ الدولة صوارمه إكذاب قول هؤلاء، بإصارتهم إلى الحنث، لأنهم واقعُوا، لم يلبثوا أن انهزموا، قال:) فهُن ألسنةٌ (يعني السيوف، شبهها بالأسنة في الصورة والمضاء، وجعل هامهم الملقة بها، بمنزلة الأفواه التي تكون بها الألسنة، وجعل عمل السيوف في الهام، بمنزلة الفُتياَ المرخصة لهم في الهرب.
ومما شبه فيه السيف باللسان قول الشاعر:
وسيفي من خوض الدماء ... كأنه بكفي لسانُ الذيبِ أولغه الدمَّا
وما شُبه فيه السنان باللسان أيضًا قوله:
1 / 78