البحث الثاني في قوى النفس الانسانية واعلم أن النفس الانسانية لها قوتان، نظرية وعملية، وكل منهما تسمى عقلا وإن كان العقل يطلق على درجات القوة النظرية وعلى معان أخرى بحسب اشتراك الاسم كما تعلمه اما العملية فهي قوة محركة لبدن الانسان إلى الأفاعيل الجزئية على مقتضى آراء بعضها جزئية محسوسة وبعضها كلية أولية أو جزئية (1) أو ذائعة أو ظنية تحكم بها القوة النظرية من غير أن يختص حكمها بجزئي دون آخر والقوة العملية تستعين بالقوة النظرية في ذلك إلى أن تنتهى إلى الرأي الجزئي الحاصل فتعمل بحسبه وتحصل مقاصدها في طرفي المعاش والمعاد ولهذه القوة نسبة إلى القوة النزوعية وعنهما يتولد كثير من الأفاعيل كالضحك والبكاء، ونسبة إلى الحواس الباطنة وهي استعمالها في استخراج الأمور المصلحية والصناعات ونحوها ونسبة إلى القوة النظرية ومنهما (2) تحصل المقدمات المشهورة والعملية هي التي يجب بمقتضى جبلتها ان يتسلط على القوى البدنية فتصرفها كما ينبغي فان اتفق لها أن انفعلت عن تلك القوى كان ذلك موجبا للبعد عن حضرة رب العالمين كما سنبين إن شاء الله تعالى.
واما النظرية فهي التي لأجلها يصح من النفس ادراك الأشياء على الوجه (3) الصواب ولها في الاستكمال من الاستعداد مراتب ثلاثة ومثلت (4) في مبدئها بما (5) يكون للطفل من قوة الكتابة، وفى وسطها بما (6) يكون للناشئ المستعد لتعلمها، وفى منتهاها بما يكون للقادر عليها الذي لا يكتب وله أن يكتب متى شاء.
فالمرتبة الأولى للنفس من الاستعداد المناسبة للمثال المذكور تسمى عقلا هيولانيا تشبيها لها بالهيولى الخالية في ذاتها عن جميع الصور المستعدة لقبولها وهذه المرتبة حاصلة لجميع اشخاص الناس في مبادئ الفطرة وقد أشير إليها في التنزيل الإلهي وعبر عنها بالمشكاة في قوله تعالى:
صفحة ١٤