إلا أنه أسرّ هنا شيئا، لأنه ختم كلامه، بأن البديع فضله بالتقدّم؛ وهذا منه مذهب مستحسن، ألا تراه كيف بدأ بتجريد الفضل للبديع وحده، ثم لم ير لنفسه قدرا في قوله:
«وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع»؛ فجعل نفسه كالفرس الأعرج الذي جريه إذا أجتهد دون مشي الصحيح، وجعل البديع كالفرس العتيق الكامل القوة ثم لما بلغ إلى هذا الموضع بعد أسطار صرّح في الظاهر للسامع بأن البديع سباق غايات، وصاحب آيات، وأومى لمن فطن أنه إنما فضله بتقدم الزمان. ثم خلط الكلام في الخلفاء بين المتقدمين والمتأخرين، ثم تناسى ذلك إلى آخر الكتاب في السابعة والأربعين، وصرّح هناك بتفضيل المتأخر على المتقدم وتفضيله نفسه على البديع، حيث يقول: [الرجز]
إن يكن الإسكندريّ قبلي ... فالطلّ قد يبدو أمام الوبل
* والفضل للوابل لا للطّلّ*
ولو كان غيره من العلماء المنسوبين إلى سوء الأدب، ورأى فضل مقاماته، لذم البديع ونقص كتابه فكان ينعكس الذم عليه: وكذا رأينا في الغالب من ادّعى لنفسه فضلا، وازدرى غيره، أنه قلّما يكون إلا ممقوتا، فلما أظهر الحريري مدح البديع ووفاه قسطه من التفضيل والترفيع، ولم ينظر إلى نفسه إلا بطرف خفي قل من يتفطن له، ستر الله عليه ورفع صيته، ووضع لكتابه القبول عند الخاصة والعامة. [الطويل]
فشرّق حتى لم يجد ذكر مشرق ... وغرّب حتى لم يجد ذكر مغرب
فلا يذم كتابه إلا أحد الرجلين فذين ذكرهما؛ إما جاهل، أو حاسد.
***
ومذهب الناس في تفضيل الحديث على القديم؛ وأكثرهم على تفضيل القديم، وقد أحسن حبيب حيث يقول: [الكامل]
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
وقال: [الكامل]
لا زلت من شكري في حلّة ... لابسها ذو سلب فاخر
يقول من تقرع أسماعه: ... ما ترك الأوّل للآخر
وذكر ابن شرف علة ذلك فقال: [الكامل]
أولع النّاس بامتداح القديم ... وبذمّ الحديث غير الذّميم
ليس إلا لأنهم حسدوا الحيّ ... ومالوا إلى العظام الرّميم
1 / 28