والخمس الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة، ثم يعيدها عن ظهر قلبه هذا ويسردها سردا، وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو إنشاء رسالة في معنى غريب وباب بديع، فيفرغ منها في الوقت والساعة والجواب عمّا فيها وكان ربّما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخرسطوره، ثم هلم جرّا إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه، ويوشح القصيدة الفريدة من قبله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم النثر، ومن النثر النظم. ويعطي القوافي الكثيرة، فيصل بها الأبيات الرشيقة، ويقترح عليه كل عروض من النظم والنثر فيرتجله في أسرع من الطرف، على ريق لا يبلعه، ونفس لا يقطعه؛ وكلامه كلّه عفو الساعة وفيض اليد ومسارقة القلم ومجاراة الخاطر، وكان مع هذا مقبول الصورة، خفيف الرّوح، حسن العشرة ناصح الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس كريم العهد خالص الود، حلو الصداقة، مرّ العداوة، فارق همذان سنة ثمانين وثلاثمائة وهو مقتبا الشبيبة، غض الحداثة وقد درس على أبي الحسين بن فارس، وأخذ عنه جميع ما عنده واستنفذ علمه وورد حضرة الصاحب أبي القاسم بن عباد، فتزوّد من ثمارها وحسن آثارها، وورد نيسابور في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فنشر بها بزّه، وأظهر طرزه وأملى أربعمائة مقامة نحلها أبا الفتح الإسكندري في الكدية وغيرها وضمنها ما تشتهي الأنفس، من لفظ أنيق قريب المأخذ بعيد المرام وسجع رشيق المطلع والمقطع كسجع الحمام. وجدّ يروق فيملك القلوب، وهزل يشوق فيسحر العقول ... ثم ألقى عصاه بهراة فعاش فيها عشية راضية وحين بلغ أشده وأربى على أربعين سنة؛ ناداه الله فلباه. وفارق دنياه في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة؛ فقامت نوادب الأدب وانثلم حد القلم، وبكاه الفضائل مع الأفاضل، ورثاه الأكارم مع المكارم؛ على أنه ما مات من لم يمت ذكره، ولقد خلد من بقي على الأيام نظمه ونثره؛ والله ﷿ يتولاه بعفوه وغفرانه، ويحيّيه بروحه وريحانه».
وذكر الحصري رحمه الله تعالى في كتاب الزهر أن الذي سبب للبديع ﵀ تأليف مقاماته، وهو أنه رأى أبا بكر بن الحسين بن دريد قد أغرب بأربعين حديثا، ذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، وانتخبها من معادن فكره على طبع العرب الجاهلية بألفاظ بعيدة حوشيّة، فعارضه البديع بأربعمائة مقامة لطيفة الأغراض والمقاصد، بديعة المصادر، والموارد، وانتهى كلامه.
والذي جاء بها، فيه قلة الامتاع للسامع من حديثها، وفيها مقامات لا تبلغ عشرة أسطار فجاءت مقامات الحريري أحفل، وأجزل وأكمل؛ فلذلك فضلت البديعيّة، وقد صرح علماء الأدب في كتبهم بتفضيل البديع على نظرائه من أهل زمانه، ولقبه بالبديع يدل على قدره الرفيع، قال: [البسيط]
وقلّما أبصرت عيناك من رجل ... إلا ومعناه إن فتّشت في لقبه
1 / 20