ثبات الإمام أحمد ﵀ في قضية القول بخلق القرآن
لكن الإمام أحمد بن حنبل تحول في ذلك الوقت إلى أن تتجه الأنظار إليه؛ لأن صمود الإمام أحمد بن حنبل صار فيصلًا بين قضيتين كبيرتين، ومن هنا ثبت الله الإمام أحمد، فصار الاسم له، وإلا فهناك غيره من العلماء من وقف موقفه رحمه الله تعالى؛ فالإمام أحمد بن حنبل امتحن وسجن وعذب وضرب، وطلب منه الإقامة الجبرية، وامتحن في هذه العهود، ثم امتحن بالرخاء في عهد المتوكل.
فالإمام الزاهد أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى مر بجميع أنواع الابتلاء التي يمكن أن يمر بها مؤمن صادق وداعية صادق، وكان الإمام أحمد في علمه وفي زهده جبلًا، فهو الذي كان يحفظ مئات الألوف من الأحاديث يحدث بها، ولا شك أن الناس أحوج ما يكونون إلى علمه، فكيف يترك ليسجن ويضرب ويموت تحت التعذيب؟! فجاءه بعض الناصحين وقالوا له: يا إمام! إن الناس يرون فيك فضلًا وعلمًا فأبق على نفسك! أي: أبق على نفسك لا لنفسك وإنما للناس، فلو أنك وريت كما ورى غيرك وانتهت المشكلة؛ لكن الإمام أحمد وقد تحدد الأمر بالنسبة له كان يفقه القضية بعمق، وكان يعرف أن الناس ينتظرون مقالته، وأنه لو قال بخلق القرآن ولو كان موريًا فلربما عذر نفسه أو عذره اثنان بجانبه، لكن ملايين من خلفه ستأخذ الأمر على ظاهره؛ ولهذا كانوا إذا أرادوا أن يحاكموا الإمام أحمد بعد التعذيب لينطق، يكونون قد جمعوا الناس معهم الأقلام حتى يسمعوا مباشرة؛ لأنه لو نقل عن الخلافة أنه أجاب لما صدق أحد، ولكنهم كانوا يجمعون الناس من باب التوثيق، وما كان عندهم توثيق بالصوت والصورة مثلما عندنا، وإنما كان التوثيق أمام الناس، فيجمعون الناس ويدخلونهم قصر الإمارة ومعهم الأقلام؛ ليسمعوا ماذا يقول الإمام أحمد.
وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في السجن، فجاءه أحدهم قبل لحظات من المحاكمة المتكررة، وقال له: يا إمام! لو أنك وريت فأبقيت على نفسك! فقال لهذا الرجل: انظر من خلفك، فنظر من خلفه فإذا ألوف قد جلسوا ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد، فقال له الإمام أحمد: يا هذا! لو أن الإمام أحمد ورى ما يدري هؤلاء أن الإمام أحمد يقول بالتورية، من يتحمل أثر إضلال هؤلاء وظنهم أن الإمام أحمد قال بخلق القرآن؟! وفعلًا ثبته الله ﷾، وكان يقول لهم: ائتوني بكتاب الله وبسنة رسوله ﷺ، وكانوا يقولون له: ماذا تقول فيه؟ فيقول: القرآن كلام الله، فيقولون له: هل تقول: إن القرآن مخلوق أم أنه كلام الله منزل غير مخلوق؟ فيقول: ائتوني بكتاب الله وبسنة رسوله ﷺ، ائتوني بدليل! ولو أردنا أن نستطرد ما جرى في تلك القصة لطال المقام؛ فإن فيها عبرًا كثيرة جدًا، فإنهم حاولوا معه محاولات كثيرة، حتى إنهم حاولوا محاولات فكرية، وبحثوا عن الحجج والدلائل ليجدوا ما يلزمونه به حتى يقول بخلق القرآن، ومع ذلك نقض كل شبهة، بل إنه رحمه الله تعالى قد ثبته الله ﷾ حتى بنصائح من داخل السجن، وقد كان مسجونًا مع اللصوص وغيرهم، ولهذا كان بعد الإفراج عنه يترحم على أحد السجناء اللصوص، فأحد أبنائه قال له: يا أبتِ! كثيرًا ما تترحم على هذا؟ قال: هذا واحد من اللصوص التقيت به في السجن، قال: ولماذا تترحم عليه؟ قال: كنت جالسًا في السجن فأتاني أحد أصحابي وجاء ليثبتني ويقول لي: اثبت يا إمام! فقلت له: إنما أخاف ألا أقوى على الضرب؛ يعني: أن الإمام أحمد قد يخاف ألا تقوى نفسه على تحمل الضرب فيقول غير الحق، فكان بجانبه أحد اللصوص يسمع الحوار، فقال له: اثبت يا إمام على الضرب، فو الله إنني لأثبت على الضرب وأنا على باطل، أفلا تثبت على الضرب وأنت على الحق؟! فكان الإمام أحمد بن حنبل يدعو لهذا الإنسان؛ لأنه أعطاه درسًا.
المهم أن فتنة القول بخلق القرآن هي البدعة التي وردت في هذه القصة، وجعلها المعتزلة عنوانًا لمنهج فكري عقدي في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، فليست كما يقول البعض: لماذا كبرت هذه المشكلة؟ ولماذا ضخمت؟ ونحن نقول: والله لو لم يكن فيها إلا صفة الكلام لله وقد ابتدعها هؤلاء، لكان حقيقًا أن يتحمل الإنسان في سبيل إثبات منهج أهل السنة والجماعة ما تحمل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
3 / 12