حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية
قال الموفق ﵀: [ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه].
من أصول أهل السنة الجمع بين الشرع والقدر، وهذا من أشرف الأصول في الديانة؛ فإن من أسقط الشرع بالقدر فهذا حجته من جنس حجة المشركين الذين قالوا فيما ذكره الله عنهم في غير مقام في القرآن: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ [الأنعام:١٤٨]، فهذا هو معنى إسقاط الشرع بالقدر، أي: أنهم قالوا: إن الله ﷾ هو الذي كتب علينا الشرك، وقدره علينا، وسبق هذا القضاء والقدر قبل أن يخلق الخلق، فهل أن الله كتب عليهم الشرك وقدره، وعلم أنهم سيشركون، هذا صحيح؛ لكنهم جعلوا هذا العلم المسبق وهذه الإرادة والمشيئة والكتابة السابقة جعلوها حجة لهم على الله؛ وقد سمى الله هذا الاستدلال من المشركين في كتابه كذبًا، قال الله: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [الأنعام:١٤٨]، والتكذيب هنا يراد به أحد أمرين:
- إما أن هذه الحجة لا تعد حجة بل هي كذب.
- وإما أن هذا هو طريق تكذيب من كان قبلهم.
وعلى المعنيين فإن هذه الحجة إما أن تكون كذبًا مطابقًا أو متضمنًا، أو مستلزمًا للكذب.
ووجه كونها كذبًا؛ لأنها خلاف ما في نفوسهم، وفيها هوى.
وقد يقول قائل: لعلها حجة قد اقتنعوا بها؟
والصواب ليس كذلك، بل هي خلاف ما في نفوسهم من جهة أنهم يعلمون أن القدر والمشيئة في قولهم: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا﴾ [الأنعام:١٤٨] مختصة بسائر أحوالهم لا بشركهم فقط، فكما أن شركهم بقدر وبمشيئة الله وعلمه، فكذلك أكلهم وشربهم ونكاحهم وتوارثهم، وقتالهم وقتلهم ..
إلى آخر أمورهم.
ولا بد أن يعلم أن من أقر بالقدر من المشركين أقروا به في الجملة، لا على التحقيق والتفصيل، فإن التحقيق والتفصيل دائمًا لا يقع إلا لأتباع الأنبياء.
مسألة: الإقرار بالقدر هل يراد به في مسائل الشرائع؟ أم في سائر أفعال العباد خيرها وشرها؟ أم يختص في مسائل التكليف والتشريع؟ أم أن القدر يعم جميع أفعال العبد؟
الجواب: إن القدر يعم جميع أفعال العباد، ولذلك من جعل القدر حجة على ما يريد لا يسلم له ذلك، كمن جعل القدر حجة على ترك التوحيد، كما هي حجة المشركين، أو حتى على ترك بعض الشرع، كما هي حجة بعض العصاة، مما يزينه الشيطان لهم يقال له: لمَ لم تصلِّ؟
فيقول: هذا قدر الله.
ويقال للسارق: لم سرقت؟
فيقول: إن الله قدر عليَّ ذلك.
فقوله: "إن الله كتب عليَّ ذلك قبل أن أخلق"، صحيح أنه كتب على هذا السارق أنه سيسرق، وعلم ﷾ قبل خلقه أنه سيسرق، والنبي ﷺ يقول: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض ...) إلخ، ولكن الغلط في كونه جعل القدر السابق حجة على ترك الشرع.
فإن من يعرض له هذا في بعض الواجبات من عصاة المسلمين، لو قيل له: إن فلانًا قتل ابنك، وأنه لا يحق لك أن تجازيه أو تعاقبه على قتله؛ لأن قتله لابنك كان قدرًا، كان بين أحد أمرين: إما أن يسلم أن هذا قدر ولا يجازيه، وإما العكس فيكون من باب القناعة في النفس أن القدر ليس حجة لأحد، فإذا كان القدر ليس حجة للقائل في قتل القتيل، فكيف يكون القدر حجة للعاصي على ترك أمر ربه.
ولهذا يقول الإمام ابن تيمية ﵀: (إن الاحتجاج بالقدر لم يذهب إليه عند التحقيق واحد -ليست طائفة- من العقلاء) لماذا؟
لأن الشخص لو احتج بالقدر وطبقه باطراد ربما يكون عند الناس أبلغ ممن هو في درجة الجنون، حتى المجنون لا يرضى بهذا؛ لأنه يلزمه أمور كثيرة، من يضربه يلزم أن يقر بالضرب؛ لأن الضارب إنما ضرب قدرًا، ويلزمه أن من قتل ولده لا يجازيه؛ لأن القتل كان قدرًا، وأن من سرق ماله لا يجازيه؛ لأن من سرق ماله إنما سرق قدرًا، وهلم جرًا، فلا تجد شيئًا إلا وهو داخل في القدر.
إذًا: إذا كان القدر ليس حجة للعباد بعضهم على بعض، فمن المتعذر عقلًا أن يكون القدر حجة لأحد من العباد على الله.
قاعدة: ما من أصل من الأصول تقرر ثبوته إلا وثبوته بالشرع والعقل، وما من معنىً تقرر نفيه بالضرورة الشرعية إلا ويعلم نفيه بالعقل، لكن دلائل الشرع في الجملة هي على قدر من التفصيل، بخلاف دلائل العقل فقد يلحقها في كثير من المقامات قدر من الإجمال.
فمثلًا: مسألة الاحتجاج بالقدر هي حجة داحضة، وليست بشيء لا عقلًا ولا شرعًا، ويلزم من ذلك: أن يكون عذاب المشركين والجهاد من المسلمين للمشركين، وغير ذلك من الأحكام الكونية والشرعية ..
يلزم على هذا أن تكون ظلمًا، والله ﷾ منزه عن ذلك.
9 / 5