رؤية النبي ﷺ لربه
هل رأى النبي ﷺ ربه ببصره ليلة المعرج أم لم يره؟
هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين متأخري أهل السنة، وهم فيها على قولين:
الأول: أن النبي ﷺ رأى ربه ليلة المعراج ببصره.
الثاني: أن النبي ﷺ لم ير ربه ببصره.
والذي يميل إليه أتباع الأئمة من المتأخرين: أن النبي ﷺ رأى ربه ببصره، ولكن هذا المذهب وإن اشتهر عند المتأخرين -حتى قيل: إنه قول جمهورهم- إلا أنه غير معروف عند الصحابة رضوان الله عليهم، وغريب عند الأئمة المتقدمين ..
بل حُكي الإجماع على خلافه، أي: أن النبي ﷺ لم ير ربه ببصره، وممن حكى الإجماع على ذلك: الإمام الدارمي ﵀.
قد نقله عنه الموفق في المناظرة في مسألة الصفات، وهذا هو المشهور في مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من السلف، وسواء قيل: إن هذا إجماع منضبط صحيح، أو قيل: إنه إجماع سكوتي، فإنه لم يصح عن واحد من الصحابة أنه قال: إنه ﷺ رأى ربه ببصره، وإنما جواب الصحابة على أحد وجهين:
الأول: أن النبي ﷺ لم يره.
والثاني: أنه رآه بفؤاده.
فالأول جواب عائشة ﵂ ومن معها، والثاني: جواب ابن عباس ﵄ ومن أخذ بقوله.
وعند التحقيق يظهر أن جواب ابن عباس ﵄ ليس معارضًا لجواب عائشة ﵂، بل يمكن أن يقال: إن جواب ابن عباس مؤيد لجواب عائشة ﵂؛ من جهة أن ابن عباس لما قصر الرؤية على الفؤاد دل على أن ما فوقه -وهي الرؤية البصرية- غير متحصلة.
أما المتأخرون فإنهم فهموا من كلام ابن عباس الإثبات للرؤية البصرية؛ لأن أصحاب ابن عباس يروون تارة الإطلاق، وتارة التقييد بالفؤاد، فصار من المتأخرين من يقول: إن ابن عباس ﵄ وأصحابه يقولون: إن النبي ﷺ رأى ربه ببصره، وهذا غلط عليه؛ لأنه إنما كان يقول: رآه بفؤاده، ولم يقل: رآه ببصره.
وتفسير المتأخرين لمذهب ابن عباس بهذا لا يغر طالب العلم، ويوضح هذا ما يقع في كتب بعض الشراح -كشراح الصحيح وغيره- من القول بإثبات رؤية النبي ﷺ لربه، وأن هذا هو مذهب ابن عباس ﵄ وطائفة، أو يقولون: هو أحد قولي ابن عباس، بل الصواب أن ابن عباس له قول واحد فقط، ونسبة القول الثاني إليه غلط عليه، والتحقيق: أن قول ابن عباس لرؤية النبي بفؤاده يدل على نفي الرؤية البصرية وليس على إثباتها.
ومن الحنابلة من حكى عن الإمام أحمد القول بأن النبي ﷺ رأى ربه ببصره، وهذا كما قال شيخ الإسلام وغيره: غلط على الإمام أحمد، والصواب أنه إنما كان يجيب بجواب ابن عباس وعائشة، مما يدل على عدم التعارض بين الجوابين عنده.
وعلى كل تقدير يقال: الصواب ما عليه الجماهير من الأئمة المتقدمين؛ ولذا حُكي الإجماع عليه منهم، وهو: أن النبي ﷺ لم ير ربه ﷿ ببصره.
وإذا قيل: رآه بفؤاده، فهذا قول ابن عباس ومذهب جملة من الصحابة ﵃، بل أكثر أهل السنة -كما قال شيخ الإسلام - يقولون بقول ابن عباس، وأن رؤية الفؤاد ليست هي الرؤية البصرية.
مسألة: هل تعتبر مسألة رؤية النبي ﷺ لربه من مسائل الأصول التي يضلل فيها المخالف؟
الجواب: ليست من مسائل الأصول، وإن كان القول بإثبات الرؤية البصرية يعد قولًا غريبًا لا ينبغي أن يصار إليه، ولاسيما أن القول الذي عليه عامة السلف والجماهير من أئمة السنة هو ظاهر القرآن وصريح السنة.
أما أنه ظاهر القرآن فلقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء:١]، وقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم:١٨]، فهاتان الآيتان تدلان دلالة ظاهرة -وإن لم تكن صريحة- على أن النبي ﷺ لم ير ربه ببصره.
ووجه ذلك: أن الله لما ذكر مسرى نبيه ﷺ ذكر ذلك على جهة النعمة والامتنان عليه، وكان المقام مقام ذكر لأجل ما امتن به عليه؛ لذا فهو رأى من آيات ربه الكبرى، فقال: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ﴾ [النجم:١٨] ..
وقال: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ [الإسراء:١]؛ فذكر حاله في مقدمه، وحاله بعد منتهاه، ومع ذلك لم يقع ذكر الامتنان إلا على رؤية الآيات.
قال شيخ الإسلام: "فلو كان النبي ﷺ رأى ربه ﷾ لكان إظهار الامتنان عليه برؤيته له أولى من الإظهار لرؤية الآيات، فلما اقتصر ذكر القرآن على رؤية الآيات؛ دل على أنه لم يحصل له ما هو فوق هذا المقام وهو رؤيته لربه ﷿".
وأما السنة: فقد روى مسلم عن أبي ذر أنه سأل النبي ﷺ فقال: (هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نورًا) وفي رواية أخرى لـ مسلم أن أبا ذر سأل النبي ﷺ: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه)، وهذان الوجهان، قيل: إنهما محفوظان كلاهما، إلا أن الإمام أحمد في بعض أجوبته وكذا جملة من أئمة الحديث ينزعون إلى أن المحفوظ هو أحد هذين الوجهين، والمسألة فيها سعة.
والمقصود بقوله: (نور أنى أراه) إشارة إلى النور الذي حال دون رؤيته لربه ﷾، وهذا النور -والله أعلم- هو حجابه ﷾؛ فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه سلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وهو معنى قوله ﷺ في الوجه الآخر: (رأيت نورًا)، أي: أنه رأى هذا الحجاب.
8 / 5