تبرئة المصنف من مذهب المفوضة
مسألة: هل ابن قدامة يعتنق مذهب التفويض أم لا؟
يقال: هذه مسألة محتملة، ولكن الأظهر في طريقته ﵀ أنه لا يوافقهم، وإن كانت بعض ألفاظه المجملة قد تشعر بشيء من ذلك، والدليل على أن الموفق ﵀ ليس مفوضًا أنه جعل القاعدة في الأسماء والصفات هي الإثبات بالتسليم والقبول والإيمان، وترك التعرض لأدلة الصفات بالرد والتأويل؛ وهذا كله وغيره تقرير للإثبات المعروف عند السلف.
ثم إن هذا التقرير الذي ابتدأ به هو الذي فصَّله في رسالته هذه وفي غيرها من رسائله التي كتبها في أصول الدين؛ فقد ذكر تفصيل الإثبات للقرآن وأنه كلام الله، وتفصيل الإثبات لصفاته الأخرى ﷾، ولهذا فإنه قال: [وما أشكل من ذلك] فبهذا يُعلم قطعًا أن الموفق ليس مفوضًا، إنما المحتمل أن يكون عنده شيء من التفويض، وفرق بين من دخل عليه شيء من التفويض وبين من طريقته في الأصل طريقة المفوضة.
وعليه فما علَّقه بعض المعاصرين: من أن صاحب الرسالة يذهب إلى مذهب المفوضة، وهو مذهب مخالف لمذهب السلف لا شك أن هذا الكلام فيه مبالغة وخلط، فالحقائق يجب أن تكون معتدلة، أما أن مذهب المفوضة مخالف للسلف فنعم، لكن أن يفتات على إمام من الأئمة ويطعن فيه من باب ضبط السنة، فهذا ليس بلازم، فإنه يمكنك أن تضبط السنة من غير أن تطعن في أئمتها وحملتها.
فالإمام ابن قدامة قال: [وما أشكل من ذلك] فدل على أن جمهور الأدلة في الصفات غير مشكل، والذي هو غير مشكل لم يذكر فيه تفويضًا إنما ذكر التفويض في المشكل، فدل على أن غير المشكل عنده على معناه الحقيقي، وأن المشكل ليس قاعدة مطردة، وهذا قدر لا بد أن يُضبط.
ثم هذا المشكل الذي قال فيه المصنف ما قال، هل قصد أنه يفوض فيه تفويضًا بدعيًا؟
نقول: هذا مبني على مراده بالمشكل، وهناك واقع لا بد من اعتباره، فالمؤلف جاء بعدما غلا كثير من الحنابلة في الإثبات؛ فهذه مسألة فيها شيء من التاريخية لا بد أن يُتصور ليُفهم مراده ﵀.
والحنابلة -كقاعدة معروفة- إمامهم ﵀ كان له من الاختصاص في الرد على المعتزلة الذين هم أساطين علم الكلام أكثر مما كان لغيره بسبب مسألة فتنة خلق القرآن، وقد جاء بعد عصر الأئمة الأربعة رجلان: أبو الحسن الأشعري وهو شافعي فقهًا، وأبو منصور الماتريدي، وهو حنفي فقهًا، وهذان الرجلان ليسا ممن يعارض الأئمة، بل ممن يؤمن بمنهج أهل السنة والجماعة كمنهج عام متأصل وقد انتسبا إليه، لكنهما على طريقة علم الكلام، فأنتجا -هما ومن سار على نهجهما- هذه المذاهب التي هي ملفقة من السنة والبدعة.
ومن هنا دخل علم الكلام على كثير من الشافعية عن طريق الأشعري، كما دخل على كثير من الأحناف عن طريق الماتريدي.
وأما الحنابلة فلم يظهر فيهم علماء متكلمون ينتسبون إلى الإمام أحمد فقهًا، ولكن فيما بعد ظهر من الحنابلة -كـ أبي الحسن التميمي وكـ أبي الفضل التميمي، وأمثال هؤلاء: كـ ابن عقيل وكالقاضي أبي يعلى زمنًا من عمره- من تأثر بالكلابية والأشاعرة، وفي المقابل كان هناك قسم آخر من الحنابلة يبالغون في ضبط مذهب الإمام أحمد في الصفات والبعد عن التأويل وعلم الكلام إلى حد الزيادة، بمعنى: أنهم بدءوا يفصِّلون جملًا لم يفصلها السلف ولم يخوضوا فيها من باب تحقيق الإثبات، ومن هؤلاء أبو عبد الله بن حامد مثلًا.
فتحصل من هذا أن طائفة من الفقهاء انتحلوا علم الكلام وبعض طرق أهل البدع، وطائفة أخرى في المقابل من أصحاب الأئمة -ولا سيما من الحنابلة- كان عندهم قدر من المبالغة في الإثبات لم تُعرف عن الأئمة ﵏، فبدءوا يفصلون في أمور فيها قدر من الإجمال.
والظاهر أن ابن قدامة ﵀ كان يبتعد عن أهل هذه الطريقة، ويرى أن ما زاد عن كلام السلف والأئمة، فإنه يجب التوقف فيه، والمعاني التي يسأل عنها الناس مما زاد على تقرير السلف يفوض علمها إلى الله ﷾.
وخلاصة الكلام أن المعاني التي تكلم فيها المتأخرون من المعظمين للسنة والجماعة وطريقة السلف، تنقسم إلى قسمين:
- القسم الأول: قسم من المعاني كان مستقرًا عند السلف، وهو الذي دلت عليه ظواهر النصوص.
- القسم الثاني: قسم متكلَّف أو مشتبه من المعاني، وبعض من رام التحقيق -كابن حامد مثلًا وبعض أتباع أصحاب المذاهب الأربعة- بالغوا في إثباته، حتى وصل في بعض الأحيان إلى حد التشبيه، أي أنه إذا قيل: إن الكرامية مجسمة أو مشبهة، فليس ذلك على إطلاقه؛ فـ ابن كرام لم يكن يقصد موافقة هشام بن الحكم من الشيعة في التشبيه، بل كان يذمه ويذم التشبيه، لكنه بالغ في الإثبات حتى ارتكب بعض التشبيه؛ فكأن ابن قدامة ﵀ ينتقد الطائفتين: أهل التأويل من الحنابلة الذين تأثروا بالكلابية، وأيضًا من بالغوا في إثبات المعاني التي سئلوا عنها وكان الواجب أن يرد علمها إلى الله ﷾، وهذا هو الاحتمال الراجح، والاحتمال المرجوح: أن ثمة بعض الأحرف من الصفات مشكلة عند ابن قدامة، ويرى أنه يجوز فيها التفويض.
ولكن على كلا التقديرين لا يمكن أن يقال: إن الموفق يذهب ذهابًا تامًا مطردًا إلى مذهب المفوضة، فهذا لا شك أنه قدر من التعدي والافتئات عليه ﵀.
2 / 12