تدليس القطع
النوع الأول: تدليس القطع: وهو أن يأتي الراوي فيروي عن شيخ من شيوخه سمع منه مباشرة، ولكنه يروي حديثًا لم يسمعه منه، ويقطع صيغة التحديث، فلا يأتي بها، كأن يقول مثلًا: الزهري عن أنس، فلا يقول: حدثنا، ولا: أخبرنا، ولا: عن، ولا: قال.
ومثل العلماء على هذا القسم بما قاله علي بن خشرم عن ابن عيينة، قال: جلس ابن عيينة معنا يحدثنا في مجلس التحديث، وابن عيينة كان فحلًا ثقة ثبتًا، قال فيه الإمام أحمد: تحسرنا حسرة كبيرة على ما فاتنا من الإمام مالك، ولعل الله يجعل لنا في ابن عيينة خلفًا لـ مالك، أي: يستعيض به عن مالك، فهو كان كثيرًا ما يتردد على مالك، ومالك هو شيخ من شيوخ الشافعي، وكان ابن عيينة كذلك من شيوخ الشافعي، فـ ابن عيينة كان دائمًا يسأل الإمام الشافعي عن المسائل التي تعرض له في فقه الحديث، حتى إنه في مجلس التحديث روى حديثًا عن النبي ﷺ، وفيه أن النبي ﷺ كان معتكفًا، فجاءت امرأته صفية تزوره، ثم خرج معها إلى بيتها، فرآه رجلان واقفًا معها، فمرا مسرعين، فقال النبي ﷺ: (على رسلكما، إنها صفية)، يعني: أحسنا الظن إنها صفية، فأشكل ذلك على ابن عيينة جدًا؛ لأن الصحابة قالوا له: سبحان الله يا رسول الله! أي: أنظن برسول الله ﷺ سوءًاَ! فقال لهما النبي ﷺ: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم)، فـ ابن عيينة أشكل عليه فهم هذا الحديث، فقال للشافعي وكان بحانبه في حلقة التحديث: يا شافعي! ما معنى هذا؟ فقال له الشافعي: إن رسول الله ﷺ كما وصفه ربه: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١٢٨]؛ خشي عليهما فأراد أن يقطع عنهما دأب الشيطان، أي: خشي عليهما من الهلكة بأن يجري الشيطان منهما مجرى الدم فيظنا بالنبي ﷺ ظن السوء، ولو ظنا بالنبي ﷺ ذلك فإنهما يكفران ويخرجان من الملة، وذلك لأن من فعل ذلك فقد كذّب كتاب الله تعالى؛ لأن الله جل وعلا عدل رسوله ﷺ أتم التعديل، قال سبحانه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:٤]، وبين أن النبي ﷺ هو أفضل البشر أجمعين، وهو رسول الله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح:٢٩]، وقال الله تعالى: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر:٧٢] فما أقسم الله بحياة أحد إلا بحياة رسول الله ﷺ، وقال النبي ﷺ (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، فظن السوء برسول الله ﷺ يعتبر تكذيبًا بهذا، فإن كذبوا فقد هلكوا.
وقد يقول قائل: كيف يكفر من ظن سوءًا برسول الله ﷺ وقد يكون جاهلًا بذلك؟ فنقول: إن التعظيم والتبجيل والاستهزاء لا عذر بالجهل فيه، فهذه الثلاثة يكفر من وقع فيها دون أن ننظر إلى إقامة حجة ولا إزالة شبهة، فإن الاستهزاء أو التعظيم والتبجيل لا عذر فيه بالجهل في حال من الأحوال.
وهناك إشكال آخر، وهو أنه قد يقول قائل: إن عائشة ظنت برسول الله ﷺ أنه سيتركها ويذهب إلى إحدى نسائه، وهذا ظن سوء، ولذلك قال لها النبي ﷺ منكرًا عليها: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟)، يعني: ظنت هذا برسول الله ﷺ، وهذا ظلم بأن يتركها لا قسم لها، ويترك ليلتها، ويذهب إلى زوجة أخرى، وهذا عند بعض الفقهاء الذين يقولون: إن القسم واجب على النبي ﷺ.
فنقول: إن الرجلين ليس لهما مسوغ، فإن المسألة كلها من تعظيم وتبجيل النبي ﷺ، أما بالنسبة لـ عائشة ﵂ وأرضاها فلها مسوغ من وجهين: الوجه الأول: أنها ترى قسم النبي ﷺ واجبًا عليه، فلا يذهب لغيرها، والوجه الثاني: أن عائشة ﵂ وأرضاها قد أقر النبي ﷺ غيرتها، وهذه من باب الغيرة التي إذا حصلت للمرأة فإنها تعذر في بعض الأحكام، كما قال الإمام مالك: إن المرأة إذا غارت فقذفت لا حد عليها؛ لأن الغيرة تغطي على العقل، فكان هذا عذرًا لها في هذه المسألة، وهذا هو الذي جعل النبي ﷺ يرفق بها، ويقول لها: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله)؟ وكما قالت للنبي ﷺ: ما رأيت الله إلا يسارع في هواك، وذلك عندما أنزل الله: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا﴾ [الأحزاب:٥٠] فلها عذر في هذه المسألة، وعذرها هي الغيرة القاتلة التي يمكن أن تغطي على العقل، بل هي تكلمت في خديجة كلمة أشد ما تكون، وما عوقبت، ولذلك استنبط الإمام مالك، بفقه عالٍ، فقال: المرأة إذا غارت فقذفت لا حد عليها.
فـ ابن عيينة بعدما فهم هذا الحديث من الشافعي جلس بمجلس التحديث فقال لهم: الزهري عن أنس، وابن عيينة تلميذ مباشر للزهري، فقال له علي بن خشرم: يا ابن عيينة! أسمعته من الزهري؟ فسكت ولم يرد عليه، ثم سأله وقال: أسمعته من الزهري؟ فسكت، ثم سأله الثالثة، فقال: لا والله ما سمعته من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري، بل سمعته من عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس بن مالك ﵁ وأرضاه، ورواية ابن عيينة عن عبد الرزاق تعتبر من رواية الأقران؛ لأنهما من طبقة واحدة.
فهنا ابن عيينة قال: الزهري، فقطع وأسقط الصيغة، فلم يقل: حدثني، ولا قال: أنبأني، ولا قال: قال، ولا قال: عن، بل قال: الزهري مباشرة، فلما قالوا: أسمعته من الزهري؟ قال: لا ولا ممن حدث عن الزهري، سمعته عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس، فهذا هو النوع الأول من تدليس الإسناد.
5 / 3