ظهور الخوارج والمعتزلة
بهذا يتبين أن أول مسألة حصل فيها نزاعٌ بين أهل القبلة هي القول في اسم الإيمان، وأول من أحدث الخلاف في هذا الأصل، بل وفتح باب الخلاف في مسائل أصول الدين: هم الخوارج.
هم قومٌ حدّث النبي ﷺ بشأنهم، حتى قال الإمام أحمد ﵀: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه".
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه هذه العشرة وأخرج البخاري طرفًا منها، وهي مخرَّجة في الصحاح والسنن والمسانيد، وقد تلقاها أئمة الحديث بالقبول.
وقد ورد حديثهم من رواية أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي أمامة وطائفة من الصحابة، وهو يعد عند أهل العلم في الحديث من المتواتر، لكن على معنى المتواتر عند المحدّثين وأهل الأصول من أئمة السلف كـ الشافعي ﵀، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
ومن أوجه روايته الثابتة في الصحيحين: (أن النبي ﷺ جاءه قسم فقسمه بين أربعةِ نفر، فقام رجل غائرُ العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار فقال: اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل.
فقال خالد بن الوليد -وفي وجهٍ عمر بن الخطاب، وكلاهما في الصحيح-: دعني أضرب عنقه.
فقال ﷺ: لعله أن يكون يصلي.
قال: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه.
قال: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم.
ثم نظر إليه النبي ﷺ وهو مُقفٍّ؛ فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: من صلبه، قيل: حقيقةً، وقيل: كنايةً وهذا هو الأقرب- قومٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ لأن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي وجهٍ: (قتل ثمود) وفي وجهٍ: (قاتلوهم؛ فإن لمن قاتلهم أجرًا عند الله) وفي وجهٍ: (لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له لنكل عن العمل).
وقد ذكر ﷺ آيتهم فقال: (آيتهم: رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة) وذكر ﷺ شدة مروقهم من الدين فقال: (كمروق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله -أي: الرامي- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجدُ فيه شيء، سبق الفرث والدم).
ومع هذا الوجه من كلامه ﷺ، والتشديد والتغليظ على هؤلاء، كقوله ﷺ: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) إلا أن الصحابة لم يفهموا منه أنهم كفار؛ ولهذا لما ظهر الخوارج في خلافة علي بن أبي طالب ﵁، وقاتلهم في النهروان، ورأى آيتهم، مع هذا كله فإن الصحابة لم يمضوا فيهم بسنة الكفار.
وقد جاء أن علي بن أبي طالب قيل له: "يا أبا الحسن! أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا.
قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلًا".
ولهذا قال شيخ الإسلام ﵀: "والخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالًا للأمة وتكفيرًا لها، ولم يكن في الصحابة من يكفرهم، لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين".
فهم قومٌ ظالمون لأنفسهم من أهل البدع، وإن كان قد يقع في أعيانهم من هو منافق أو من قد غلب عليه وجه من الكفر، وهذا علمه وشأنه عند الله ﷾.
وقد استطالوا على المسلمين بما أحدثوه في هذا الأصل، فإنهم فهموا أن الإيمان هو جميع الواجبات الشرعية الظاهرة والباطنة، ولكنه شيءٌ واحد إذا ذهب شيءٌ منه فقد ذهب جميعه، وعن هذا قالوا: إن مرتكب الكبيرة من المسلمين كافر، وإذا كان كافرًا فإنه يكون مخلدًا في النار.
وعلى هذا درج أئمة الخوارج إلا الإباضية منهم الذين قالوا: إنه كافرٌ كفر نعمة، مع قولهم بأنه خالد مخلدٌ في النار.
هذا هو مبتدأ هذا النزاع، ومنه بدأ الأئمة ﵏ يطعنون على أهل البدع ويذمون أهل الأهواء.
وقد قارب الخوارج في قولهم طائفةٌ وهم المعتزلة، والفرق بين المعتزلة والخوارج فرق يسير؛ فإن المعتزلة تقول عن مرتكب الكبيرة: إنه فاسق، ولا تسميه مؤمنًا، بينما تقول الخوارج: إنه كافر.
أما في الآخرة فقد اتفقتا على أنه مخلد في النار.
فجمهور الفرق بين المعتزلة وبين الخوارج هو في دار الدنيا؛ فإن المعتزلة يرونه فاسقًا، والخوارج تراه كافرًا.
وأما أصل القول في اسم الإيمان: أنه قولٌ وعملٌ، ظاهرٌ وباطنٌ لا يزيد ولا ينقص ..
فهذا متفق عليه بين الطائفتين، وإن كان قول الخوارج أشد غلوًا.
1 / 9