باب من جعل الإيمان المعرفة بالقلب وإن لم يكن عمل
[قال أبو عبيد: قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا في أن العمل من الإيمان، على أنهم وإن كانوا لنا مفارقين، فإنهم ذهبوا إلى مذهب قد يقع الغلط في مثله.
ثم حدثت فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعًا ليست من أهل العلم ولا الدين، فقالوا: الإيمان معرفة بالقلوب بالله وحده، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل! وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية؛ لمعارضته لكلام الله ورسوله ﷺ بالرد والتكذيب، ألا تسمع قوله: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ [البقرة:١٣٦].
الآية، فجعل القول فرضًا حتمًا، كما جعل معرفته فرضًا ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم.
ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان
ولم يجعل لأحد إيمانا إلا بتصديق النبي ﷺ في كل ما جاء به فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه﴾ [النساء:١٣٦] وقال: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء:٦٥] وقال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة:١٤٦] يعني النبي ﷺ، فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيمانًا؛ ثم سئل رسول الله ﷺ عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) في أشياء كثيرة من هذا لا تحصى.
وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي عنهم بالمعرفة! ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض، إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم، غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب، ولو كان هذا يكون مؤمنًا ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث كقول النصارى، وصلى للصليب، وعبد النيران بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمنًا مستكملًا الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين! فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله أو مؤمن له بكتاب أو رسول؟ وهذا عندنا كفر لم يبلغه إبليس فمن دونه من الكفار قط!].
8 / 2