[aphorism]
قال أبقراط: ما كان من الأبدان في النشوء (466) فالحار (467) الغريزي فيه (468) على غاية ما يكون من الكثرة، ويحتاج من الوقود إلى أكثر مما يحتاج إليه سائر الأبدان، فإن لم يتناول ما يحتاج إليه من الغذاء ذبل بدنه ونقص. وأما في الشيوخ فالحار الغريزي قليل فيهم، فمن قبل ذلك ليس يحتاجون من الوقود إلا إلى اليسير لأن حرارتهم تطفأ من PageVW3P020B الكثير، ومن قبل هذا أيضا ليس تكون الحمى في المشايخ حادة كما تكون في الذين (469) في النشوء (470)، وذلك لأن أبدانهم باردة.
[commentary]
قال عبد اللطيف: هذا الفصل هو علة الفصل (471) السابق، ولذلك رأى بعضهم أن يجعلهما فصلا واحدا وأن ينسق بينهما بالواو فيقول: ومن كان من الصبيان أقوى شهوة فهو أقل احتمالا له وذلك أن ما كان من الأبدان في النشوء (472) فهو يحتاج إلى غذاءين: للنشوء (473)، ولخلف (474) ما يتحلل. وابتدأ في هذا الفصل بالأبدان التي في النشوء لتكون العلة قريبة (475) من المعلول وذلك (476) أنه ختم الفصل السابق بأن PageVW1P015B الصبيان أقل احتمالا للصوم؛ فبدأ هذا الفصل بتعليل (477) ذلك وجرى على الترتيب إلى أن بلغ PageVW2P016A إلى ذكر علة احتمال الصوم في المشايخ. وينبغي أن تعلم أن الحرارة في سن الصبيان (478) والشباب سواء، لكن الرطوبة في الشباب أقل منها في الصبيان، هذا الذي استقر عليه رأى الأفاضل، وأن الصبيان أقل ما (479) في أبدانهم الجوهر الأرضي، وأكثر ما فيهم الجوهر الهوائي والمائي لقربهم إلى جوهر المني وكل يوم تقوي فيهم الأرضية وتقل الهوائية والمائية. فإذا انتهوا إلى سن المشايخ أنقلبت الحال فصار الجوهر الأرضي PageVW0P017B أكثر ما فيهم والجوهر الهوائي والمائي (480) أقل ما فيهم. وعلى هذا الحال (481) النبات، يبدأ (482) صغيرا والغالب عليه المائية المرطبة (483) وأرضيته قليلا، وكل يوم تزداد أرضيته وتقل رطوبته حتى إذا تناهى عسا وصار خشبا صلبا قد استولت عليه الأرضية. وقوله: "ما كان من الأبدان في النشوء" أي في (484) النمو وهو ما بين الولادة إلى نحو عشرين سنة وأزيد منها قليلا، وكلما (485) كان أقرب إلى زمن الولادة كان النشوء أقوى، وكلما بعد كان النشوء أضعف، فأما عند الاحتلام فيحصل انقلاب قوي وتغير ظاهر، وعند العشرين يحصل أيضا انقلاب ولكنه دون الأول. وقوله: "فالحار الغزيري فيهم على غاية ما يكون من الكثرة". لا يريد أنه أكثر مما في الشباب، بل أكثر مما في الكهول والشيوخ، ومثل ما في الشباب في الكم PageVW3P021A لكنه مع الصبيان في جوهر رطب، ومع الشباب في جوهر اليبس ما هو. وقد علمت أن الجوهر الرطب تحلله (486) الحرارة أسرع مما تحلل الجوهر اليابس، فإن النار تحلل الماء أسرع مما تحلل الشمع، وتحلل الشمع أسرع مما تحلل الخشب والرصاص والحديد، وإذا كان المتحلل من أبدان الصبيان أكثر فإنها تحتاج من الوقود إلى أكثر مما تحتاج إليه سائر الأبدان، ويريد بالوقود الغذاء لأنه يمد الحار الغريزي كما يمد الدهن نور السراج، فإن لم (487) يتناول صاحب هذا المزاج من الغذاء ما يحتاج إليه ذبل بدنه PageVW2P016B ونقص. والذبول (488): الأخذ في الجفاف، وذلك يكون في الأشياء الرطبة، وأصل استعمال هذه الكلمة في النبات الرخص إذا أخذ في الجفاف وبقيت فيه بقية رطوبة، كالبقل (489) يقال فيه ذبل، فإذا ذهبت رطوبته أصلا قيل جف، فإن تناهي جفافه قيل قحل. وأما النقصان فهو في اللحم وفي القوة وسائر الأفعال؛ وحاجة الصبي إلى الغذاء كما قلنا من ثلاث جهات: جهة مشتركة لسائر الأسنان، وهي البدل (490) عما يتحلل. والجهتان الباقيتان يختصان بالصبيان: إحداهما (491): أن التحلل من أبدانهم أكثر منه في سائر الأسنان لرطوبتها، فحاجتهم إلى الخلف أكثر. والجهة الثانية: أن أبدانهم في النمو، فتحتاج أن يكون PageVW1P016A في الغذاء من الكثرة بمقدار ما يفي بالخلف عما تحلل ويبقى منه بقية صالحة للنمو، وأما سائر الأبدان فليس يفتقر إلا إلى الخلف فقط. وأما في الشيوخ فالحار الغريزي فيهم قليل، وما يتحلل من أبدانهم فقليل لقلة حرارتهم وصلابة PageVW0P018A أعضائهم، فلذلك لا يحتاجون من الغذاء والخلف إلا إلى اليسير، والغذاء الكثير يطفئ حرارتهم كما يطفئ الزيت الكثير إذا غمر (492) نور المصباح وإن كان مادته. ومما يدل على نقصان الحار الغريزي فيهم أنه لا يكاد يعرض لهم حمى قوية ملتهبة لأن الحرارة القوية سريعة القبول للالتهاب (493) والخروج عن الاعتدال، وليست الحرارة الضعيفة كذلك بل هي إلى قبول الإنطفاء أميل منها إلى قبول الالتهاب؛ ولذلك إذا عرض PageVW3P021B للشيخ (494) حمى ملتهبة كان وشيك الهلاك لأنها لم تعظم إلا لقوة مادتها وقوة السبب الموجب لها، فالحرارة العظيمة يسهل مصيرها إلى غاية الإفراط، وأما اليسيرة فليس يسهل ذلك فيها إلا أن تستكره غاية الاستكراه. والكثرة والقلة تقال في الحار على معنيين: على الكيفية، وعلى الجوهر الحار، فالحار الغريزي في الشيوخ PageVW2P017A قليل بالمعنيين جميعا.
[فصل رقم 15]
[aphorism]
قال أبقراط (495): الأجواف في الشتاء والربيع أسخن ما يكون بالطبع، والنوم أطول ما يكون. فينبغي في هذين الوقتين * أن يكون ما يتناول من الأغذية أكثر وذلك أن الحار الغريزي في الأبدان في هذين الوقتين (496) كثير، ولذلك يحتاج إلى غذاء كثير (497)؛ والدليل على ذلك أمر الأسنان والصريعين.
[commentary]
قال عبد اللطيف: هذا الفصل عائد بالفائدة (498) في تدبير الأصحاء والمرضى جميعا وهو اعتبار أوقات السنة الأربعة، فإن الفصل السابق أعتبر فيه تدبير الغذاء بحسب الأسنان وهذا الفصل اعتبر فيه الغذاء بحسب أوقات السنة الأربعة مناسبة للأسنان الأربعة، فالربيع مناسب لسن الصبيان، والصيف لسن الشباب، والشتاء لسن الكهول، والخريف لسن المشايخ (499)، لكن الشتاء تقوى فيه الحرارة الغريزية ويقل ما يتحلل منها فإذا توفر الحار الغريزي وقوي، قوى فعله وتصرف في الغذاء تصرفا تاما فجاد الهضم وتحللت الفضول الغالبة وتفتحت المسام ونشطت النفس وانتعشت وتنبهت الشهوة (500) فأحتيج إلى غذاء أكثر وضعف احتمال الصوم والصبر عن الغذاء زمانا طويلا. ولأن النوم أيضا في الشتاء يكون أطول لطول الليل فيجود الهضم لذلك أيضا وتقوى الشهوة، ولذلك صار يحتاج في هذين الوقتين من الغذاء إلى مقدار أكبر مما يحتاج إليه في الصيف والخريف لتوفر الحار الغريزي الفاعل للهضم في هذين الوقتين. قال: "والدليل على ذلك أمر الأسنان والصريعين" أما الأسنان PageVW1P016B فكالصبيان فإن شهوتهم أقوى لمناسبتهم مزاج الربيع ، وأما الصريعون فلأن الحرارة الغريزية PageVW3P022A في أبدانهم PageVW0P018B لا تزال مشتعلة لكثرة رياضتهم فيجود هضمهم (501) وتتحلل (502) فضولهم، وتتفتح (503) مسامهم فيحتاجون إلى غذاء أكثر من غيرهم. فجعل الأسنان والصريعين دليلا له في أن كثرة الحار الغريزي في الشتاء والربيع PageVW2P017B توجب كثرة الشهوة. والصريع فعيل كالشريب (504) والسكير والخمير (505)، وهذا البناء يدل على المواظبة على الشيء والاستكثار منه، فإن الشريب هو المواظب على الشرب، والفسيق هو المكثر من الفسق، والصريع هو المواظب على الصراع والمستكثر منه. واعلم أن الصيف وإن كان معينا في تحليل الفضول، فإنه يحلل أيضا الحار الغريزي الذي هو (506) مبدأ كل فعل جميل ومحمود، وإذا ضعف ضعف (507) الهضم. وأما في الشتاء فيتوفر الحار الغريزي ويقوى فتجود أفعاله ويحسن أثره، وإذا قوي حلل الفضول ودفع ونقى وفتح وغسل وجذب وهضم وفعل كل فعل (508) جميل محمود، ويكون تحليله خفيا بالبخار الرطب. وأما الصيف والهواء الحار (509) فإنه يحلل بالعرق والبخار (510) الدخاني، ونسبته في التحليل والانضاج نسبة النار الجاهلة التي تنضج بها ثمرة فجة بأن تطبخ أو (511) تشوى. وأما الحار الغريزي فبمنزلة انضاج الشمس للثمرة ونقلها إلى كمالها من اللين والحلاوة والتلوين وغير ذلك مما يتبع النضج الطبيعي. فأوقات السنة مما له حظ عظيم في تدبير الغذاء ولذلك تقوى شهوة الناس للغذاء في الشتاء ويجود استمراؤهم أكثر منهم في الصيف أضعافا مضاعفة. وكذلك جل الحيوان إلا ما كان من الحيوان قليل الدم أو عديمه فإنه يتحجر في الشتاء في باطن الأرض والأسراب ويعدم الحس والحركة ويستغني عن الغذاء وربما هلك أصلا، وذلك أن البرد ينفذ من سطوح أبدان هذا الحيوان إلى أعماقه، فينطفئ الحار الغريزي أصلا أو يكاد. ومثال ذلك ما يفعله الاستحمام بالماء البارد، فإنه أول ما يلقي سطح البدن ينهزم (512) عنه الحار الغريزي إلى عمقه، فيقوى هناك وتشتد سخونة الباطن، فإن دام وقوي نفذ إلى الأعماق فأخرج الحار الغريزي PageVW2P018A عن مستقره وأطفأه أصلا أو كاد، فأحدث الخدر والسكتة. فالحار والبارد يتغالبان (513) على المحل الواحد، فإن غلب البارد PageVW3P022B على سطح البدن قوي الحار في باطنه واشتعل، فإن قوي البارد ونفذ إلى الباطن الحار إنبرد موضعه واستوى (514) البرد PageVW0P019A ظاهرا وباطنا، وطفئت حرارة البدن أصلا. والتحلل اللطيف في الشتاء يكون أكثر لاشتعال (515) الحار الغريزي باطنا، فتزداد (516) الحاجة إلى الغذاء، لأن مقدار الغذاء على قياس (517) مقدار التحلل. والتحلل الخفي بفعل الحار (518) الغريزي، وكلما كانت الحرارة الغريزية أقوى كان التحليل أخفى عن الحس؛ ولذلك ذهب قوم إلى أن العرق خارج عن PageVW1P017A الأشياء الطبيعية، لأن الطبيعة إذا استولت على الغذاء وقهرته على ما ينبغي لم ينبعث من الجلد رطوبة تحس. فأما العرق فإنما يكون من أسباب تستكره الطبيعة كالحمام والرياضة ونحو ذلك. ومن أعظم الأدلة على أن الحار الغريزي في الشتاء أوفر وأكثر وأقوى أن جميع أمور البدن تجري في الشتاء على ما ينبغي من الهضم وخصب البدن واستفراغ الفضول استفراغا خفيا وخروجها من الجلد مع التنفس وفي البول وغير ذلك، فإن رسوب بول الشتاء أكثر مما في الصيف، والبول أيضا في الشتاء أكثر، واغتذاء البدن وزيادة لحمه ودمه أكثر لكنه مع كثرته يكون مكتنزا متلبدا مداخلا للأعضاء مستقرا فيها. وأما (519) في الصيف فيعرض له أن يرق وينتشر، ويعرض له شبيه بالغليان فتضيق عنه الأوعية (520) فربما شقها أو أكلها أو مال إلى عضو استضعفه (521) فأحدث ورما فلغمونيا. وقد علم الناس هذا فإنهم في آخر الربيع يستفرغون الدم من أبدانهم ومن دوابهم. وأبقراط (522) قد ذكر الربيع PageVW2P018B ههنا (523) بقول مطلق، وينبغي أن يفهم على التحديد كما حدده هو في موضع آخر؛ وذلك أن أول الربيع شبيه بالشتاء، وآخره شبيه بالصيف، وأوسطه بينهما، وقد يكون ربيع بارد يشبه (524) الشتاء، وربيع آخر (525) حار يشبه الصيف، وربيع آخر معتدل بينهما، فينبغي أن يختلف الغذاء بحسب أول الربيع وآخره، وبحسب طبيعته (526) العارضة له.
[فصل رقم 16]
صفحة غير معروفة