معنى قوله ﷺ: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا)
ثم قوله: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا)، كلمة (شيئًا) هنا نكرة تعم كل ما يدخل تحت هذا الاسم، فإن وقع منه شيء من الشرك وإن كان صغيرًا فإنه لم يأت بهذا الشرط، ويجوز أن يعذب؛ لأنه لم يأت بما شرط عليه.
وقد اختلف العلماء في قوله ﷺ: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا)، ما المقصود بالحق للعباد على الله؟ فقال قوم: إن للعباد على الله حقًا مستحقًا على سبيل القياس بحقوق العباد، وهذا قول طائفة ضالة وهم المعتزلة، فقاسوا الله جل وعلا على خلقه، ولهذا يقول العلماء: إنهم مشبهة الأفعال ونفاة الصفات، أي: يعطلون صفات الرب جل وعلا ويشبهون أفعال الرب جل وعلا بأفعال خلقه، فيجعلون للعابد أجرًا يطلبه من الله، كما أن من عمل عملًا لإنسان فإنه يستحق عليه أجرًا، وهذا خطأ محض؛ فإن الله جل وعلا لا يحق عليه أحد شيئًا، فهو المالك لكل شيء، وهو الخالق لكل شيء.
وقال فريق آخر: إنه ليس للعباد على الله حق يطلب، وإنما ذلك مجرد وعد فقط، فـ (حقه) يعني: تحقق موعوده.
أي أن وعده حق، وما وعد به سيقع، فقد وعد أهل الخير بالإثابة ووعد أهل الشر والشرك بالعقاب، فهذا معنى الحق عندهم، وهذا أيضًا ليس صحيحًا.
والصواب هو القول الثالث: أن للعباد على الله حق أحقه هو على نفسه جل وعلا، ولم يلزمه إياه أحد من الخلق، بل هو رحمة منه وفضل وإحسان، كما كتب على نفسه الرحمة، ولهذا يقول جل وعلا: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم:٤٧]، ولا يوجد أحد حقه عليه، ويقول جل وعلا: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام:٥٤].
فالحق الذي جعله للعباد: أن يثيب الطائع الإثابة التي يستحقها، ولهذا قال: (ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا)، هذا هو الحق الذي أحقه الله جل وعلا على نفسه.
وقد حرم جل وعلا على نفسه الظلم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر الحديث القدسي الطويل، وفيه أنه قال جل وعلا: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)، فهو الذي حرم ذلك على نفسه، وهو الذي أحق الحق لعباده المؤمنين على نفسه، لم يحقه عليه أحد من الخلق، فقوله: (ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا) أي: من مات وهو غير مشرك بالله جل وعلا شيئًا، وكلمة (شيئًا) قلنا: يدخل فيها الشرك الأكبر والشرك الأصغر، فإنه لا يمسه شيء من العذاب، وهذا خبر مطلق في جميع أنواع العذاب، لا عذاب الدنيا ولا عذاب القبر ولا عذاب الآخرة.
فإنه من سلم من الشرك كبيره وصغيره فإنه يكون من السابقين إلى الجنة، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، كما سيأتي بيان ذلك؛ لأن (شيئًا) نكرة عامة يدخل فيها كل ما يسمى شركًا في الشرع.
أما الشرك الأكبر فقد عُلم أنه ليس مع صاحبه أمن ولا اهتداء مطلق، فإذا مات عليه فهو من الخالدين في النار، كما قال جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [النساء:١١٦]، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى في قصة عيسى ﵇ لما نهى بني إسرائيل عن الشرك: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة:٧٢]، فأخبر جل وعلا أن الجنة محرمة على المشرك، وأنه ليس له مصير إلا النار، والشرك الأكبر هو: أن يعبد مع الله غيره، والعبادة أنواع متعددة، فأي عبادة جعلها لغير الله أو جعل العبادة بين الله وبين عباده فإنه يكون واقعًا في الشرك، وقد علم أن شرك المشركين ليس معناه أنهم كانوا يعتقدون أن أصنامهم شريكة لله في التدبير والخلق والإيجاد والتصرف، وإنما كانت عقيدتهم أن أصنامهم ومعبوداتهم من اللات والعزى ومناة وغيرها من الأصنام التي يتجهون إليها كان شركهم أن يجعلوها وسائط بينهم وبين الله يتقربون بها إلى الله، فيدعون الله بواسطتها، ويسألونها أن تشفع لهم عند الله، كما قال الله جل وعلا عنهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر:٣]، ولهذا أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم إذا سئلوا: من الذي خلقهم وخلق من قبلهم؟ ومن الذي خلق السموات والأرض؟ ومن الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض وينبت لهم النبات الذي يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم؟ إذا سئلوا عن ذلك قالوا: الله.
أي: الله وحده ليس معه شريك، ولهذا جعل الله جل وعلا ذلك حجة عليهم بأن يخلصوا العبادة له ما داموا يقرون بأنه المتصرف في هذه الأشياء وحده، المنفرد بإيجادها والتصرف بها وحده.
قال الله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢١ - ٢٢] أي: يعلمون أن الله هو الذي يفعل هذه الأشياء المذكورة.
يعني: هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم وحده، وهو الذي جعل الأرض مستقرة فراشًا لهم يتمكنون من الانتفاع بها والاستقرار عليها، وهو الذي جعل السماء بناءً فوقهم، وهو الذي ينزل من السماء المطر فينبت به النبات وحده لا شريك له في ذلك، ولهذا قال: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢٢] لأنه المتفرد بفعل ما ذكر، فإذا كان كذلك فلا يجوز أن تتجهوا إلى غيره في الدعاء والتوسل وطلب الشفاعة، فهذه المذكورات التي تجعلونها وسائط بينكم وبين الله لا تستطيع أن تشفع لكم.
فهذا في الواقع هو شرك المشركين، يقول جل وعلا في الآية الأخرى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان:٢٥]، وقال جل وعلا: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف:٨٧]، وقال جل وعلا عنهم: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل:٦٢]،
و
الجواب
أنهم يقولون: هو الله وحده، فلا يوجد أحد يجيب المضطر غيره لا الأصنام التي يتجهون إليها ولا غيرها، بل كانوا إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدعاء لله وحده، وتركوا ما كانوا يشركون به، فهذا هو شركهم الذي إذا ماتوا عليه صاروا خالدين في النار، وإلا فهم يعلمون أن الله جل وعلا ليس معه شريك يدبر ويخلق ويوجد ويعدم ويحيي ويميت، يعلمون هذا، وهذا أمر مقطوع لا شك فيه، فالقرآن واضح جدًا في هذا، وآياته كثيرة فيه.
وإن من المتعين على العبد المسلم أن يتعرف على ما كان المشركون يفعلونه خوفًا من أن يقع في فعلهم وهو لا يشعر؛ لأن الذي لا يعرف الشر لا يعرف الخير، كما جاء في الحديث عن حذيفة ﵁ قال: (كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه)، فالذي لا يعرف الشر يوشك أن يقع فيه وهو لا يدري، ويظن أنه خير.
وهذا في الشرك الأكبر، أما الشرك الأصغر فهو بحر لا ساحل له، ولكثرته وكونه غير منضبط بضابط يحدده بالعمل المعين جُعل تعريفه بالأمثلة، فهو كيسير الرياء، وكالحلف بغير الله، كأن يحلف -مثلًا- بالنبي، أو بالكعبة، أو بالأمانة، أو بالشرف، أو ما أشبه ذلك، وربما صار من الشرك الأكبر حسب ما يقوم في نية الحالف وقصده وإرادته، فإذا حلف بمخلوق من المخلوقات يعتقد أن هذا المخلوق يستطيع أن يطلع على ما في قلبه ويعاقبه إذا كان كاذبًا فإن هذا من الشرك الأكبر وليس من الأصغر، أما إذا كان أمرًا جرى على لسانه فهذا من الشرك الأصغر، والشرك الأصغر لا يجعل المسلم كافرًا، ولكنه ذنب يستحق العقاب عليه من الله إذا لم يعف عنه، وكذلك يسير الرياء في العمل، والرياء معناه: أن يعمل عملا لله جل وعلا ثم يقصد بعمله أن يراه الناس فيثنون عليه أو يحبونه، فيزين العمل من أجل ذلك أو يحسنه أو يطيله.
فإذا كان هذا الشيء الذي بعثه على العمل هو الرياء فهذا لا يكون شركًا أصغر؛ لأن هذا صفة المنافقين والكفار، كما قال الله جل وعلا عن المنافقين: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء:١٤٢]، وكذلك قال عن الكفار، وأخبر أنهم خرجوا من ديارهم بطرًا ومراءاة للناس في أعمالهم.
ولكن إذا عرض هذا الشيء في أثناء العمل، فهذا لا يخلو إما أن الإنسان يستدعي ذلك ويستمر معه فهذا يكون شركًا محبطًا للعمل الذي قارنه، أو أنه يدافعه ويعرض عنه فإنه لا يضره، فملاحظة الناس وقصدهم وجلب أنظارهم إلى العمل وتحسينه من أجلهم يكون شركًا، ولكنه من الشرك الأصغر وليس من الشرك الأكبر، وهذا إذا كان يسيرًا قليلًا أما إذا كان كثيرًا فلا.
وكذلك قول الإنسان: لولا الله وفلان.
أعني: كونه يضيف الأفعال إلى أسبابها، فإنه يكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد أن الفاعل هو الله، وإنما ذلك مجرد سبب، وكذلك كون الإنسان يبخل بالحق حبًا للمال، فإن حبه للمال وبخله بالحق الذي وجب عليه يجعله مقدمًا حبه المال على حبه لله جل وعلا ولفعل طاعته، فيكون بذلك داخلًا في الشرك الأصغر، وهذا كثير جدًا، ولهذا قال: (ألا يشرك به شيئا) أي: فإنه لا يعذر من يشرك به شيئًا، فإذا سلم الإنسان من الشرك قليله وكثيره كبيره وصغيره فإنه يكون سالمًا من عذاب الله مطلقًا، ولا يناله عذاب في الدنيا ولا بعد الموت، ولا في القبر ولا بعد البعث، وهو الذي يكون سعيدًا سعادة تامة وكاملة، ويكون مهتديًا هدىً تامًا وكاملًا، فصار
8 / 3