180

شرح فتح المجيد للغنيمان

تصانيف

ما ينافي التوكل من الرقية وحكم الاكتواء
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (رأيت النبي ومعه الرهط) الذي في صحيح مسلم: (الرهيط) بالتصغير لا غير، وهم الجماعة دون العشرة، قاله النووي.
وقوله: (والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد) فيه الرد على من احتج بالكثرة.
وقوله: (إذ رفع لي سواد عظيم) المراد هنا الشخص الذي يرى من بعيد.
وقوله: (فظننت أنهم أمتي) لأن الأشخاص التي ترى في الأفق لا يدرك منها إلا الصورة، وفي صحيح مسلم: (ولكن انظر إلى الأفق)، ولم يذكره المصنف، فلعله سقط من الأصل الذي نقل الحديث منه، والله أعلم.
وقوله: (فقيل لي: هذا موسى وقومه) أي: موسى بن عمران كليم الرحمن.
وقومه: أتباعه على دينه من بني إسرائيل.
وقوله: (فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذا أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) أي: لتحقيقهم التوحيد.
وفي رواية ابن فضيل: (ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفًا).
وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين أنهم (تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر).
وروى الإمام أحمد والبيهقي في حديث أبي هريرة ﵁: (فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفًا) قال الحافظ: وسنده جيد.
وقوله: (ثم نهض) أي: قام.
وقوله: (فخاض الناس في أولئك) (خاض) بالخاء والضاد المعجمتين، وفي هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه الاستفادة وبيان الحق، وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل، وفيه حرصهم على الخير، ذكره المصنف.
وقوله: (فقال: (هم الذين لا يسترقون» هكذا ثبت في الصحيحين، وهو كذلك في حديث ابن مسعود في مسند أحمد، وفي رواية لـ مسلم: (ولا يرقون) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي ﷺ: (ولا يرقون)، وقد قال النبي ﷺ وقد سئل عن الرقى: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه)، وقال: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا).
قال: وأيضًا فقد رقى جبريل النبي ﷺ، ورقى النبي ﷺ أصحابه.
قال: والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن.
وقال: وإنما المراد وصف السبعين ألفًا بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم.
وكذا قال ابن القيم رحمهما الله.
وقوله: (ولا يكتوون) أي: لا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم استسلامًا للقضاء وتلذذًا بالبلاء.
قلت: والظاهر أن قوله: (لا يكتوون) أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل بهم ذلك باختيارهم، أما الكي في نفسه فجائز، كما في الصحيح عن جابر بن عبد الله ﵁ (أن النبي ﷺ بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع له عرقًا وكواه) وفي صحيح البخاري عن أنس ﵁ أنه كُوي من ذات الجنب والنبي ﷺ حي، وروى الترمذي وغيره عن أنس ﵁ أن النبي ﷺ كوى أسعد بن زرارة من الشوكة، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ﵁ مرفوعًا: (الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى عن الكي)، وفي لفظ: (وما أحب أن أكتوي).
قال ابن القيم ﵀: قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع: أحدها: فعله.
والثاني: عدم محبته والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه.
ولا تعارض بينها بحمد الله؛ فإن فعله له يدل على جوازه، وعدم محبته له يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي فعلى سبيل الاختيار والكراهة].
مراد ابن القيم أن النهي عنه إنما هو من باب التنزيه، يعني: مكروه تنزيهًا.
وأما قوله: وعدم محبته له يدل على المنع منه فغير صواب؛ إذ عدم محبته لا يدل على المنع منه، وإنما هو لا يحبه ولا يمنعه، فهو مثلما قال في الضب: (لا آكله ولا أحرمه) لما سئل عنه، وفي حديث آخر: (ليس بأرض قومي فأجدني أكرهه)، فالمقصود أنه قال: (لا آكله ولا أحرمه)، فهذا لا يدل على أنه مكروه أو أنه ممنوع، بل هو كرهه، والكي مثله، فكرهه وقال: (وما أحب أن أكتوي)، أو: (أنهى أمتي عن الكي)، وقد علم أنه أذن فيه فدل على أنه جائز، ولكنه -مثلما قلنا- سبب من الأسباب المكروهة، إذا تركه الإنسان فهو من باب التنزه والترفع عن الأمور الجائزة التي غيرها أفضل منها، وإذا فعله الإنسان فلا لوم عليه؛ فإنه جائز، ولا يكون آثمًا؛ لأنه مباح.

17 / 16