101

شرح فتح المجيد للغنيمان

تصانيف

خطر الشرك وضرره على الإنسان قال الشارح: [فقوله في الحديث: (وحده لا شريك له) تأكيد وبيان لمضمون معناها، وقد أوضح الله ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص (لا إله إلا الله!) فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا (لا إله إلا الله) لفظًا ومعنىً، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظًا وجحدوها معنىً، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم، والخوف والرجاء، والتوكل والدعاء، وغير ذلك من أنواع العبادة، بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب، فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجًا من الله، بخلاف حال المشركين الأولين، فإنهم كانوا يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت:٦٥] الآية، فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم]. الشرك في الواقع من الأمور التي يجب أن يهتم بها، وذلك أن الله جل وعلا أخبر أن المشرك إذا مات على شركه فإنه خالد في النار، كما قال الله جل وعلا: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ [المائدة:٧٢]، وقال تعالى في الآية الأخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨]، وأخبر أن المشركين في المحبة الذين يجعلون لله أندادًا يحبونهم كحب الله أنهم لا يخرجون من النار، فقال: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة:١٦٧]، فإذا كان الأمر هكذا فيجب على العبد أن يتنبه لذلك ويهتم به. وكثير من الناس ينكر أن يكون ما يقع من كثير من الذين يطوفون بالقبور أو يعكفون عندها ينكر أن يكون هذا شركًا، ويقول: هذه محبة للصالحين وتوسل بهم، والتوسل مطلوب؛ لأن الله جل وعلا يقول: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة:٣٥]، فهذا من الوسيلة التي تُبتغى إلى الله جل وعلا. وهذا في الواقع من الجهل في دين النبي ﷺ الذي بينه ووضحه، وذلك أن أصحاب القبور قد فارقوا الحياة، فإذا دعاهم الداعي لا يسمعون دعوته ولا يستطيعون أن يجيبوه بشيء؛ لأن الحي الحاضر يمكن أن يجيبك بما تدعوه إليه أو ببعض ما تدعوه إذا كان قادرًا، ولهذا اشترط في الدعاء الموجه إلى المخلوق أن يكون حيًا حاضرًا عندك يسمع، وأن يكون قادرًا على إجابة ما تدعوه به، وأما إذا دعوته بالشيء الذي لا يستطيعه مثل أن تقول: اشف مرضي. أو أصلح قلبي. أو هب لي ولدًا. أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا يُدعى به إلا الله وحده جل وعلا، ولكن إذا كان يستطيع أن يقدم لك نفعًا يستطيعه وكان حيًا حاضرًا فيجوز ذلك ولا يكون شركًا، أما إذا كان ميتًا، أو كان غائبًا في بلد آخر فدعوته فذلك شرك بالله؛ لأن هذا يجعله بمنزلة من يسمع قولك ويطلع على ما في نفسك، وهذا لا يكون إلا لله جل وعلا. فكذلك أصحاب القبور عندما يعكفون عندها، أو يأخذون -مثلًا- من ترابها يتبركون به، ويزعمون أنه ينفعهم، أو يؤدون عندها العبادات بأنواعها من صلاة وذكر وقراءة قرآن وما أشبه ذلك، ويقولون: إن فعل هذه العبادات عندها أرجى وأحسن من فعلها في المساجد. فكل هذا إما أن يكون شركًا أكبر بالله جل وعلا، أو يكون وسيلة إلى الشرك، كفعل العبادات عندها بأن يكون -مثلًا- يصلي لله في المقبرة أو يتلو القرآن ويذكر الله يريد وجه الله، وإنما يقول: إن هذا يقبل في هذا المكان. أو إنه أحرى في القبول. فهذا من البدع التي لا يقبل معها العمل؛ لأن كل بدعة ضلالة، والضلالات كلها في النار، ولأن الرسول ﷺ يقول: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه. والله جل وعلا يقول: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ [الغاشية:٢ - ٤]، فهي تعمل وتنصب وتخشع، ولكنها في الآخرة تصلى جهنم؛ لأنها تخشع وتعمل بالبدع وبخلاف ما جاء به الرسول ﷺ، فالبدع طريق إلى الشرك ووسيلة إليه، أما إذا كان يرجو أصحاب القبور فلابد أنه يعتقد أنهم يسمعون، أو أنهم -مثلًا- يعلمون ما في القلب، فإذا اعتقد أنهم يسمعون دعوته -والسماع المراد به الإجابة- ويستطيعون أن يجيبوا فهذا من الشرك بالله جل وعلا؛ لأنهم أموات غير أحياء، ولأنهم لا يستطيعون أن يقدموا لأنفسهم حسنة واحدة، ولا أن يضعوا من كتابهم ومن سيئاتهم سيئة واحدة، كما قال الله جل وعلا: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف:٥ - ٦]. وليس معنى قوله جل وعلا: «مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أنهم يوم القيامة يستجيبون لهم ويعطونهم مطلوبهم، ولكن المقصود أنهم لا يستطيعون رد الجواب عليهم ورد الخطاب إليهم حتى يبعثوا ويجمع بينهم ويقال لهم: هؤلاء الذين كنتم تسألونهم وتتقربون إليهم اذهبوا إليهم فليعطوكم مسئولكم. فعند ذلك يكفرون بهم ويتبرأون منهم، وهذا هو معنى قوله: «مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» يعني أنهم يوم القيامة تكون إجابتهم لهم الكفر بهم والتبرؤ مما كانوا يفعلونه. ولهذا قال: «وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ»؛ لأن المدعو قد يكون -إن كان من الصالحين- في نعيم في قبره غافلًا عما يطلب منه، وهو -أيضًا- لا يرضى بهذا، بل يكون كافرًا بذلك مبغضًا له عدوًا لمن يفعله؛ لأن هذا عبادة لغير الله، والذي يرضى بأن يُعبد من دون الله هو من رؤساء الطواغيت الذين يصدون عن دين الله وعن عبادته ويدعون إلى عبادة الشيطان، فكيف يرضى بذلك من هم صالحون؟! فإذا كانوا صالحين فلا يمكن أن يرضوا بذلك أبدًا، ولهذا أخبر الله جل وعلا أن العابد والمعبود من دون الله حصب جهنم، فقال سبحانه: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء:٩٨]، و(حصب جهنم) يعني أنهم وقودها، يوضعون فيها هم ومن عبدوهم. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي هريرة ﵄ أنه إذا كان يوم القيامة وصار الموقف الطويل الشديد العظيم الذي يقفه الناس لرب العالمين يقومون على أقدامهم طويلًا، فإذا طال وقوفهم واشتد كربهم ألهمهم الله جل وعلا أن يطلبوا الشفاعة من الرسل الذين معهم في الموقف، فإذا طلبوا الشفاعة وشفع الشافع عند رب العالمين ليأتي للقضاء بين عباده ويريحهم من هذا الموقف، فإذا جاء جل وعلا يخاطبهم ويقول جل وعلا لهم جميعًا: أليس عدلًا مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فكلهم يقولون: بلى. أيستطيع إنسان إذا كان يتولى أحدًا أن يقول: لا أريده؟! فعند ذلك يمثل لكل عابد معبوده، فيجاء بذلك المعبود إذا كان حجرًا أو شجرًا أو صنمًا، وأما إذا كان مخلوقًا من المخلوقات العابدة لله كالبشر والملائكة والجن فإن كان من المطيعين لله الذين يعبدون الله وحده فإنه يؤتى بشياطينهم التي زينت للعابد هذه العبادة على صورهم، ثم يقال لهم: اتبعوا معبوداتكم ومن كنتم تولونهم. فيذهب بهم إلى النار فيلقون في جنهم، ثم العابدون لله يلقون ثوابهم، وهذا من معاني قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء:٩٨]، ولما نزلت هذه الآية قال أحد المشركين: الآن أخصم محمدًا فجاء إلى رسول الله ﷺ وقال: أرأيت عيسى بن مريم وأمه والملائكة أليسوا من عباد الله الصالحين؟ فكيف تخبر بأنهم حصب جهنم؟ فأنزل الله جل وعلا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ [الأنبياء:١٠١ - ١٠٢] يعني أن هؤلاء لا يرضون بهذه العبادة، فالعابد لهم في الواقع عابد للشيطان. فالذي يعبد عيسى لم يعبد عيسى في الواقع وإنما عبد شيطانًا زين له ذلك، فهذا الشيطان الذي زين له هذه العبادة وأمره بها هو الذي يؤتى به يوم القيامة ويقال له: هذا معبودك فاتبعه. وكذلك الذي يطوف بالقبر إذا كان المقبور صالحًا فإنه إذا كان يوم القيامة يجاء بالشيطان الذي زين لهذا العابد العبادة وأمره بها فيقال له: هذا وليك في الدنيا فاتبعه. وإلا فالرسل وأتباع الرسل الصالحين -ولا يكون الإنسان صالحًا إلا إذا كان متبعًا للرسول ﷺ برآء من كل شرك ومن كل مخالفة لله جل وعلا ولرسوله، ولا يرضون بها، وليس معنى ذلك إهدار حقوقهم، ولكن حماية لحق الله جل وعلا أن يوضع للمخلوق شيء منه؛ لأن حق الله يجب أن يكون خاصًا به، ولا يكون لأحد منه شيء، والخلق كلهم عباد لله ليس لهم من العبودية شيء، فالعبادة لابد أن تكون خالصة لله جل وعلا، والرسول ﷺ يقول: (لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، ولكن لا يجوز لأحد أن يخضع لأحد، فالخضوع لله، والذل لله، والخوف منه، والرجاء منه، فالعبادة له وحده، وكل من ترك من العبادة شيئًا لغير الله جل وعلا فإنه واقع في الشرك الأكبر الذي توعد فاعله بالنار، ويكون خالدًا فيها -نسأل الله العافية-، وتكون الجنة عليه محرمة، ولكن الجهل بالعبادة والجهل بمعنى (لا إله إلا الله) هـ

10 / 6