شرح العقيدة الطحاوية
محقق
أحمد شاكر
الناشر
وزارة الشؤون الإسلامية
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤١٨ هـ
مكان النشر
والأوقاف والدعوة والإرشاد
تصانيف
العقائد والملل
الْعَامَّةَ دَافِعَةً لِلْأَمْرِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الْمَشِيئَةَ عَلَى جِهَةِ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوهَا مُعَارِضِينَ بِهَا لِأَمْرِهِ، دَافِعِينَ بِهَا لِشَرْعِهِ، كَفِعْلِ الزَّنَادِقَةِ، وَالْجُهَّالِ إِذَا أُمِرُوا أَوْ نُهُوا احْتَجُّوا بِالْقَدَرِ. "وَقَدِ احْتَجَّ سَارِقٌ عَلَى عُمَرَ ﵁ بِالْقَدَرِ، فَقَالَ: وَأَنَا أَقْطَعُ يَدَكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ". يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ (١) فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُمُ التَّكْذِيبُ، فَهُوَ مِنْ قَبْلِ الْفِعْلِ، مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْهُ؟ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ؟!
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا يَقُولُونَ فِي احْتِجَاجِ آدَمَ عَلَى مُوسَى ﵉ بِالْقَدَرِ، إِذْ قَالَ لَهُ: أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ عَامًا؟ وَشَهِدَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ آدَمَ حَجَّ مُوسَى، أَيْ: غَلَبَ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ؟ قِيلَ: نَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، لِصِحَّتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَا نَتَلَقَّاهُ بِالرَّدِّ وَالتَّكْذِيبِ لِرَاوِيهِ، كَمَا فَعَلَتِ الْقَدَرِيَّةُ، وَلَا بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَارِدَةِ. بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ آدَمَ لَمْ يَحْتَجَّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ عَلَى الذَّنْبِ، وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ بِرَبِّهِ وَذَنْبِهِ، بَلْ آحَادُ بَنِيهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّهُ بَاطِلٌ. وَمُوسَى ﵇ كَانَ أَعْلَمَ بِأَبِيهِ وَبِذَنْبِهِ مِنْ أَنْ يَلُومَ آدَمَ عَلَى ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ، وَإِنَّمَا
وَقَعَ اللَّوْمُ عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي أَخْرَجَتْ أَوْلَادَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَاحْتَجَّ آدَمُ بِالْقَدَرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ، لَا عَلَى الْخَطِيئَةِ، فَإِنَّ الْقَدَرَ يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ، لَا عِنْدَ الْمَعَائِبِ. وَهَذَا الْمَعْنَى أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ. فَمَا قُدِّرَ مِنَ الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الرِّضَى بِاللَّهِ رَبًّا، وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُذْنِبَ، وَإِذَا أَذْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ. فَيَتُوبَ مِنَ الْمَعَائِبِ، وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَصَائِبِ. قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ (٢) وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾
(١) سورة يُونُس آية ٣٩. (٢) سورة غافر آية ٥٥.
1 / 105