ومن مواقفه البطولية التي خلدها التاريخ عند ما سار جيش التتار إلى الشام، ابتدر شيخ الإسلام وذهب مع البريد إلى مصر ودخل على السلطان، وخاطبه بقوة قائلا له: «إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله، والذب عنهم» وهدده بأن أهل الشام سيقيمون لهم من يحميهم ويقوم بأمرهم فأجابه السلطان إلى ما أراد «١».
وبهذه المواقف وغيرها أصبحت شجاعة ابن تيمية وقوته مضرب المثل.
وقد وشي بالشيخ إلى السلطان الملك الناصر، فأحضره بين يديه، ومن جملة ما قال له الناصر: أخبرت أنك أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك، فرد عليه بنفس مطمئنة وقلب ثابت، وثبوت عال سمعه كثير ممن حضر: أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك آبائك لا يساوي عندي فلسين. فتبسم السلطان لذلك «٢».
ويذكر ابن القيم ما منحه الله من قوة القلب وانشراح الصدر وسرور النفس مع أنه كان محبوسا في القلعة ويقول: «وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض، أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة ...» «٣».
ويقول خادمه إبراهيم بن أحمد الغياني: «... ثم بعد أيام جاء عند الشيخ- يعني ابن تيمية- شمس الدين بن سعد الدين الحراني وأخبره أنهم يسفرونه إلى الإسكندرية. وجاءت المشايخ التدامرة «٤» وأخبروه بذلك، وقالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك أو نفيك أو حبسك، فقال لهم:
«أنا إن قتلت كانت لي الشهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبدا وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت على صوف» فيئسوا منه وانصرفوا ... ثم ذكر أنه لما ركب مع نائب السلطان متوجها إلى الإسكندرية فقال له إنسان: «يا سيدي هذا مقام الصبر»، فقال له: «بل هذا مقام الحمد والشكر، والله إنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قسم على أهل الشام ومصر لفضل عنهم، ولو أن معي في هذا
_________
(١) انظر: ذيل طبقات الحنابلة (٤/ ٣٩٥ - ٣٩٦)، شذرات الذهب (٥/ ٤٥٥).
(٢) الأعلام العلية ص ٦٥.
(٣) الوابل الصيب ص ٤٥.
(٤) نسبة إلى «تدمر» إحدى مدن الشام.
انظر معجم البلدان (٢/ ١٧).
1 / 12