شرح قول المصنف: (أهل السنة والجماعة)
قال: [أما بعد ..
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة].
أهل السنة: أي هم المتمسكون بسنة النبي ﷺ.
قد يقول قائل: لِمَ لم يقل: أهل القرآن؟
الجواب: أنه ليس المقصود بالسنة هنا الحديث الذي هو كلام الرسول ﷺ، بل معنى السنة هنا أعم من ذلك، فإنه يراد بالسنة في هذا السياق ما بعث به النبي ﷺ، فسنة المرسلين هي رسالتهم، ويمكن أن يقال: إن أهل السنة هنا بمنزلة أهل الرسالة، فقوله: (أهل السنة) أي: المتمسكون بسنة النبي ﷺ، وسنته ليس فقط ما قاله ﷺ، بل ما بعث به، وأخصه القرآن الذي هو كلام الله ﷾، ثم ما أوحاه الله ﷾ إلى نبيه من الأقوال، وكذلك ما وقع له ﷺ من الأفعال الشرعية.
قوله: "والجماعة" يقع في كلام بعض المتكلمين وأهل البدع أن هذا الاسم -يعنون "الجماعة"- دخل عليهم لما اجتمع الناس على معاوية ﵁، وهذا كله تكلف، فإن الجماعة لفظٌ شرعي، فقد قال الله ﷾: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران:١٠٣] فيقصد بالجماعة الاجتماع.
وفي هذا إشارة إلى أن الإصابة الشرعية معتبرة بشرطين:
الأول: الفقه ..
وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بقول المصنف: "السنة".
الثاني: الاتباع أو الاقتداء، وهو قوله: "الجماعة".
وهذا يستلزم نتيجةً شرعية لا بد من فقهها: أن ثمة تلازمًا بين السنة والاجتماع، أو أن ثمة تلازمًا بين الفقه وبين الاتباع ..
وهلم جرًا من المعاني.
فمن اختص بفقه -ولاسيما في المسائل العامة التي تكلم فيها السلف- ليس عليه أثر صريح من كلام السلف فإنه ينكر عليه مهما أظهر للناظر أو للسامع أنه بناه على النصوص، وهذه النصوص من لم يفقهها فإنه يقع له اختلاطٌ كثير، ليس في مسائل الفقه، بل في مسائل فوق ذلك.
وأضرب لذلك مثلًا:
ذكر النبي ﷺ الخوارج فوصفهم بقوله المتواتر عنه: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر -أي: الرامي- إلى نصله فلا يجد فيه شيئًا، ثم ينظر إلى رصافه فلا يجد فيه شيئًا، ثم ينظر إلى قذده فلا يجد فيه شيئًا، قد سبق الفرث والدم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي وجه: (قتل ثمود) وفي وجه: (قاتلوهم؛ فإن لمن قاتلهم أجرًا عند الله) وفي وجه: (لو يعلم المقاتل لهم ما أعد له لنكل عن العمل).
فهذه الأحرف النبوية قد تقود الناظر فيها ابتداء -ولا سيما أنهم خرجوا على المسلمين، وكفروهم واستباحوا دماءهم، وأنهم لم يعتبروا حديث النبي ﷺ إلى أن هؤلاء قومٌ كفار، وأن الذي كفرهم هو الرسول ﵊؛ لأنه قال: (يمرقون من الدين) ليس أي مروق، بل: (كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله ..
قد سبق الفرث والدم) كالسهم إذا دخل رمية فخرج وليس فيه أي أثر لفرث أو دم، وكأنهم خرجوا من الإسلام لم يبق معهم منه أي أثر.
فالأحرف فيها كنايات قوية في ذمهم وفي مروقهم وبعدهم عن السنة وما بعث به النبي ﷺ.
لكن الصحابة ﵃ مع كل هذه النصوص لم يتطرق -حسب ما نقل في الرواية- إلى صحابي واحد أن النبي ﷺ قصد تكفيرهم، فإنهم لما ظهروا بآيتهم الحسية وبقتالهم للمسلمين، وبتكفيرهم لأئمة الصحابة الذين أدركوهم، وبسلهم السيف على المسلمين، لم يختلف الصحابة في قتالهم، لكن لم ينقل أي اختلاف عن الصحابة في كونهم ليسوا كفارًا، فقد أجرى فيهم علي بن أبي طالب والصحابة معه رضوان الله عليهم أجمعين سنة المسلمين، فلم يجهزوا على الجريح، ولم يتبعوا المدبر، ولم يغنموا الأموال، ولم يسبوا النساء والذراري.
بل لما قتل أحدهم عليًا ﵁، وأدخل علي الدار قال: (إن مت فاقتلوه، وإن حييت فأنا ولي الدم).
فقوله ﵁: (فإن حييت فأنا ولي الدم)، يدل على أن الرجل مسلم؛ لأنه لو كان كافرًا مرتدًا لم يكن لـ علي ﵁ ولاية في دمه، ولكان حكمه القتل مطلقًا: (من بدل دينه فاقتلوه)، وهذا ليس توانيًا من علي ﵁؛ فإنه لما ظهر الكفر الصريح البواح ما تردد ﵁ -بل ربما فعل أمرًا عده بعض الصحابة من الزيادة- في قتل من أظهره، فإنه لما ظهر المؤلهة التناسخية -وهي فكرة زندقية فلسفية نقلت من بلاد فارس وأدخلها قوم يظهرون التشيع، وليس لها أثارة لا في العقل ولا في الشرع ولا حتى في ديانة أهل الكتاب- وألهوا علي بن أبي طالب ﵁، أحرقهم بالنار، فاعترض ابن عباس ﵄ وطائفة على مسألة الإحراق، وقال ابن عباس ﵄ -كما في البخاري -: (لو كنت أنا لم أحرقهم، ولقتلتهم؛ لأن النبي ﷺ يقول: من بدل دينه فاقتلوه).
فهذا الباب يحتاج إلى فقه واسع، ومن العجب أن ترى بعض طلبة العلم لا يجزم في بعض المسائل -وهي مسائل فقهية مفصلة- ويقول: إني متوقف فيها، مع أنها مسائل قد درست وصرح بدراستها، وضبطت في كتب الفقهاء.
لكن تراه في هذه المسائل الاستطرائية وفي شأنها تخبط كثير، إفراطًا وتفريطًا فإن التفريط فيها ليس بعيدًا من جهة قدره وانتشاره عن الإفراط، فالإفراط موجود ولكن التفريط والتقصير في تحقيق هذه المسائل موجود أيضًا.
2 / 5