شرح ابْن نَاجِي التنوخي
قَاسم بن عِيسَى بن نَاجِي الْمُتَوفَّى ٨٣٧ هـ
على
متن الرسَالَة
للْإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي زيد القيرواني الْمُتَوفَّى سنة ٣٨٦ هـ
أعتنى بِهِ
أَحْمد فريد المزيدي
الْجُزْء الأول
دَار الْكتب العلمية
صفحة غير معروفة
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة مختصرة للمصنف
هو الشيخ الإمام العالم العلامة الفقيه أبو الفضل وأبو القاسم: قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي القيروانى: من القضاة من أهل القيروان.
تعلم فيها وولي القضاء فى عدة أماكن.
له كتب منها: شرح المدونة الكبرى لسحنون.
وزيادات على معالم الإيمان.
شرح رسالة أبو زيد القيروانى.
ومشارق أنوار القلوب، وشرح التهذيب للبراذعى.
- الشافى فى الفقه.
- وانظر: نيل الابتهاج (ص٢٢٣).
- والبستان (ص١٤٩).
- معجم المؤلفين (٢/ ٦٤٦)
كتبه
أبو الحسن أحمد فريد المزيدى
***
1 / 3
المقدمة
الحمد لله مالك يوم الدين المعبود الموصوف بالقدم والجود، الذى خلق الإنسان من طين وجعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، وشق سمعه وبصره وأنشأه خلقاَ آخر فتبارك الله أحسن الخالقين؛ اخترعه وابتدعه، ثم وفقه لما ارتضاه وشرعه، فسبحان من رفع فى جنته درجة من سبقت له العناية بتفقهه في الدين، وبجمعه ما اقتفى من آثار السلف الصالح وبثه لسائر العالمين، أحمده على ما أسبغ من آلائه وعلم من عظيم دينه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله التي الكريم الرءوف الرحيم، المبعوث بالحنيفية السمحة ليبين للناس ما نزل إليهم من تحليل وتحريم، صلى الله وعلى آله أفضل صلاة يتبعه أفضل تسليم.
وبعد:
فإنه لما كثر إقرائي لرسالة الشيخ الفقيه العالم العامل الورع أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني استخرت الله في وضع تعليق يعين الناظر على ما يتعلق بما تكلم عليه الشيخ من أقوال في المسألة وتتميم لما نطق به الشيخ من ظاهر كلامه إلى غير ذلك من الفوائد فمهما عبرت ببعض شيوخنا فهو الشيخ الفقيه العالم الصالح التقي الزاهد أبو عبدالله محمد ابن الشيخ الصالح المجاور والمرحوم أبي عبد الله محمد بن عرفة الورغمي عرفه الله الخير في الدنيا والآخرة ومهما عبرت به فأكثره من تأليفه المنسوب إليه بعضه تلقيه من بعض من لقيناه وأقله سمعته منه مشافهة نسأل الله تعالى الإعانة وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
1 / 5
الكتاب
الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته:
الحمد لله ثمانية أحرف والجنة لها ثمانية أبواب فمن قال الحمد لله فتحت له أبواب الجنة الثمانية قاله ابن الخطيب. وابتدأ الشيخ بالحمد لأنه مفتتح كتاب الله الكريم فجعله فاتحة كلامه وأول ما جاء به القرآن في نظامه ولأنه سنة رسول الله ﷺ في كتبه ومواعظه وسنة الخلفاء الراشدين من بعده روي أن رسول الله ﷺ قال: "كل أمر ذي بال لا يبتدأ فيه بالحمد لله فهو حرام" وفي رواية: "فهو أقطع" وفي رواية: "فهو أبتر" وبذلك تعقب الشيخ الفقيه أبو محرز على أسد بن الفرات لما بادر في قراءة عقد فقال: هذا ما اشترى الأمير الأجل.
فقال أبو محرز أخطأت يا أسد وبين له خطأه لما سأل عن ذلك بتركه الحمد لله حسبما هو مذكور في كتاب أبي بكر المالكي والمدارك لعياض ولولا الإطالة لذكرت القضية بكمالها وليس المراد بعين لفظ الحمد بل المطلوب إيقاع ذكر من الأذكار إذ المراد بحمدا لله الثناء على الله سبحانه.
وبذلك أجيب عن مالك بن أنس ﵀ لكونه ابتدأ كتابه الموطأ بوقوت الصلاة فإنه ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم وهو الجواب عن الشيخ أبي القاسم الزجاجي، ومن الشيخ أبي عمر وابن الحاجب وغيرهما.
واختلف هل الحمد أعم من الشكر أم لا على ثلاثة أقوال: فقيل بذلك لأن الشكر إنما يكون في مقابلة الإنعام وقيل عكسه لأن الشكر يكون بالقول والفعل بخلاف الحمد إنما يكون بالقول خاصة وقيل ليس بينهما عموم ولا خصوص فيستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر، والمراد بالإنسان الجنس.
وقول من حمله على عيسى ﵇ بعيد وأبعد من قول من حمله على آدم ﵇ والباء في قوله بنعمته للمصاحبة أو السبية أي ابتدأه بسبب أن ينعم عليه والضمير المضاف إليه نعمة يعود على الخالق سبحانه ويجوز عوده على الإنسان لما كانت النعمة ملتبسة به ومصاحبة له.
وظاهر كلام الشيخ أن لله ﷿ على الكافر نعمة وهو كذلك عند أكثر العلماء في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فواضح وأما في الآخرة فلأن ما من نعمة وعذاب إلا وثم ما هو أشد منهما إلا أنه لا يقال إنهم في نعمة لأنهم في محل الانتقام والغضب
1 / 6
والعذاب الشديد لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.
ونقل الشيخ أبو بكر بن العربي عن الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه قال لا يقال إن لله تعالى على الكافر نعمة لا دينية ولا دنيوية، وجعل التالي الخلاف لفظيا بعيد لما قدمت والله أعلم.
(وصوره في الأرحام بحكمته):
الضمير يعود على الإنسان وهو للجنس فلذلك جمع الأرحام باعتبار ما في الجنس من الجمع، ومعنى بحكمته أي بعلمه ومشيئته وهي وضع الشيء في محله، ألا ترى أنه وضع البصر وجعله في أعلى الجسد لتكون منفعته أعم وأتم وجعل عليه أجفانا كالأغطية تغطي وتقيه من الآفات وجعلها متحركة تنطبق وتنفتح على مقدار حاجته وجعل في أطرافها أشفارا تدع الذباب والهوام إذا نزلت عليها، وجعلها عليه زينة كالحلية لماي حلى وجعل عظم الحاجب ناتئا عليها يقيها ويدفع عنها لما كانت لطيفة في شكلها إلى غير ذلك من المصالح والمنافع والآلاء التي لا يحيط بها إلا خالقها تعالى، هذا بالنظر إلى ما في عضو من أعضائه فما ظنك بسائر جسده.
(وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه):
أي أبرزه من الصلب إلى الرحم وقيل: أوجده وأخرجه من الضيق ضيق الأحشاء إلى الموضع الواسع وخلق تعالى في قلوب عباده الرفق الشفقة عليه ويسر له رزقا لينا في ثدي أمه متوسطا بين الملوحة والعذوبة باردا في الصيف حارا في الشتاء يخرج من عرقين يتغذى من أحدهما يشرب من الآخر، وتكفل برزقه مدة حياته ودفع عنه مالا يستطيع دفعه عن نفسه منة منه تعالى عليه ولطفا به.
واعلم أن مذهب أهل السنة أن الله تعالى يرزق الحلال والحرام فجميع ما يتغذى به الإنسان من حلال أو حرام فهو رزقه. قال الله ﷿: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) [هود: ٦]
وقد علمت أن جميع المكلفين لا يأكلون الحلال كلهم لأنهم قد يسرقون ويغصبون يتغذون به وقد قال رسول الله ﷺ "وإن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها": وأجمع المسلمون على القول بأن الله تعالى هو الذي يرزق البهائم ما تأكله وليس لها ملك فدل ذلك على أن الغذاء يكون رزقا لمن أكله وإن لم
1 / 7
يملكه. وهذا الذي ذكرنا معناه لابن فورك.
(وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيم):
جعل يعدد نعم الله تعالى على عباده وتنقله من طور إلى طور إلى أن يصير هذا الإنسان يعلم مصالح نفسه فيقصدها ويجتنب مضارها فيباعدها قال الله تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) [النحل: ٧٨]
قال القرافي: وقع في "كان" حديث الفقهاء، هل يجوز إطلاقها على وجوده ﷾ أم لا؟ فمنع قوم كثي لإشعارها بانصرام الشيء وعدمه، والصحيح جوازه لأنها أعم فلا دلالة لها على خصوص الانقطاع فجاز أن تقول كان الله سبحانه ولا شيء معه ولا محظور في ذلك.
(ونبهه بآثار صنعته):
أي أيقظه من نوم الغفلة والجهالة بإيجاد آثار صنعته قال الله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) [الذاريات: ٢١]
وقال تعالى: (ومن ءاياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) [الروم:٢٢]
إلى غير ذلك من الآي فمن وفقه الله ونبهه وأيقظه وتأمل بأدنى فكره مضمون هذه الهيئات وأدار ذهنه على عجائب خلق الأرض والسموات وبدائع فطر الحيوان والنبات علم أن هذا الأمر العجيب والترتيب المحكم الغريب لا يستغنى عن صانع يدبره وفاعل يحكمه ويقدره.
وفي كلام الشيخ حذف لا بد من تقديره كأنه قال ونبهه بآثار صنعته على وجوده ﷾ ووحدانيته وغير ذلك من صفاته.
(وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه):
الإعذار: المبالغة في طلب المعذرة ومنه الإعذار في الحكم، قالوا: أعذر من أنذر أي بالغ في المعذرة من تقدم إليك بالإنذار وقد ورد النص بذلك في مواضع منها قوله تعالى (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) [طه:١٣٤].
(لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) [النساء:١٦٥]
و(أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) [فاطر:٣٧]
إلى غير ذلك من الآي.
والألسنة جمع لسان وهو يذكر ويؤنث من ذكره ذهب به مذهب الدليل والبرهان، ومن أنثه ذهب به مذهب اللغة والحجة.
1 / 8
والمرسلون: جمع مرسل وهو المأمور بتبليغ الوحي، وهو أخص من النبي والمرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر كلهم أعجمي إلا خمسة: محمد، واسماعيل، وصالح، وشعيب، وهو على جميع الصلاة والسلام.
والخيرة بتسكين الياء وفتحها ذكر اللغتين الجوهر وغيره، قبل بالفتح المصدر وبالسكون الاسم وقيل بالعكس ذكره ابن جني.
قال التادلي: ويجوز أن يكونا مصدرين وجاء أحدهما مسكن الياء رغبة في التخفيف وفي هذا تنبيه على أن العقل لا يكتفي به عن بعثة الرسل وأنه لا يحسن ولا يقبح فلا حكم إلا ما جاءت به الرسل ولا حسن ولا قبح إلا ما حسنه الشرع وقبحه، وظاهر كلا المصنف يقتضي تفضيل الأنبياء على الملائكة على جميعهم الصلاة والسلام وهو المختار عند أهل الحق على ما يأتي إن شاء الله تعالى. قال التادلي: وهذا الأخذ يتأتى إذا جعلت "من" في قوله: "من خلقه" لبيان الجنس وإن جعلت للتبعيض فلا.
(فهدى من وفقه بفضله وأضل من خذله بعدله):
الهدى هو البيان والإرشاد ومنه قوله تعالى: (وهديناه النجدين) [البلد:١٠]
وهديناه السبيل أي بينا له طريق الخير والشر وقيل: هي المعرفة فمن سبقت له العناية الأزلية وهي التوفيق اهتدى وسلك طريق الخير ومن لم تسبق له العناية أضله الله وصرفه عن طريق الخير.
فهداية المهتدين وسلوكهم طريق الخير إنما هو بفضل الله ﷿ إذ ليس ذلك عوضا من شيء ولا سابقة استحقاق للعبد ولا يجب ذلك على الله تعالى بل هو فضل محض والإضلال والخذلان منه عدل إذ هو تعالى مالك لجميع الأشياء ولا حجر عليه فيها وذلك نفى الله تعالى الظلم عن نفسه فقال تعالى: (ومارك بظلام للعبيد) [فصلت:٤٦]. قال بعضهم كل وصف صالح وصالح ورد في القران مكررا مرتين أو أكثر إلا التوفيق فإنه لم يرد إلا مرةواحدة في قوله تعالى: (وما توفيقي إلا بالله) [هود:٨٨]. تنبيها على قلة المتصف به قيل له: قد ذكره في مواضع آخر في قوله تعالى: (إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) [النساء:٦٢]
وقوله: (إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) [النساء:٣٥]
قال هذا توفيق دنيوي والذي لم يتكرر التوفيق الأخروي.
1 / 9
(ويسر المؤمنين لليسرى وشر صدورهم للذكرى فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين وبقلوبهم مخلصين)
يسر أي هيأ، ومنه قوله ﷺ "وكل ميسر لما خلق له"
واليسرى قيل المراد بها الجنة أو الخير أو طريقهما لأن طريق الخير عاقبته يسر ويجوز أن يراد بالتيسير تهوين فعل الطاعات بأن يجعلها فيهم محبوبة لهم حتى تكون عليهم أهون الأمور وأيسرها.
ومعنى شرح: فتح ووسع ومنه شرح المسائل إذا بسطها وعبر بالصدور عن القلوب كما يعبر عنها بالأفئدة وهو من التعبير عن الشيء بمحله أو بمجاوره، والذكرى مصدر ويراد به الموعظة فنور قلوبهم، ووسعها حتى قبلوا المواعظ واهتدوا بها، وتعلموا مقتضاها فكان ذلك سببا لإيمانهم بوجود الله تعلى ووحدانيته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، فأمنوا بالله نطقا واعتقادا وعملا بما أتتهم به الرسل امتثالا وتصديقا بقول الله تعالى: (وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر:٧]
ووقفوا عند ما حد لهم.
(أما بعد، أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه وحفظ ما أودعنا من شرائعه):
أي ما بعد ما سبق قيل إن رسول الله صلى الله ﵇ كان يقولها في خطبه. قال جماعة: هي فصل الخطاب الذي أوتيه داود ﵇، وقيل: هو أول من قالها. وقيل: أول من قالها قس بن ساعدة، وقيل: كعب بن لؤي وتسمى كلمة إقبال وفصل وتفصيل وفيهما معنى الشرط، والتحقيق أن الفصل والشرط إنما هو في إما خاصة دون بعد فقيل إن أما
1 / 10
حرف تفصيل نابت عن حرف الشرط وفعله.
وبعد بضم الدال وأجاز الفراء أما بعد بالنصب والتنوين وأجازه هشام بفتح الدال دون تنوين، وأنكره النحاس وفي علة ضم يعد للنحويين بضعة عشر قولا وهي كلمة توضع في صدور الرسائل عند إرادة المقصد قال ثعلب: معناها خروج عما نحن فيه إلى غيره وفيها معنى التنبيه. وقول الشيخ، وإياك: خطاب للمؤدب العابد محرز وإن كان دخل معه في الضمير في أعاننا ولكن أراد أن يفرده بالذكر لأنه الذي سأله تأليف الرسالة وهكذا قال غير واحد من التونسيين وغيرهم كابن سلامة وناصر الدين.
وقال أبو زيد عبدالرحمن بن الدباغ القروي صاحب معالم الإيمان الذي سأله تأليفها هو الشيخ الصالح أبو إسحاق إبراهيم السبائي وهو ضعيف ولا يقال إنهما معا سألاه وأسعهما جميعا لأن إفراد الضمير يأباه، وأيضا فإنه قوله: كما تعلمهم حروف القرآن يدل على أنه المؤدب محرز لأني لا أعلم أحدا ممن تعرض لمناقب أبي إسحاق ذكر أنه كان مؤدبا وقدم الشيخ نفسه في الدعاء تأديبا بآداب الشريعة بالكتاب والسنة، أما بالكتاب فقوله تعالى: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد:١٩]
(رب اغفر لي ولوالدي) [نوح:٢٨]
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) [الحشر:١٠]
، وأما بالسنة فروى أو داود في سننه أنه ﷺ كان إذا دعا بدأ بنفسه وقال ﷺ "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" فإذا طلب تقديم النفس في الدنيا فطلبه في أمور الآخرة أولى وقال الشيخ ناصر الدين خلاف ذلك قال: فإن قلت لم قدم نفسه في الدعاء وكان الأولى تقديم غيره فيقول أعانك الله وإياي، إذ هو أتم في الإيثار.
فالجواب لا نسلم أنه قدم نفسه فقط لجواز أن يكون الضمير في أعاننا أراد به نفسه والسائل، فإن قلت: لا فائدة إذن في قوله وإياك قلت فائدته تحقيق الغير في الدخول. والرعاية والحفظ والكلأ والمراقبة، كلها بمعنى واحد وهو القيام بالشيء والاحتفال به.
والودائع: الأمانات وقيل العبادات كالوضوء والصلاة وقيل الجوارح وقيل لا يمتنع أن تكون الودائع مجموعة ما تقدم لأن الإنسان راع على جوارحه وعبادته وجميع
1 / 11
تصرفاته. وقد قال ﵇ "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" والشرائع جمع شريعة وهي أحكام الله تعالى التي تتلقى من رسله وحفظ الشرائع الإتيان بها من جميع جهاتها من فرض وسنة وفضيلة.
(فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانات):
السؤال والالتماس يكون من المتماثلين والدعاء من الأدنى إلى الأعلى والأمر عكسه هكذا قال بعض من شرحها وليس كذلك قال في الجمل: واللفظ المركب إن دل بالقصد الأول على طلب الفعل كان مع الاستعلاء أمرا ومع الخضوع سؤالا ومع التساوي التماسا والجملة من أجملت الشيء إذا لم تفصله ومنه أجملت الحساب إذا جمعت بعضه إلى بعض والاختصار والتعبير باللفظ القليل عن المعنى الكثير.
والأمور جمع أمر، والأمر تارة يراد به الفعل والشأن وتارة يراد به القول الطالب للفعل على سبيل الاستعلاء فالذي بمعنى القول يجمع على أوامر، والذي بمعنى الفعل، والشأن يجمع على أمور فلذلك أضاف الواجب إلى الأمور لأن الأحكام الشرعية هي المتعلقة بأفعال العباد وأفعال العباد لا تخرج من نطق اللسان واعتقاد القلب وعمل الجوارح، والألسنة: جمع لسان يذكر ويؤنث ويقع على العضو المعروف.
ويقع على اللفظ والكلام فمن ذكره ذهب به مذهب الدليل ومن أنثه ذهب به مذهب الحجة. والقلوب: جمع قلب والجوارح الكواسب وهي أعضاء الإنسان التي يكتسب بها الخير والشر.
(وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن ومن مؤكدها ونوافلها ورغائبها وشيء من الآداب منها):
اعلم أن كل مطلوب بالشرع ليس بواجب يصح أن يطلق عليه مندوب ومسنون ومرغب فيه وفضيلة ونافلة إلا أن الفقهاء لا سيما المالكية خصوصا خصوا كل لفظ بمعنى يخصه فقالوا الفرق بين السنة والفضيلة والنافلة: أن السنة ما فعله النبي ﷺ وداوم عليه وأظهره في الجماعة ولم يدل على وجوبه كالوتر، والفضيلة والمرغب فيه ما كان دون السنة في الرتبة إما لأن النبي ﷺ لم يفعله في الجماعة كركعتي الفجر أو لم يداوم عليه كصلاة الضحى.
1 / 12
والنوافل: هي أتباع الفرائض ونحو ذلك، وقول الشيخ من مؤكدها بدل من السنن، والآداب: جمع أدب وهو فعل ما يحسن بينه وبين ربه وقصد بذلك ما ذكره في الجامع من آداب الأكل والشرب إلى غير ذلك.
(وجمل من أصول الفقه إلى آخره): يصح في جمل النصب عطفا على جملة مختصرة عطفا على السنن، وأصول الفقه أراد به أمهات المسائل ويدل على أن هذا مراده.
(وفنونه):
أي ما يتفرع منه وما يتقنن، والفنون جمع فن وهو الفرع قال بعضهم ويحتمل أن يريد بأصول الفقه أدلته على ما هو المصطلح عليه عند بعض المتقدمين وقد ذكر شيئا من ذلك في باب جمل من الفرائض والسنن واستعمل فيه طريق القياس على المتعارف عند الأصوليين ومن جملةذلك إن قال الخمر حرام، وقال ﵇ "كل ما اسكر كثيره من الأشربة فقليله حرام" فكل ما خامر العقل فأسكره من كل شراب فهو خمر وهو حرام وهذا استعمال للمقدمات والنتائج والله أعلم.
فإن قيل لم طلب السائل أن يكون على مذهب مالك وهو ميت مع تمكنه من تقليد إمام حي وهو مؤلفه ابن أبي زيد وقد أجمع أهل الأصول على منع تقليد الميت كما حكاه القرافي في شرح المحصول قال نص ابن أبي الملحمة في شرح الرسالة على أنه لا يجوز تقليد العالم مع وجود الأعلم وإن كان ميتا لأن يموته أمن من رجوعه عن قوله بخلاف الحي.
قال التادلي: وبصائر أهل الأبصار والأمصار اليوم على ذلك من غير تنازع ولو سد هذا الباب لقلد من لا يستحق التقليد لا سيما وقد فسدت العقول وتبدلت وكثرت البدع وانتشرت، فكان الرجوع والفزع إلى سلفنا الصالح المسلمين وأئمة الدين هو الواجب على المقلدين بل على أكثر المجتهدين واختار الشيخ مذهب مالك لأنه إمام دار هجرة رسول الله ﷺ وهو المعني في قول أكثرهم يقول رسول الله ﷺ: "ويوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة" وقيل إنما اختاره لأنه جمع بين الشرفين الحديث والفقه وغيره من أئمة الدين
1 / 13
إما فقيه صرف كالشافعي وأبي حنيفة ليس لهما ذكر في الصحيحين وإما محدث صرف كأحمد وداود.
وقيل لأن أئتمته أخذوا عه بعد أخذه عنهم إلا القليل كابن شهاب فقيل أنه لم يأخذ عنه، وقيل لشدة اتباعه السف. وقد قال ليس لأحد رأي مع السنة وما استمر عليه عمل أئمة الهدى وقد أجمع أهل الفضل على فضل مالك رحمه الله تعالى، ولم يزل أئمة الدين المقتدى بهم المعول في التحقيق عليهم يختارون مذهبه ويرجحونه على غيره من المذاهب كله والحمد لله على تمهيده.
وذكر أبو محمد عبد الله بن سلامة أن القاضي أبا بكر لسان الأمة وسيد أهل السنة ﵁ كان في مجلس إقرائه وبين يديه جمع وافر وكان يقرئ المذاهب الأربعة ويرجحها ثم يأخذ في الترجيح والاحتجاج لمذهب الإمام مالك ﵀ فقال بعض أهل المجلس: ما وجهتموه رضي الله عنكم ليس بواضح، هذه حجة ضعيفة قال: فاصفر لونه وتغير وجهه وأطرق مليا ثم قال: يا هذا أتقول في إمام دار هجرة رسول الله ﷺ حجة ضعيفة وأين الأدب مع العلم وأهله اخرج من مجلسي واحذر أن تقع عيني عليك بعد هذا اليوم. فلم يقدر أن يسكن معه العراق وانتقل إلى القيروان واستوطنها ودرس فيها مذهب مالك وألف كتابا في مناقب الشيخ أبي بكر وصدره بمسألته هذه فجزاه الله خيرا عن تخلقه وتواضعه.
والمذهب والطريقة قيل هما بمنعى واحد وإنهما لفظان مترادفان وقيل مذهبه ما يفتي به وطريقته ما يفعله في خاصة نفسه فقد يحمل على نفسه أشياء لا يفتي بها غيره، وقيل مذهبه ما قاله وثبت عليه وطريقته ما قال ورجع عنه، والصواب أنه أراد بالمذهب قول مالك والطريقة قول أصحابه إذ طريقة أصحابه طريقته ولذلك تجد الشيخ كثيرا ما يذكر قول بعض أهل المذهب ويترك قول مالك وإلى هذا كان يذهب شيخنا أبو محمد عبد الله ابن الشيخ أبي محمد عبد الله الشبيبي وكان من عادته التكلم بالوعظ في أول ميعاده لكثرة من يحضر عنده من العوام، فتارة يعظ في تفسير كتاب الله ﷿ وهو الأعم والأغلب منحاله وتارة يعظ في تفسيره لمسلم وتارة فيهما وفي قراء العقيدة فقرئ عليه هذا المحل سنة فذكر ما قلناه. وقال: سأعرف بمالك وأصحابه فكان كل يوم يذكر رجلا ورجلين ويعظ على نحو ما يذكر من الحكايات المنقولة في الذي يعرف به إلى أن وصل إلى الشيخ أبي يوسف الدهماني وهو آخر من ذكر الشيخ
1 / 14
صاحب معالم الإيمان نفعنا الله بجميعهم.
وكان الشيخ المذكور يقرئ العلم من طلوع الشمس أو قرب طلوعها إلى أن تحضر صلاة الظهر وكان فصيحا متواضعا لا يعنف على من يستشكل أو يسأل فيخرج لينال شيئا من الطعام ويتوضأ بعد ويصلي الظهر قريبا من العصر ثم يصلي العصر ويجلس ليجود عليه من حينئذ إلى أن تصلي العشاء الآخرة وربما يقرأ عليه بعد ذلك وظهرت له كرامات متعددة والغالب أن من قرأ عليه انتفع من حسن نيته وكثرة بيانه. نسأل الله أن ييسر علي بتأليف كتاب أذكر فيه أيضا فضل الشيخ وما كان عليه.
(مع ما سهل سبيل ما أشكل من ذلك إلى آخره):
سهل بمعنى يسر وهون والرسوخ لغة الثبوت فيريد الثابتين في العلم والمتفقهون الفقهاء وأراد بذلك أصحاب مالك كابن القاسم وأشهب وابن وهب وغيرهم ويقال فقه بكسر القاف إذا فهم وفقه بفتحها إذا سبق غيره للفهم وفقه بضمها إذا صار له الفقه سجية ذكره ابن عطية وغيره. قال صاحب البيان: التفقه في القرآن معرفة أحكامه وحدوده ومفصله ومجمله وعامه وخاصه وناسخه ومنسخوه وذلك أكد من حفظ شواذ حروفه، فإن لم يتفقه فيه ولا عرف شيئا من معانيه فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا.
(لما رغبت إلى آخره):
هذا بيان للسبب الموجب لسؤال السائل تأليف هذه الرسالة وهي الرغبة في تعليمه للولدان أو يكون بيانا لسبب سؤاله أن تكون جملة مختصرة لأنها أقرب للحفظ وأسهل للضبط. والبركة: الخير وزيادته.
(فأجبتك إلى ذلك إلى آخره):
المراد بهذه الجملة ترجي حصول الثواب لهما، هذا بدعائه، وهذا بتعليمه قيل ويحتمل أن تكون "أو" بمعنى الواو إذ كل واحد منهما في الحقيقة داع ومعلم فالشيخ أبو محمد داع بتأليفه مع جهة المعنى ومعلم به، والشيخ أبو محفوظ محرز داع إلى التأليف ومعلم به ولم يقطع بحصول الثواب لأن القبول مغيب وهو متوقف على العاقبة والله أعلم.
(واعلم أن خير القلوب إلى آخره): يعني أن القلوب متفاضلة فأفضلها أكثرها وعيا للخير وأقربها من هذه الحالة قلب
1 / 15
لم يسبق الشر إليه إذ لا مانع فيه وقلوب الصبيان بهذه المثابة.
(وأولى ما عني الناصحون به إلى آخره):
الناصحون المرشدون للخير المحذرون من الشر. والرسوخ الثبوت. والتنبيه هنا الإيقاظ من سنة الغفلة والجهالة والمعالم المراد بها قواعد الدين. وخرج مسلم أن النبي ﷺ قال: "الدين النصيحة" قالها ثلاثا قيل لمن يا رسول الله قال: "لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" فهذا من النصح لعامة المسلمين.
(وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم إلى آخره):
قيل يحتمل أن تكون ما استفهامية التقدير أي شيء عليهم في ذلك أي: أي مشقة تلحقهم فيه مع كبير فائدته وهو الرسوخ في القلب والرياضة والتأنيس وحصول شرف الدنيا وعز الآخرة فتحصل لهم المنفعة بهذه الجملة والسيادة بعلمها، ألا ترى أن النبي ﷺ قال: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب" ومنهم من حمل قوله وما عليهم على النفي للوجوب وضعف لأن اللفظ لا يساعده.
ومعنى قول الشيخ يطفيئ غضب الله أي النار التي أعد الله لمن خالف أمره ونهيه والمراد إطفاء الغضب عن آبائهم ومن تسبب في تعليمهم أو معلميهم أو عنهم فيما يستقبل من الزمان، وقد ورد: لولا صبيان رضع وشيوخ ركع وبهئائم رتع لصب عليكم العذاب صبا.
(وقد مثلت لك إلى آخره):
الانتفاع بالرسالة ظاهر لا ينكر وقيل فيها أربعة آلاف مسألة والنفع يقع بكل مسألة منها فضلا عن الكل وكل مسألة بحديث فقيها أربعة آلاف حديث وأسندها الأبهري في كتاب سماه مسالك الجلالة في إسناد أحاديث الرسالة.
(وقد جاء إلى آخره):
روى هذا الحديث جماعة منهم ابن وهب في المدونة. ورواه ابن أبي شبية في مصنفه ورواه ميسرة بن معبد الجهني عن النبي ﷺ وليس في حديث ميسرة التفريق في المضاجع والعجب أنهم اختلفوا مع ذلك في الوقت الذي يؤمر فيه الصبي بالصلاة،
1 / 16
فقال يحيى بن عمر يؤمر بها إذا عرف يمينه من شماله فقيل بظاهره وقيل إذا ميز الحسنات من السيئات لأن كاتب الحسنات عن يمينه وكاتب السيئات عن شماله وكلا التأويلين نقلهما التادلي.
وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون يؤمر بها إذا أطاقها وإن لم يحتمل. وما روي عن مالك في المجموعة يؤمر بها إذا بلغ الحلم فمحمول على أمر المكلفين. وروى ابن وهب عن مالك في العتبية يضربون عليها لسبع، واختلف في الزمان الذي يفرق بينهم في المضاجع عنده، فقال ابن القاسم: إذا بلغ سبع سنين.
وقال ابن وهب إذا بلغ عشر سنين ولا يؤمر المطيق للصوم به على المشهور وفرق بينهما بثلاثة فروق أذكرها إن شاء الله تعالى في الصوم. قال ابن رشد للصبي حال لا يفهم فيها ولا يعقل، فحاله فيها كالبهيمة فعله جبار، وحال يعقل فيها ينبه فيها الصبيان على الصلاة والزكاة. ثم اختلف في أجر الصبي لمن يكون فقيل للأب وقيل للأم وقيل بينهما قال بعضهم: ولا يمتنع أن يكون للصبي أجر أيضا، وقد قال النبي ﷺ لما سئل عن الصبي ألهذا حج قال: "نعم ولك أجر".
(فكذلك ينبغي إلى آخره):
العباد جمع عبد وهو يجمع على عباد وعبيد وأعبد القول ما يتلفظ به والعمل ما يتعلق بالجوارح والقلوب وهو يتناول القول بخلاف الفعل فإنه لا يتناوله هكذا أدركت بعض من لقيته يقرره فيكون على هذا عطف الشيخ العمل على القول من باب عطف العام على الخاص، والدليل على ذلك قول النبي ﷺ "وإنما الأعمال بالنيات" فهو يتناول القول بلا شك وحمل بعض الشيوخ كلام المؤلف على أن القول مغاير للعمل لأن الأصل في العطف المغايرة قال: ويقوي ذلك ما روي عن النبي ﷺ أنه قال "اللهم أني أعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل" وقد قال بعض الناس في قول النحاة فعل ولم يقولوا علم لأن الفعل يعم القول والعمل.
والبلوغ يكون بالاحتلام اتفاقا، ويكون بالسن واختلف في مقداره على أربعة أقوال: فقيل: خمس عشرة سنة، قاله ابن وهب، وقيل سبع عشرة سنة وقليل ثمان عشرة
1 / 17
سنة وكلاهما لابن القاسم والآخر منهما هو المشهور قاله المازري، وقيل ستة عشر سنة ذكره ابن رشد مع الثلاثة الأول في كتاب المأذون له من المقدمات ولم يعزها. وما ذكرناه هو الذي أعرف في المذهب، وذكر التادلي عن أبي محمد صالح قولا خامسا تسع عشرة سنة ولا أعرفه، واختلف في الإنبات فقيل علامة للبلوغ وقيل لا وكلاهما في المدونة في كتاب السرقة والأول لمالك والثاني لابن القاسم.
قال ابن رشد وهذا فيما يلزمه في ظاهر الحكم من طلاق وحد وفيما بينه وبين الله لا يلزمه وقول الفاكهاني ثالثها يعتبر في الجهاد خاصة لا أعرفه، وهذه العلامات يشترك فيها الذكر والأنثى وتزيد الأنثى بالحيض والحمل وظاهر كلام أهل المذهب أن تغير رائحة الجناحين ليس بعلامة وفي الذخيرة أنه معتبر.
(وسأفصل لك إلى آخره) انتصب بابا على الحال وإن لم يكن مشتقا لكنه بمعنى المشتق إذ هو في معنى مفصل فهو مشتق من التفصيل وفعل ذلك لأنه أعون على الحفظ وأقرب إلى الفهم. ونستخير أي نطلب منك الخيرة وكذلك ينبغي لكل عازم على أمر أن يستخير الله ﷿ في الاقدام عليه فإن في الاستخارة تسليما لأمر الله تعالى. ونستعين أي نطلب منك الإعانة.
وعن ابن مسعود ﵁: سمعني رسول الله ﷺ وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقال: "أخبرك بتفسيرها" فقلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله فقال: "لا حول عن معصية الله إلا بمعصية الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله" وفي رواية أنه قال كذا أخبرني جبريل عن الله ﷿. وعن النبي ﷺ أنه قال: "أكثروا منقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإنه يدفع تسعة وتسعين داء أدناها اللمم".
قال الفاكهاني: اللمم لفظ مشترك والظاهر اللائق بالحديث إن شاء الله تعالى أنه الطرق من الجنون يقال رجل ملموم أي به لمم لأنه من جملة الأدواء وعن مكحول ﵁ من قالها كشف الله عنه سبعين بابا من الشر أدناها الفقر. وأجاز النحويون في لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نصبها من غير تنوين ورفعها مع
1 / 18
التنوين ونصب الأول من غيرتنوين. ورفع الثاني معه والعكس.
وقول الشيخ وصلى الله على سيدنا محمد الصلاة من الله ﷿ رحمة ومن الملائكة استغفار ومن الآدميين تضرع ودعاء والإجماع أن الصلاة عليه واجبة على الجملة. واختلف في الصلاة على غيره ﷺ فقال عياض في الشفاء وجدت بخط بعض شيوخ مذهب مالك أنه لا يجوز أن يصلى على أحد من الأنبياء سوى محمد ﷺ وهذا غير معروف من مذهبه. وقد قال في المبسوط ليحي بن اسحاق أكره الصلاة على غير الأنبياء وما ينبغي لنا أن نتعدى غير ما أمر به.
وقال يحيى بن يحيى لست آخذا بقوله ولا بأس بالصلاة عل الأنبياء كلهم وعلى غيرهم واحتج بحديث ابن عمرو وما جاء من تعليم النبي ﷺ عليه وفيه وعلى أزواجه وعلى آله. ووجدت معلقا عن أبي عمران الفاسي روي عن ابن عباس كراهة الصلاة على غير النبي ﷺ قال وبه نقول قال ولم يكن يستعمل فيما مضى وسمي نبينا بمحمد ﷺ لكثرة خصاله المحمودة وجمهور العلماء على جواز إضافة أل إلى المضمر كما فعله الشيخ في قوله وآله وأنكره الكسائي والنحاس والزبيدي وقالوا لا تصح إضافته إلى المضمر وإنما يضاف إلى الظاهر فيقال على آل محمد، وفي حقيقة الآل مذاهب فقال الشافعي: بنو هاشم وبنو المطلب وقيل: عشيرته وأهل بيته وقيل: جميع الأمة واختاره الأزهري وغيره من المحققين والسلام التحية.
باب ما تنطق به الألسنة إلى آخره
الباب هو الطريق للشيء الموصل إليه وهو حقيقة في الأجسام كباب المسجد مجاز في المعاني كباب ما تنطق به الألسنة وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا باب بيان ما تنطق به الألسنة وما في قوله ماتنطق بمعنى الذي ومن من قوله من واجب أمور الديانات للتبعيض لأن واجب أمورالديانات أعم من أن يكون نطقا أو اعتقادا ويجوز أن تكون لبيان الجنس فيكون مراده ما يجب اعتقادا ونطقا ومتعلقا بهما.
(من ذلك الإيمان إلى آخره):
الإيمان في اللغة هو التصديق مطلقا سواء كان بالقلب أو باللسان أو بهما. وفي الشرع هو التصديق بالقلب بوجود الحق ﷾ وصفات كماله وجلاله وصحة الرسالة وما جاءت به الرسل من عنده مع الجزم بذلك كله. وهل يشترط الإقرار باللسان به أم لا، فقيل يشترط وهو مذهب الجمهور، فمن آمن بقلبه، ولم ينطق بلسانه
1 / 19
ومات فإنه كافر وقيل ليس بشرط قاله القاضي أبو بكر الباقلاني.
وبه قال ابن رشد وهو ظاهر المدونة، لو أجمع على الإسلام بقلبه فاغتسل له أجزأه وإن لم ينو الجنابة لأنه نوى الظهر ولما كان ظاهرها كما قلنا مخالفا للجمهور نسبه ابن الحاجب للمدونة فقال: وفيه لو أجمع على الإسلام واغتسل له أجزأه وإن لم ينو الجنابة لأنه نوى الطهر وأردفها بقوله وهو مشكل. وقال بعض شيوخنا لعله يجمع بين القولين فيحمل الأول على غير العازم على النطق والثاني على العازم أو يحمل الأول على الآبي والثاني على غير الآبي.
واختلف هل يكفي إيمان المقلد أم لا فجمهورهم على أنه كا غير أنه عاص بإهمال النظر المؤدي إلى العلم بالله وما يجب له، وقيده الغزالي يقيد أن يكون لذلك أهلا. قيل لا يكفي قاله القاضي أبو بكر وغيره. ومذهب أهل السنة أنه لا يشترط العمل بالجوارح خلافا للمعتزلة، والواحدة قال أبو المعالي: معناه المتوحد المتعالي عن الانقسام، وقيل معناه الذي لا مثل له. وقال القشيري الواحد: الذي لا قسيم له ولا يستثنى منه.
قال الشافعي وغيره: واسم الجلالة ليس بمشتق. وقال غير واحد بل هو مشتق فإن قلت من جعل اسم الله مشتقا غير مرتجل يلزمه كون القديم مسبوقا بغيره ضرورة لأن المشتق منه سابق على المشتق فالجواب أن المشتق اللفظ لا مدلوله، أو نقول ليس المراد هنا الاشتقاق الذي هو إنشاء فرع عن أصل بل مجاوز وهو تقارب الألفاظ والمعاني صح من تعليق البسيلي ﵀.
وقال صاحب الأسرار: والصحيح أنه كان مشتقا ثم صار علما جمعا بين القولين واختلف في اشتقاقه فقيل من لاه إذا علا يقال لاهت الشمس إذا علت إلى غير ذلك من الأقوال. وقول الشيخ لا إله غيره تأكيد ومبالغة في ثبوت الوحدانية ونفي إله آخر لأن صيغة النفي والإثبات أبلغفي نفي الكمية المتصلة والمنفصلة.
وقد اختلف العلماء هل الأفضل للمكلف عند التلفظ بلا إله إلا الله مد الألف من لا النافية أو القصر فمنهم من اختار القصر لئلا تخترمه المنية قبل التلفظ بذكر الله تعالى ومنهم من اختار المد لما فيه من الاستغراق في نفي الألوهية، وفرق الفخر الرازي بين أن يكون أول كلمة فتقصر أو لا فتمد.
1 / 20
(ولا شبيه له إلى آخره):
أي لا شبيه له في ذاته ولا نظير له في صفاته، هكذا فسره بعض الشيوخ وتردد بعضهم في ذلك هل الأمر كما تقدم أو هما لفظان مترادفان، والولد لغة يقع على الذكر والأنثى والوالد يقع على الأب الأدنى والأعلى وهو الجد لكنه حقيقة في الأدنى مجاز في الأعلى.
(ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء):
قال الفاكهاني: يريد أن الله تعالى يجب أن يكون قديما باقيا ويستحيل عدم ذلك عليه ﷾ ولا تناقض في كلام المؤلف كما توهمه بعض الناس حيث قال أضاف الأولية والآخرية ثم نفاهما عنه كأنه قال له أولوية لا أولوية له، له آخرية لا آخرية له وليس كما توهم لما قيل إن الأول هو السابق للأشياء والآخر هو الباقي بعد فناء الخلق وليس معنى الآخر ما له انتهاء قاله الخطابي. واعلم أن كل ما له أول له آخر إلا الجنة والنار وينبغي أن يزاد على ذلك أهلهما والله أعلم.
(لا يبلغ كنه صفته الواصفون)
قصد الشيخ بقوله ليس لأوليته ابتداء وبقوله هنا لا يبلغ كنه إلخ إلى تفسير قوله تعالى (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) [الحديد:٣]
فمعنى قوله الظاهر بآياته الباطن عن أن تكيفه العقول والأوهام فلا يبلغ كنهه أي حقيقة صفته وصف واصف لأن كنه عظمه الله لا ينتهي إليها. قال بعض الشيوخ ويفهم من كلام المصنف أن مذهبه نفى العلم بالحقيقة واختاره جماعة من المتقدمين، وأطلق الشيخ أبو القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه القول بأنه لا يعرف الله إلا الله، واختاره أكثر المتأخرين وهو مذهب الأستاذ الضرير رحمه الله تعالى وكان من المحققين وأنكر الأستاذ أبو بكر هذا القول ورده وتبعه عليه الإمام أبو المعالي مع طائفة.
وقال الباري تعلى يعلم والعلم يتعلق بالمعلوم على ما هو به فلو تعلق العلم به على خلاف ما هو به لكان العلم جهلا، وقد اجتمعت الأمة على وجوب معرفة الله تعالى، ولو كانت مستحيلة لما اجتمعت عليه الأمة وقد قال ﷺ "ومن عرف نفسه فقد عرف ربه" أي من عرف نفسه بالافتقار والذل والصغار ونفى عنها العز الاقتدار
1 / 21
عرف ربه موصوفا بالكمال منفردا بالعز والجلال منزها عن لحوق التغير والزوال متعاليا عن الأين والكيف والمثال. قال بعضهم: وخلاف الأئمة عندي في هذه المسألة خلاف في حال، فمن نفى العلم بالحقيقة فإنه مقر بأن الله تعلى لا يحاط بهوبأن جلالته وعظمته وكبرياءه لا يلحقها وهم ولا يقدرها فهم، وأن العقول قاصرة عاجزة عن إدراك ذلك الجلال ومن أثبت العلم بالحقيقة فإنه مقر بأنه تعالى عرفه العارفون بدلالة الآيات وتحققوا اتصافه تعلى بواجب الصفات وتيقنوا تنزيهه عن التشبيه بالمحدثات تقديسه عن الحدود والكيفيات وعلموا بأنه المستبد بابداع الكائنات فهو تعالى الملك المطاع الذي عزه لا يرام وسلطانه لا يضام.
(ولا يحيط بأمره المتفكرون):
يقال حاط وأحاط بمعنيين فمعنى حاطه كلأه ورعاه وأحاط به علما وهو من الواوي لظهورها في المضارع الثلاثي نحو يحوط وتنقلب ياء في المضارع الرباعي والتفكر التأمل.
(يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في مائية ذاته):
آيات الله تعالى عقلية وشرعية، فالعقلية أدلة مخلوقاته وعجائب مصنوعاته.
وفي كل شيء له أية = تدل على أنه واحد
والشرعية آيات كتابه وأدل خطابه وجملة أسراره ومعانيه، والماهية والمائية بمعنى الحقيقة وقد أخذ على الشيخ في إطلاق لفظ المائية على الباري ﷾. قال ابن رشد رد على الشيخ في قوله مائية ذات والصحيح أنه لا مائية لذاته فيقع التفكر. قال عبدالوهاب والمائية لا تكون إلا لذي الجنس والنوع وما له مثالا إلا أن يريد بالمائية ضربا في المجاز والاتساع.
وقوله: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء" [البقرة:٢٥٥]
: أي بشيء من معلوماته، دل على صحة ذلك الاستثناء والبعضية وإطلاق العلم على المعلوم كثير، وقد ورد عن الصحابة ﵃ اللهم اغفر لنا علمك فينا. وفي قضية الخضر على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلخ يريد من معلوم الله تعالى وهذا لا خفاء به. قيل المعلومات كلها خمسة أقسام: قسم لا يعلمه أحد سواه كعلمه بذاته وصفاته وقسم علمه اللوح والقلم وهو معرفة ما جرى به القلم في اللوح وقسم علمه الملائكة وقسم علمه الأنبياء والخامس علمه الأولياء
1 / 22