ومع مستهل حضارة عصر الصناعة، وفي ضوء التطور العلمي والصراع ضد جمود التقليد تأكد مفهوم «الهومو سابينس» أو الإنسان العاقل. وجاء هذا الفهم دعما لاستقلال الفرد وحقه في التفكير المستقل، ومسئوليته عن الفعل. ويمثل هذا التيار عدد من المفكرين من بينهم الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت» ومقولته الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود»؛ بمعنى أن الفكر هو جوهر الوجود الإنساني وعلته. وسادت ثنائية الذات الفاعلة المستقلة بنفسها والموضوع (الطبيعة) التي هي وجود منفصل وساحة التطبيق أو الفعل في سلبية؛ أي إن الطبيعة هي المادة الخام الخاملة.
ومع تطور العلوم في جميع مجالاتها الطبيعية والإنسانية بدا واضحا أن هذه الثنائية غير صحيحة؛ إذ لا وجود لذات مستقلة ولا موضوع منفصل مثلما لا توجد طبيعة دون وجود «الذات»، وأن الوجود فعل وفكر متكاملين.
وتقول في هذا الباحثة بجامعة مانشستر «كيكوك لي»: لكي نفهم نوع الكائن المسمى هومو سابينس «الإنسان العاقل» لا يكفي أن نقنع بتصور النوع كما تصوره ديكارت بأنه في جوهره كائن مفكر يستخدم الرمز-اللغة. ذلك أن مثل هذا الفهم يحكي لنا فقط نصف القصة؛ إذ إنه يغفل قسمتين أخريين بالغتي الأهمية: إنه كائن يسير على قدمين وقد تحررت يداه، وتطور الإبهامان، وتهيأت اليدان لوظائف جديدة متطورة من خلال الفعل، وفي تفاعل مطرد مع قشرة المخ. وبدأت اليدان والمخ من خلال تفاعلها مع الطبيعة في تحويل الأشياء إلى أدوات أو أهداف ومشغولات فنية، وهذا نشاط ليس فرديا، بل نشاط مجتمعي لأهداف مجتمعية ويحقق هدفين: إشباع الحاجات اللازمة للبقاء، وتحقيق الذات والحرية معا.
وهنا نجد أن التعريف الصحيح للإنسان ليس فقط أنه كائن مفكر، بل وبالأولى «كائن صانع» «هومو فابر
Homo Fabr ». وهذا جوهر حقيقي. وإن الفعل الإنتاجي أداة لتحقيق الذات ودعم حرية الذات على نحو ما كان حال الإنسان منذ المهد في إنتاج الأدوات والمشغولات الفنية. وهكذا تجاوزت «كيكوك لي» موقف الكوجيتو الديكارتي. وجوهر الهومو فابر هو التحكم في الطبيعة ومعالجتها وفاء لغايات بشرية. وهنا القصدية في الأدوات تعني الفعل والفكر معا، وقد تطور معناها مع التاريخ إلى ما نسميه التكنولوجيا التي هي حصاد الفعل والفكر مجسدين في واحد لضمان بقاء الإنسان وحريته وتحقيق ذاته وهي غايات متطورة أيضا.
وتأكدت أهمية هذا المعنى مع تقدم العلوم. وأصبح من حقنا القول إن الإنسان الصانع أو الهومو فابر هو جوهر الحداثة في عصرنا الراهن بفضل طاقاته المجتمعية النشطة في مجال العلم والتكنولوجيا. وهذا التكامل بين الفعل والفكر يجري تاريخيا عبر قشرة المخ في صورة تغذية وتغذية مرتدة متبادلة في تطور مشترك، ولعل هذا التكامل بين الفعل والفكر هو ما جعل مفكرا مثل «سورين ريس» يقول: «التفكير في حقيقته حرفة تقنية، وأن هذا البعد التقني هو ما يجعل بالإمكان إبداع أعمال فكرية عظيمة.»
لذلك فإن المجتمع من حيث هو جماع طاقة بشرية موحدة مدعومة بالعلم والتكنولوجيا، يمثل رصيدا نشطا من الفعل والفكر معا. ومع استمرار النشاط الموحد تطرد مسيرة الحياة المتقدمة. وإذا غاب الفعل جمد الفكر. وجوهر الفعل المجتمعي المجسد في التكنولوجيا هو الحفز المتجدد للفكر من خلال مشكلات التعامل مع الطبيعة؛ أي إن الفعل يحفز البشر إلى التفكير المتجدد في العالم؛ ومن ثم نطور الفكر المجتمعي ونجدد قضايا الحياة، ولهذا فإن من لا ينتج تكنولوجيا مدعومة بالبحث العلمي؛ أي الجمع بين الفعل والفكر معا إبداعا ذاتيا ينصرف فكره إلى ما هو مجرد فقط، ويغيب عنه العالم بقوانين حركته وصيرورته. وقد يمتلك المجتمع الآلة - التكنولوجيا - ولكن يراها مجرد أداة، ويغفل عن حقيقتها أنها دمج أو نتاج تكامل بين الفعل المجتمعي والفكر المستقلين.
لذلك فإن القناعة بمجرد حيازة التكنولوجيا في العالم الثالث تمثل عبئا لا ميزة؛ وتعني تبعية وعبودية للتكنولوجيا ولمبدعيها وأخلاقياتهم. إنهم يملكونها أداة لخدمة دون إدراك لدورها كتجسيد لفكر وإبداع مجتمع آخر يمثل القوة .. قوة الإنسان الصانع «الهومو فابر» وصورة العالم لديه.
وحيازة التكنولوجيا دون العلم إبداعا ذاتيا يعني فقدان السيادة عليها؛ ويعني في التحليل النهائي غياب الواقع وقوانين صيرورته والعيش معه كوجود خامل موجود لخدمتنا باعتبارنا مركز الكون .. وليس غريبا أن من يكف عن الفعل يهيم مع عالم المجردات .. يعيش مع عمل فارغ من الفكر دون العالم بما فيه من قوانين ودون فعل التحكم فيه .. عالم سكوني، وفكر سكوني يتجاوزهما الواقع النشط .. وثقافة سكونية تمجد الماضي وأقصى طموحاتها عود على بدء.
والإيمان العملي بالفعل المجتمعي قرين الفكر في تفاعل مطرد يعني انفتاح باب الأمل والفرص في التغيير والحرية؛ وفي القدرة على التطوير وحل المشكلات على أساس من حصاد فكري متراكم ومتطور هو متاع العقل المجتمعي وحامل خصوصيته، والذي تتجلى فيه هوية المجتمع باعتبارها تجسيد الفعل المتطور. ولذا فهي هوية متطورة تتزايد ثراء وليست شيئا انتقائيا مرحليا خارج الزمان والمكان، ولا هي من نسيج خيال في غيابات التاريخ. وغياب الفعل المجتمعي استسلام للقدرية وجوهرها غياب الإرادة والمسئولية.
صفحة غير معروفة