السياق المحلي
بات توني بلير زعيما لحزب العمال وأنطوني جيدنز هو المفكر والمنظر الاجتماعي والسياسي للحزب نفسه . والمعروف أن هذا الحزب من سلالة الاشتراكية الديمقراطية التي بدأت جذورها كطريق وسط أو ثالث في أواخر القرن ال 19. وكانت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الأصل أحزابا ماركسية. وأسس الرعيل الأول اتحاد الديمقراطيين الاشتراكيين
Social Democrats (SFD)-Federation
ليمثل الطبقة العاملة في بادئ الأمر. وانحل هذا الاتحاد وتشكلت بديلا عنه لجنة تمثل العمال عام 1900م وتحولت هذه فيما بعد إلى حزب العمال البريطاني. واتخذ الحزب في البداية - تحت رعاية وتوجيه سيدني ويب «1859-1947م» وزوجته بياترس ويب «1858-1947م» - نهجا عرف باسم الفابية. وهذه سياسة متمايزة عن النهج الماركسي، تتمثل عناصرها في التحول أو التطور التدريجي نحو الاشتراكية واتخاذ الطريق البرلماني وليس التحول الثوري العنيف.
مع حالة النمو والانتعاش في أوروبا الغربية بفضل مشروع مارشال لإعادة التعمير وتنشيط التجارة تراجع التيار اليساري داخل حزب العمال البريطاني. ورأى الحزب إمكان الإصلاح والتطوير في إطار التوافق مع الرأسمالية والاعتماد على الداخل. واتجه الحزب إلى التأكيد من جديد على نظام دولة الرفاه الذي بدأ قبل الحرب ثم أوقف بسببها. وأصدر عالم الاقتصاد والاجتماع البريطاني وليم هنري بيفريدج «1879-1963م» تقريره عام 1942م تحت عنوان «تقرير عن الضمان الاجتماعي والخدمات المتحدة»، أعلن فيه صراحة الحرب ضد الفقر والجهل والمرض والفساد السياسي والبطالة. وأن دولة الرفاه هي الأداة المنوط بها هذه المسئولية. والجدير ملاحظته هنا أن هذا التقرير، تحديدا ينتقده جيدنز في معرض رفضه المتكرر لدولة الرفاه باعتبارها اليمين؛ إذ يرى جيدنز أن هذا التقرير يركز على مسائل سلبية تماما. يقول جيدنز: حري بنا اليوم أن نتحدث عن «الرفاه الإيجابي». الذي يسهم فيه الأفراد والإدارات .. وأن يكون الرفاه أداته لخلق الثروات.
واتجه اليسار الأوروبي بعامة إلى العمل داخل إطار التوافق مع الرأسمالية. وعزز هذا الاتجاه أن اليسار الأوروبي فقد الثقة تدريجيا في النظام السوفيتي كنموذج رائد، خاصة بعد أحداث المجر في الخمسينيات وقمع القوات السوفيتية للتمرد داخل المجر. ثم بعد ذلك غزو القوات السوفيتية لتشيكوسلوفاكيا عام 1968م، هذا علاوة على افتضاح الوجه الاستبدادي للستالينية وأثارها الاجتماعية والفكرية.
ولكن خلال الربع الأخير من القرن العشرين؛ أي خلال الفصل أو المشهد الثاني لواقع حال العالم، تزايد السخط داخل حزب العمال، وقال جيمس كالاهان عبارته المشهورة: «لم يعد بالإمكان التزام النهج القديم» وشهدت بريطانيا أحداث «شتاء السخط أو الغضب» عام 1979م. وصعدت التاتشرية وسياسة الليبرالية الجديدة مقترنة بالعصا الغليظة ضد العمال، وسحقت إضراباتهم وفككت نقاباتهم.
واشتدت معاناة الحركة العمالية البريطانية بعد أن منيت بالهزيمة عام 1981-1982م، حين حاول طوني بن مقرطة وردكلة «إضفاء طابع ديمقراطي وراديكالي على الحزب» عن طريق منح القواعد سلطات أكثر. وتولى زعامة الحزب من بعده نيل كينوك
Niel Kinnock ، الذي أعاد الحزب إلى وضع غير منحاز لليسار. ومهد كينوك بذلك الأرض لزعامة توني بلير ولأمركة حزب العمال الجديد. ويقول عنه «دانييل سنجر» أصبح بلير في حاجة إلى تسويق النموذج الأمريكي داخل الحزب وداخل بريطانيا تحت اسم «الطريق الثالث» أو «لا يمين ولا يسار» ويضيف وكما عبر معلمه الروحي أنطوني جيدنز بقوله: «زلزلت التاتشرية أركان المجتمع البريطاني.» ولكن مع استعادة الحوار السياسي .. ومع المزيد من التفكير الحر .. يمكن أن تغدو بريطانيا الشرارة التي تنطلق منها عملية إبداعية بين الولايات المتحدة والقارات الأوروبية.
وهكذا تغير حزب العمال فكرا مثلما تغير اسما وبنية؛ إذ أصبح مع توني بلير حزب العمال الجديد، ليؤكد التمايز عن تاريخه. واختفت صورة العامل من قيادته لتحل صورة رجل المال والأعمال. والجدير بالذكر هو ما أورده دانييل بن سعيد في ورقة تحت عنوان «وسط جديد باسم الطريق الثالث»، قال: «لاحظت صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون أنه عند انعقاد مؤتمر حزب العمال الأخير لم تعد طرقات منطقة بلاك بول تزخر بعمال المناجم في سترات العمل «الأفرول»، بل ازدحمت برجال الأعمال الكبار وكبار المحامين والمستشارين والإداريين، وكل منهم يرتدي سترات الاحتفالات الرسمية، ويحمل هاتفه النقال. وأن أبرز الشخصيات القريبة من توني بلير من أغنى أغنياء بريطانيا، والنخبة الاجتماعية من أرقى درجات السلم الاجتماعي أصحاب ومديري البنوك والمؤسسات الصناعية والمالية الكبرى.»
صفحة غير معروفة