عصر شكسبير
الشعر والمسرح
أسرة شكسبير
الرجل
الفنان
المؤلف
الشاعر
الخصائص والمزايا
مصادر الروايات
نسبة الروايات
صفحة غير معروفة
تراث عالمي
عصر شكسبير
الشعر والمسرح
أسرة شكسبير
الرجل
الفنان
المؤلف
الشاعر
الخصائص والمزايا
مصادر الروايات
صفحة غير معروفة
نسبة الروايات
تراث عالمي
التعريف بشكسبير
التعريف بشكسبير
تأليف
عباس محمود العقاد
عصر شكسبير
عصر شكسبير هو عصر النهضة في إبان ازدهاره، وهو العصر الذي اصطلحوا على تحديده من منتصف القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن السابع عشر، ويبدأ من فتح القسطنطينية وينتهي عند أوائل القرن الثامن عشر؛ لأن هذا القرن يبدأ باسم آخر في أطوار الثقافة الغربية، ويسمى بعصر الاستنارة الذي يعد امتدادا لعصر النهضة ولا يعد نهاية له في الحقيقة، وإنما تختلف الأسماء للتمييز بين أدوار الثقافة في مراحلها المتتابعة.
ويسمي الأوروبيون عصر النهضة باسم «المولد الجديد» كما يسمونه أحيانا بعصر إحياء العلوم، ولكن اسم الدعوة الإنسانية
Humanism
صفحة غير معروفة
هو أصدق الأسماء في تمييز مقاصده ووجهة النهضة فيه؛ إذ كان ميسم النهضة كلها الاتجاه نحو الإنسان والاعتراف له بحق التفكير وحق الحياة.
لقد بدأت الدعوة الإنسانية قبل عصر النهضة الذي يؤرخونه في بداءته بفتح القسطنطينية، وكان لانتشار الحضارة الإسلامية أثره في الإيحاء بنصيب الإنسان من دنياه وتحبيب محاسن الحياة إليه، وكان رائد الإنسانيين بترارك (1304-1374) يتغنى بالحب على أسلوب الشعراء الجوالين الذين اقتبسوا أناشيدهم من الشعراء الأندلسيين، ويلحق به رهط من الأدباء والقصاصين ينسجون على منوال ألف ليلة وليلة فيما تخيلوه مثالا لمتعة العيش، ويتعمدون أن يظهروا في أقاصيصهم ما يبطنه أدعياء النسك والإعراض عن الدنيا من النفاق والولع بالمحرمات والمحظورات، وكان هذا هو جانب الدعوة الذي يشيع بين عامة الناس ويسهل فهمه والشعور به في جميع البيئات، ويسري معه في بيئات المثقفين حب الاطلاع والانطلاق من القيود التي كانت تحرم النظر في بعض الكتب العلمية والفلسفية، وأولها كتب «ابن رشد» التي سميت بالفلسفة الرشدية أو ب «الرشدية» على إطلاقها، وتعرضت للقسط الأوفر من حملات التشهير والتحريم.
بدأت الدعوة الإنسانية - مقابلة لدعوة التقشف والإعراض عن الحياة - بعد قيام الدولة الإسلامية في الأندلس بقرن واحد، ثم جاءت الكشوف المتوالية فعززت هذه الدعوة؛ لأنها صححت مكان الإنسان من العالم وعرفته بما كان يجهله من أرضه التي يعيش عليها، وقد كان يجهل أنه يعيش على كرة تدور في الفضاء، ويحسب أن حدود الأرض تنتهي عند بحر الظلمات.
وقد امتد عصر الكشوف السماوية والأرضية حتى جاء نيوتن فكشف عن قانون الجاذبية وعن قوانين الحركة في الأفلاك وفي الأجسام المادية حيثما تكون، وكشف العلم عن حقائق جسم الإنسان كما كشف عن حقائق الأجسام الصماء، فعرف حقيقة الدورة الدموية واجترأ على تشريح البنية الحيوانية للعلم بوظائف الأعضاء.
كان معنى عصر النهضة، أو عصر الرشد، اعترافا بحق الإنسان في التفكير وحقه في الحياة، وتمثل هذا الحق في كل شعبة من شعب الفكر وكل غرض من أغراض الحياة: تمثل في الحياة الروحية كما تمثل في الحياة الجسدية، فانتشرت الثورة على التقليد والتسليم، وانتشرت معها المذاهب الدينية التي تبيح للعقل أن يراجع السلطان فيما يمليه عليه من قواعد الإيمان، ولا توجب عليه أن يدين بما يملى عليه بغير سؤال ولا برهان.
وانتشرت الثورة على التقليد في شؤون العلم والحكمة كما انتشرت الثورة على التقليد في شؤون العقيدة وشعائر الدين، وكان الناس قد نسوا أن المعلم الأول - أرسطو - هو القائل: إنني أجل أفلاطون، ولكن الحقيقة أعظم من أفلاطون، فوقفوا بالحقيقة كلها عند مقولات أرسطو التي تناقلوها جيلا بعد جيل، ثم جمدوا على ما فهموه خطأ من أقواله ولم يقصده ولا خطر بباله، فلما ثبت لهم حق الفكر قام منهم من يقول إن الحقيقة أكبر من أرسطو وإن ميدان المعرفة يحيط بأمور لم يحط بها المعلم الأول في زمانه. •••
ومما ساعد على انتشار دعوة الإنسانيين أن كثيرا من اللاهوتيين المتقشفين المخلصين في زهدهم وإعراضهم عن الدنيا، كانوا يقبلون على دراسة الفلسفة والحكمة ويختبرون دراسات العلوم الطبيعية، وربما كان منهم من ينكر دعوة الإنسانيين إلى متاع الحياة واجتناب معيشة النسك والشظف، ولكنهم كانوا في ثورتهم الفكرية على قيود الدراسة أشد وطأة على «السلطة الدينية» من دعاة الإنسانيين.
على أن هؤلاء النساك المشتغلين بالفلسفة كانوا يؤيدون دعوة الإنسانيين إلى متاع الحياة من طريق آخر؛ لأنهم كانوا يشنون الغارة على أصحاب الرئاسات من رجال الدين المنعمين الذين كانوا يذكرون الزهد بألسنتهم ولا يتكلفون في معيشتهم، فكانوا بمسلكهم هذا في الخفاء والعلانية حجة «فعلية» على قوة الدعوة إلى الحياة ومغالبتها لمن يصطنعون إنكارها والزراية عليها أمام أعين الناس.
وكانت البلاد الأوروبية تموج بالوعاظ من زمرة النساك الدارسين، فلا تخلو أمة في القارة ولا في الجزر البريطانية من واعظ جهير الصوت عنيف الحملة على البذخ والنفاق بين ذوي الرئاسات من رجال الدين، وكان أعنفهم حملة في أوائل القرن الرابع عشر أتباع الواعظ الفيلسوف وايكليف
Wycliffe
صفحة غير معروفة
المعروفون بالمترنمين
Lollards
لأنهم كانوا يترنمون بالصلوات وأناشيد الضراعة والابتهال، فقد كان هذا الواعظ الفيلسوف يخوض معركة الجدل بين أنصار مذهب الواقعية
Realism
وأنصار مذهب الاسمية
Nominalism
ويسترعي إليه أسماع العامة بزهده وغيرته وأسماع الخاصة ببلاغته ومضاء حجته، وما زالت دعوته تشتد وتشيع حتى أقلقت رؤساء الدولة والدين فحاربوها وكادوا يسكتونها، ولكن بعد أن هيأت العقول في البلاد لقبول ثورة أشد وأبقى منها، وهي الثورة البروتستانتية، وفي أعقابها ثورة المتطهرين التي قبضت على زمام الحكم في عهد الملك شارل الأول وجمعت إليها طبقات الأمة من النبلاء ومن تابعوهم من حواشيهم متابعة الطاعة العمياء.
ومن الواضح أن عصرا كعصر النهضة خليق بأسبابه العامة أن يعم الأمم الأوروبية ولا ينحصر في ناحية منها دون سائر نواحيها؛ لأنه كان ينبعث من حركة العلماء والرهبان الذين هاجروا من بلاد الدولة البيزنطية إلى أقطار أوروبة الشرقية والوسطى بعد سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين، وسبقهم من الطرف الآخر تلاميذ العرب في غرب القارة بفرنسا وفي جنوبها بالأندلس وصقلية، وراحوا يتنقلون جميعا في بقاع الشرق والغرب والجنوب التي ارتفع فيها السخط من داخلها على فساد السلطة الدينية والدنيوية، فلم تسمع بين أمم القارة صيحة إصلاح واحتجاج إلا قابلتها صيحة مثلها من سائر الأمم تلبيها أو توافقها في الزمن لأسباب مثل أسبابها وإلى وجهة قريبة من وجهتها.
غير أن الجزر البريطانية قد اجتمعت لها في عزلتها أسباب خاصة - مع هذه الأسباب الأوروبية العامة - جعلتها في ثورة مطبقة تشترك فيها بجملتها فضلا عن الثورة التي كانت تعتلج في نفوس المحكومين منها على حكامها وسادتها.
فهي في عزلتها كانت بعيدة من سيطرة رومة، قريبة من معاهد العلم في أوروبة الغربية، فخف طلاب المعرفة من أذكيائها إلى مدارس إسبانيا وفرنسا وصقلية ونبغ منهم حوالي القرن الثاني عشر نفر لا يساويه في عدده ولا في علمه نظراؤهم من الأمم الأوروبية الأخرى، ويذكر في طليعتهم أديلارد أوڤ بات، ودانيال أوڤ مورلي، وروجر أوڤ هيرفورد، وإسكندر نكوام. ويليهم: رائد المدرسة التجريبية الحديثة روجر باكون (1214-1292) أستاذ سكوتس زعيم الاسميين، وأكهام زعيم الواقعيين الذي كان لوثر يفخر بالانتساب إليه، فيقول: «أستاذي العزيز أكهام.»
صفحة غير معروفة
ولولا هؤلاء لما تمهدت سبل البحث والنظر لإمام المدرسة التجريبية فرنسيس باكون معاصر شكسبير.
وسبب آخر من أسباب وفرة العوامل التي ضاعفت قوة النهضة في هذه الجزر المعزولة أنها أصبحت في المحيط الأطلسي مركز الملاحة والتجارة بعد كشف القارة الأمريكية، فقد تحولت طرق الملاحة العالمية من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي بعد كشف أمريكا وكشف الطريق البحري حول رأس الرجاء إلى الشرق الأقصى، فنشطت في إنجلترا طوائف عدة من الرواد والملاحين ورجال الأعمال وطلاب المغامرة والمرشحين لولاية الحكم في مستعمرات الغرب والشرق، وتعاظم نفوذ هذه الطوائف في عصر شكسبير - عصر عريضة الحقوق الدستورية - فنالت الأمة الإنجليزية منها ما لم تنله الأمم الأوروبية بجوارها إلا بعد ذلك بعشرات السنين، وكانت عزلتها في البحر من أسباب هذا السبق في انتزاع الحقوق من أيدي المستبدين؛ لأن حكومتها كانت تعتمد على الأسطول لحماية أرضها، وكان يكفيها القليل من الكتائب في الجيش القائم لحماية الأمن في داخلها، وكان لنبلائها جيوش صغيرة في أقاليمهم توازن جيش الملك الكبير في العاصمة والمدن المحصنة، فلما نهضت الطبقة الوسطى - الجديدة - للمطالبة بحقوقها لم يكن في طاقة الملك أن يقمعها، وأن يستغني عن معونتها المالية في تسليح جيشه والإنفاق عليه، فنجحت الثورة الدستورية قبل أن تنجح في بلاد الحكومات التي تحميها الجيوش القائمة، ويضعف فيها نفوذ الطبقات الوسطى في كل حركة تستقل بها عن طبقة النبلاء، ولا تعتمد فيها على مشايعة الدهماء. •••
ولما دخلت إنجلترا في المذهب البروتستانتي كان دخولها في هذا المذهب بمثابة ثورة من طرفين متقابلين: ثورة الملوك على سيطرة الكنيسة للاستقلال بالحكم في دولتهم وإقامة أنفسهم على رأس الكنيسة في بلادهم، وثورة الشعب الذي كان على استعداد لخلع الرئاسة الدينية المفروضة عليه بعد تتابع الدعوات من قبيل دعوة وايكليف وأتباعه، أو قبيل دعوة المتطهرين التي ضمت في أحضانها شراذم متفرقة من طبقات متفاوتة تدين أحيانا بعقائد رومة ولا تدين في الجملة بمراسمها وتقاليدها «الكهنوتية».
وقد اصطلحت شتى العوامل على وضع الجزر البريطانية في موضع المناظرة والمقاومة لدولة القارة الكبرى التي تمثل فيها النظام القديم في موقفه من الدين والعلم وموقفه من مسائل الاجتماع والسياسة، وقد تمثل ذلك النظام على أتمه وأعمه في الدولة الإسبانية.
فالدولتان - إسبانيا وإنجلترا - تتنافسان في السياسة؛ لأنهما تتنازعان السيادة والغلب على المحيط الأطلسي ومستعمرات الأمريكتين الشمالية والجنوبية.
وكلتاهما تناصب الأخرى العداء؛ لأنها أكبر الدول التي تحمي مذهبها في العقيدة، فكانت إسبانيا حامية الكثلكة وإنجلترا حامية المذهب الذي اشتهر يومئذ بمذهب «الاحتجاج» والإصلاح.
وبين الدولتين منافسة في العنصر «القومي» لا تخلو من آثارها الملموسة في شؤون الفكر والنظرة الروحية، ولا شك أن لهذا التنافس أسبابه التاريخية التي تتصل بالسياسة وأنظمة الشعوب والقبائل، ولكنه - كائنا ما كان في منشئه وتطوره - ظاهر للعيان في تقسيم الأمم بين الكثلكة والمذاهب الأخرى؛ فالأمم اللاتينية إلا القليل منها جانحة إلى كنيسة رومة، والأمم التيوتونية والجرمانية إلا القليل منها جانحة إلى المذاهب التي فارقت كنيسة رومة وخرجت عليها، وقد يظهر ذلك في الجزر البريطانية نفسها، فإن الشعوب التي لا تنتمي إلى الجرمان والتيوتون بقي أكثرها على مذهب رومة ولم يتابع جيرانه في الخروج عليها.
وزبدة هذه العوامل المتشابكة أن الحوادث كانت تميل بالأمم البريطانية إلى الجانب المعارض للنظام القائم منذ القرون الوسطى، وأن دعوة الإنسانيين بالنسبة إليها كانت إلى الواقع المقرر أقرب منها إلى الرأي والمطاوعة المقصودة، فكل ما حرمته النظم القائمة فهو بحكم المصلحة - أو بحكم رد الفعل - عرضة للمناقضة والشك من الجانب الذي يناظره ويتحداه، وهذا الذي جعل الجزر البريطانية على عهد النهضة في ثورة مطبقة تشترك فيها بجملتها، فضلا عن ثورتها في داخلها على حكامها.
وكل تلك العوامل المتشابكة تتراءى على كثرة، أو على قلة، فيما يصادفنا من أحوال المجتمع وعادات طوائفه وفئاته وأزياء رجاله ونسائه وفيما يتبدل من نظم الحكومة ودساتير المعاملة بين الرعاة والرعايا، وما يجيش في نفوس هؤلاء من سورات القلق والشكاية، وهذه نتائج تلك العوامل الجديدة في عالم الواقع على صورتها العملية، ولكنها تطالعنا صريحة ناطقة في صفحات الكتب ونظرات المفكرين وذوي الرأي فيما يتناولونه من موضوعات الدعوة الإنسانية، أو فيما يتخلل الموضوعات العامة عرضا واتفاقا بمعزل عن تلك الدعوة، وهجيراها في جملتها ترديد الاعتراف بحق الإنسان في التفكير المستقل والحياة الدنيوية، وتصحيح مكانه في هذا العالم تبعا لما تعارفه الناس من تصحيح علاقاته وحدوده، وهذه هي رسالة عصر النهضة التي بلغت مرحلتها الوسطى قبيل ميلاد شكسبير، ولم تزل آخذة في التمام والاتساع أثناء حياته وبعد مماته. •••
فالقس ريتشارد هوكر
صفحة غير معروفة
Hooker (1554-1600) يقول في فصل عن قوانين الكون: إن الله قانون لنفسه ولسائر الموجودات، ويبدأ كلامه قائلا: «جميع الموجودات لها أعمال ليست بالجامحة ولا بالعرضية، وما من شيء يعمل ما لم تكن له وجهة مرسومة يعمل لأجلها، ولا تدرك هذه الوجهة ما لم يكن العمل المتجه إليها صالحا لبلوغها من طريقه.»
وسير والتر رالي
Raleigh (1552-1618) يكتب عن العوامل الطبيعية وعوامل السحر فصلا يقول فيه: «إنه لصحيح أن ثمة صناعات كثيرة - إن صدقت التسمية - تنطوي تحت عنوان السحر، ويلوح عليها أنها فروع من الشجرة التي ما نمت عليها قط في الحقيقة، وأول هذه الصناعات استحضار الأرواح، وهو على أنواع: أحدها التعزيم على روح الميت عند قبره ويسمع فيه الجواب من الشيطان لا من الطيف الذي يخيل للناظر أنه قد ظهر أمامه، ومن البين أن الأرواح الباقية لا تسكن التراب ولا تستقر في جثث الموتى، وإنما كانت تهب الحركة والفهم للحي وهو بقيد الحياة فما كان الموت إلا انفصالا بين الجسد والروح.»
ثم يقول عن نوع آخر من العزائم: «إنه ذلك الذي يقال فيه إنه عهد مع الشيطان يجعل لصاحبه قدرة على استدعاء الشياطين لسؤالها عما تريد أن تعلمه، وخطأ هؤلاء الذين يدعون هذه الدعوى ظاهر؛ لأنهم يعتقدون أنهم يرعبون الشياطين بالكلمات المخيفة التي تحصرها في خطوط دائرة لا تقوى على أن تحبس فيها الفأر الضعيف ...»
وتوماس ديج
Digges (1545-1595) الفلكي يكتب في تأييد نظريات كوبرنيكس بعد تصحيح بعض الأخطاء، فيقول: «إنه بين تلك الأخطاء وجدت أوصاف للعالم ومراكز الأفلاك السماوية والعناصر على حسب شروح بطليموس التي تسربت إلى الجامعات كافة على ما يظهر من أثر التسليم بفلسفة أرسطو. ولكننا قد نبغ في عصرنا هذا نابغة ألمعي، فطن للأخطاء المتكررة والأقوال السخيفة التي سيق إليها من لا يريدون أن يصدقوا أية حركة في فلك الأرض، فكشف بالدرس الطويل والبحث المجهد والذكاء النافذ صورة للعالم تدل على أن الأرض لا تثبت في مركز الكون، بل في مركز هذا الفلك الدنيوي الفاني تحت القمر وحول الشمس التي استوت على العرش في وسط ملكها تصدر قوانين الحركة لسائر ما يحتويه.»
وجابرييل هارڨي
Harvey (1545-1630) الشاعر الأديب يكتب إلى صاحب يشكو إليه فساد الدنيا في الزمن الأخير، فيقول له إن ما ينعاه على دنياه قديم كقدم هابيل وقابيل وآدم وحواء وبابل وسدوم، وإن تاريخ الإنسان يرينا أن الأقدمين كانوا أساتذة للتابعين في خلائق الغدر والرجس والجريمة، فلا ينبغي أن نجهل حقيقة الأولين ولا أن نبخسهم حقهم أو حق الخلف الذين يعيشون في هذا الزمان ... إلى أن يقول: «إنك لتحسب أن العصور الأولى كانت في حياة الإنسان عهدها الذهبي، وما هو بذاك، فلعل العهد الذهبي كما قال بودين
Bodin
مزدهر بيننا الآن.»
صفحة غير معروفة
وجابرييل هارڨي هذا يكتب عن العلم والعمل أو عن معرفة الورق ومعرفة التجربة، فيقول عن أحد الصناع : «إنه شاب لم يتعلم في جامعة، ولكنه يخجل أساتذتها الذين يتعلمون منه؛ إذ هم يملكون الكتب والصناع يملكون المعرفة.» ثم يمضي فيسرد أسماء: همفري كول
Cole
صانع المكنات الفلكية، وماثيو بيكر
Baker
السفان، وجون شيوت
Shute
البناء، وروبرت نورمان
Norman
الملاح، ووليام بورن
Bourne
صفحة غير معروفة
صانع الأسلحة، وجون هستر
Hester
الكيمي، فيقول: إنهم سيذكرون يوم ينسى كثير من أساتذة الأوراق. •••
وأينما قلبنا الصفحات في المؤلفات التي ظهرت باللغة الإنجليزية بين أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، فهناك هذه النظرة الجديدة إلى العالم وإلى الإنسان وإلى المعرفة التي تقوم على تحقيق الضوابط والقوانين وتحرير التجربة العملية.
ولأول مرة في الغرب بعد القرون الوسطى يفهم عشاق المعرفة أنها سرور ورياضة، ويشيحون بوجوههم عن المعرفة التي تقيدهم بالأماني الموروثة أو تلقى إلى الطلاب كأنها ضريبة ثقيلة ترين على رؤوسهم وكواهلهم، ويسري هذا الرأي في المعرفة المحبوبة من ولاة الأمر الذين يصدرون الأوامر والنواهي ولا يرتاحون عادة إلى الإقلال من القيود والتخفيف من الفرائض والمحظورات، ولكنهم يخالفون ديدنهم في هذه القيود؛ لأنهم كانوا في ذلك العهد أصحاب الحصة الكبرى من المعرفة الجديدة: حلية الرئاسة، وأداة المنصب، والوظيفة.
يروي روجر أشام
Ascham (1515-1568) أستاذ الأميرة اليصابات وأمين سرها باللغة اللاتينية بعد ارتقائها إلى العرش أنه كان يحضر مجلس المائدة في القصر وكل حاضريه من نخبة من وزراء القصر ومستشاريه، فذكر أحدهم على سبيل العجب أن بعض الطلاب تركوا الجامعة تذمرا من صرامة العقاب، فكان تعليق أحد الوزراء أن هذه الصرامة تبغض الناشئة في العلم قبل أن يتذوقوا حلاوته فيصبروا على الشدة في تحصيله، وقال غيره: إن الجامعة ينبغي أن تكون مثابة متعة وملعب رياضة، ولم يكن بينهم أحد من شيعة التعليم بالخوف والعقوبة.
وفي هذا العصر نبغ العلماء والأدباء من العلية وكبار الساسة وذوي المناصب في القيادة والرئاسة، ومن هؤلاء كان فرنسيس باكون إمام المدرسة التجريبية الذي يسبق إلى الظن من تلقيبه بإمام هذه المدرسة أنه أول من دعا إلى التجربة العلمية ووجه العقول إليها، وإنما كان في الواقع أحد الباحثين الذين نشأوا في عصر البحث والقوانين الكونية والعلوم التجريبية، وفضله الخاص بين الدعاة إلى هذه الوجهة العامة أنه طبق فكرة التجربة في ناحية البحث العلمي ووضع له قواعده الصالحة لتحقيق النتيجة الصحيحة، ولم يكن أحد من فضلاء عصره يقرر نتيجة من نتائج العلم على أساس غير أساس التجربة واستقلال الفكر بالفهم والمناقشة، وعلى هذا تتم أقوالهم وأقوال أمثالهم في مسائل النظر وأبواب العلم والدراسة بأنواعها.
وتلك الخليقة حرية بالتقرير في هذه المقدمة عن عصر شكسبير؛ لأنها - مع لزومها لفهم روح العصر - لازمة في فهم شكسبير وباكون وسائر المفكرين من أبناء الحركة الفكرية المخضرمة بين القرن السادس عشر والقرن السابع عشر؛ إذ كان يعيش الشاعر والفيلسوف، فإنها فترة من الوقت لم ينفرد فيها أحد بنوع من المعرفة ولا أسلوب من المعرفة، وغاية ما ينفرد به النابغ في إبان الدعوة العامة على مثال دعوة الإنسانيين أن يضفي عليها طابعه الشخصي فيما تخصص له من فن أو علم، وما هو بالحظ القليل.
الشعر والمسرح
صفحة غير معروفة
يسمى عهد الملكة - اليصابات أحيانا - بعصر الغناء أو بالعصر المغني، ويصدق عليه هذا الوصف لأنه العهد الذي وجد فيه روح العصر أغنيته التي تناسبه من منبعه الذي انبثقت منه دعوة الإنسانيين وما يتصل بها من الدعوة إلى إحياء العلوم والفنون.
فليس عهد الملكة اليصابات بالعهد الذي ولدت فيه المنظومة الغنائية كما لا يخفى، ولا هو - على كثرة الأغاني فيه - بالعهد الذي يفوق العهود التي سبقته كثرة في أنواع النشيد؛ لأن تلك العهود لم تخل من أنواع للأناشيد يتغنى بها العامة أو الخاصة ويشيدون فيها بأبطال الأساطير أو كرامات القديسين أو أحاديث العشاق على ضروب شتى من الأوزان والأساليب.
ولكن عهد اليصابات كان في إنجلترا أول عهد راجت فيه «الموشحة» الإيطالية كما نظمها بترارك أكبر الشعراء الإنسانيين، ونترجم هذا الضرب من الأغاني
Sonnet
بالموشحة، وقد يترجم بالزجل لتشابه الموشحة والزجل في القوافي والأغصان والنوبات والخرجات والأقفال على اصطلاح الوشاحين والزجالين، غير أن الموشحة أقرب دلالة من الزجل ؛ لأنها وضعت في الأصل للمنظومة التي تتكرر فيها القوافي اثنتين اثنتين تشبيها لها بالعقد الموشح ذي السمطين، وهذا هو الغالب على أغنية عهد اليصابات كما اقتبسها الشعراء الإنجليز.
وقد اقتبس هذا الوزن من الإيطالية شاعران شابان هما توماس ويات
Wyatt (1503-1542) وهنري هوارد (1517-1547) فنقل أولهما طريقة بترارك بغير تصرف فيها واتبع زميله هذه الطريقة ببعض التصرف في ترجمة شعر فرجيل، ثم شاعت هذه الأغاني الجديدة ونظم فيها سياسي من حاشية اليصابات هو الوزير الأديب سير فيليب سدني كما نظم فيها بعده شكسبير وغيره من معاصريه.
ولما نهض التأليف المسرحي نظما ونثرا في اللغة الإنجليزية بقيت له، بطبيعة الحال، صبغته الواقعية الحسية التي استمدها من البيئة والتاريخ، وبقيت له معها صبغته الدينية الأخلاقية التي استمدها من تقاليد القرون الوسطى وعرف الفروسية، ولكنه احتفظ من ناحيته الفنية بصبغة الدعوة التي ابتعثته من غيابة النسيان فاتخذ قدوته وقالبه من فن رومة القديمة، وتداول المعنيون بالمسرح روايات أديبين من مؤلفي التمثيليات كان لهما حظ الشهرة إلى عصر الميلاد في اللغة اللاتينية السهلة ولغة اللهجة الدارجة التي كانت تستخدم يومئذ في كتابة الملاهي والفكاهات على الخصوص، فانبعث اسم بلوتوس
(254-184ق.م) واسم سينكا (4-65م) كأنهما من مؤلفي الجيل.
وكانت اللاتينية بلهجاتها أعم اللغتين القديمتين بين الإنجليز؛ لأنها لغة الدولة الرومانية التي كانت إنجلترا جزءا منها في بعض تاريخها، ولأنها لغة الكنيسة الغربية التي تبعتها الأمة الإنجليزية إلى أن حدث الانقسام بينها وبين البابا في عهد هنري الثامن أبي الملكة اليصابات، بيد أن اللغة الإغريقية لم تكن مجهولة بين الإنسانيين؛ لأنهم في جملتهم من زمرة المثقفين أو طبقة العلية التي توسعت في دراسة الإغريقية وآدابها بالجامعات، ونظرت إلى ثقافتها كأنها حلية لا غنى عنها من شمائل الرفعة والجاه.
صفحة غير معروفة
ومن الواضح أن حركة الإنسانيين لا تقوم في مبدئها بمعزل عن أنصار المعرفة وأنصار الإقبال على الحياة، فهي في بواعثها ووسائلها حركة من حركات العلم واليسار، ويكفي أن نلم بأسماء بعض القائمين علياه لنعلم أنها رسالة المعرفة في عصر الفتح والإقدام والتطلع إلى المستقبل على ثقة ورجاء ، فقد كان الشابان اللذان نقلا الموشحة من أرفع طبقات النبلاء المثقفين، وكان رائدهما الأول - سير فيليب سدني - وزيرا من كبار وزراء المملكة، وعناه من أجل هذا أن يكتب رسالته المشهورة في الدفاع عن صناعة القريض، وكان مما قاله فيها: إن اسم الشاعر باللغة اللاتينية كفيل أن يدل على قداستها في نظر الأقدمين؛ لأنه اسم يشير إلى الإلهام والنظر أو النبوءة، وقريب منه في جلالة شأنه اسم الشاعر باللغة الإغريقية؛ لأنه يفيد معنى الصانع ويشبه معنى الخلق في مجاراة الطبيعة والتفوق عليها، واستطرد من الكلام على الشعر في اللاتينية والإغريقية إلى الكلام على الشعر المقدس في العبرية، فذكر منه المزامير، وقال إنها من الكلام الموزون، فلا يجوز الغض من صناعة تختارها لغات الحضارة والعقيدة للتعبير عن أشرف المقاصد وأرفع الأفكار.
ولولا قوة الإنسانيين في المجتمع الحديث لما تسنى لسلطان الدولة برمتها أن يعزز الدعوة إلى إحياء الفنون والعلوم والإقبال على الحياة في وجه الجامدين المتعصبين للتقاليد بين شعب مشهور بالمحافظة عليها والتريث في تبديلها، أو في وجه المجددين الذين أرادوا التجديد في شعائر الدين؛ سخطا على رذائل البذخ والفساد التي استرسل فيها فريق من أقطاب الدين قبيل عصر النهضة وفي إبان ذلك العصر المتناقض العجيب.
ولقد كاد مجلس المدينة يتمرد على أوامر الملكة لما أذنت للممثلين أن يعرضوا صناعتهم داخل أسوار العاصمة، فإن التمثيل كان عند المحافظين المتشددين محسوبا من صناعات الخلاعة والابتذال، وكان الممثلون يسلكون في عداد الأفاقين والشطار واللصوص، ويطاردهم الشرطة ما لم تكن في أيديهم شهادة بالانتماء إلى أحد النبلاء وذوي الأقدار يقبلهم للتمثيل في قصره بين خاصته وذويه، وظل الحال كذلك إلى ما قبل نهاية القرن السادس عشر بقليل، ولعل المحافظين لم ينكروا تلك الصناعة اعتسافا في أيام المتطهرين وما قبلها؛ لأن التمثيل إنما كان نوعا من أنواع التهريج والشعوذة والألعاب البهلوانية قبل أن تستقل الرواية المهذبة بفن المسرح بزمن طويل، وكان المشتغلون به يرودون المدن والقرى متنقلين في الفرق الجوالة ولا تؤمن طائلتهم إذا سنحت لهم غرة من سكان الحضر والريف.
على أن المثقفين من دعاة الإحياء والإقبال على الحياة لم يكن في طاقتهم أن ينهضوا بهذا الفن لو كان قصارى الأمر فيه أنه دعوة من دعوات المعرفة والذوق تروجها فئة من السادة والعلماء. وإنما نجحوا في دعوتهم لأنها صادفت رغبة قوية بين سكان مدينة تمتلئ عاما بعد عام بألوف الوافدين من أنحاء المملكة في طلب العمل واللهو الجديد، ويكاد أن ينحصر في فن التمثيل وأن يكون في هذا الفن تلبية لشوق الوطن كله إلى تمثيل مفاخر القوم وتصويرها على المسرح في صور المجد والبطولة، وكان هذا الباب من أبواب الرواية المسرحية فنا تمليه رغبة الجمهرة الغالبة من العامة والسواد؛ إذ لم يكن معهودا في روايات الإغريق والرومان، ولم يكن مما يشتغل به هواة الفن في الجامعات والقصور، وهم الذين اشتهروا يومئذ باسم أذكياء الجامعة
University wits
وعالجوا التمثيل كما عالجوا التأليف.
ويصح أن يقال إن العلية والسواد معا كانوا يدا واحدة في تشجيع هذا الفن الجديد، وإن معارضيه من المتطهرين لم يخذلوه بمعارضتهم بل أضافوا إلى لذات الإقبال عليه لذة الثمرة المحرمة التي لا تباح كل الإباحة ولا تحرم كل التحريم.
أسرة شكسبير
كاتب الأعاجيب ليس في سيرته خبر عجيب.
يقال هذا ويعاد في مفتتح السير التي تروي لنا عجائب الأخبار في الواقع والخيال، ويصدق على فئة كبيرة من أعلام الشعراء والكتاب يصفون لنا أبطال العظائم والغرائب، ويخلقون لنا من أخيلتهم سيرا تشوقنا بما تعمله أو بما تلقاه من صروف المحن والتجارب، ونعود إلى سيرتهم في وقائعها وأخبارها فنعجب لخلوها من العجائب، ونحار كيف نضعها مع السير التي وصفوها لنا كما خلقها الله أو وضعوها لنا كما خلقوها من صنع القريحة والخيال.
صفحة غير معروفة
وأصدق ما تقال هذه الكلمة حين تقال عن وليام شكسبير، صاحب الروايات التي امتلأت بعجائب السير من وصفه ومما صنعه على يديه، ولا عجيبة في سيرته من يوم مولده إلى يوم وفاته، إلا ما كتبه بقلمه وابتعثه على مسرح التمثيل ثم أبقاه على مسرح الحياة كأبقى ما يبقى الخلائق الأحياء.
إلا أننا - على ما يقال في أحاديث الأرواح والأطياف - لا نبحث عن العجائب إلا وجدناها أمامنا، وإن لم نجدها على تقديرنا وحسباننا، ولعلنا لا نبحث عن العجائب إلا لأنها تستدعينا وتتخايل من وراء حجابها لنلقاها وتلقانا.
إن عظمة شكسبير أعجوبة خارقة، ولكننا لا نبحث عنها لأننا نراها حيثما رأينا شكسبير في عمله، ورأينا أنه عمل عظيم قليل النظر بين أعمال النابهين على غراره.
ولكن العجيبة في هذه السيرة التي لا عجب فيها أنه ولد حين ولد، وأنه رحل من مسقط رأسه حين رحل عنه، وما من عجب في مولد أحد كما يولد سائر الناس ولا في هجرته من مسقط رأسه كما هاجر في زمنه مئات وألوف، ولكننا نعجب لهذا وذاك؛ لأنهما توفيق من الحوادث يستوقف النظر ولو حسبناه في عداد المصادفات؛ لأن المصادفات من هذا القبيل جديرة بالتنبيه والتسجيل.
ولد شكسبير سنة 1564، في الوقت الذي نشأ فيه المسرح الثابت بخانات لندن وأصبح من ملاهي العاصمة التي لا يستغني عنها أبناؤها ومن يرتادون خاناتها من وفود الريف، وعمد أصحاب الفرق التمثيلية إلى إقامة المسارح خارج أسوار المدينة بنجوة من تشريعها حين اشتدت وطأة الرقابة عليها من جانب عمدة العاصمة وزملائه في إدارة مجلسها، ثم غلبت رغبة النظارة من الخاصة والعامة في هذا الفن الجديد فاجتاحت أمامها عناد المجلس وبقايا العرف الموروثة وصلابة المتطهرين في مقاومة كل بدعة تدخل فيما يسمونه بالملاهي أو الألعاب، فأذنت الملكة بإقامة المسارح في المدينة وسوغت أمرها بما اشترطته آنفا من اجتناب المساس بالدين والأخلاق وشؤون الحكم فيما يعرض على مسارح التمثيل من قصة أو غناء، وعادت الأوامر الملكية التي تخطت تشريع المدينة في هذا الصدد؛ فأكدت ما فرضته من قبل من شروط الاستقامة و«حسن السلوك» فيمن يشتغلون بهذه الصناعة، فلا يقبلون في زمرة الممثلين بالمسارح الثابتة إلا بشهادة من نبيل أو وجيه معروف عند ولاة الأمور.
وهاجر شكسبير إلى العاصمة حوالي سنة 1586، بعد ارتفاع الحظر على التمثيل فيها بقليل.
هاجر إلى العاصمة وهو في نحو الثالثة والعشرين من عمره؛ لأنه كان يعول أسرة عجز عن الإنفاق عليها وتدبير معيشتها بوسائله الميسورة له ولأهله في الريف، وكان أهله من الريفيين ذوي اليسار، فأصابت أباه عسرة وهو في الثانية عشرة، وعاش في كفالة أبيه إلى ما بعد زواجه على اضطرار قبيل بلوغه العشرين، فلم يطق أن يضطلع بأعباء أسرته بعد أن تزوج وولد له الأبناء، وأوشك أن يطالب بالمشاركة في معونة أبيه.
ترى هل كان يهجر الريف إلى المدينة لو دامت لأسرته النعمة التي توارثتها من أسلافها؟
ترى هل كان يخطر له أن يشتغل بالتمثيل لو بقي التمثيل كما كان قبل مولده صناعة من صناعات الأفاقين والجوالين الذين حشرهم العرف والقانون في طغمة اللصوص والطرداء المنبوذين؟
أغلب الظن أنه كان يطاوع ملكة الشعر، فينظم القصيد كما نظمه أمثاله من الموهوبين، ويبلغ فيه غاية ما بلغه من الإبداع في مقطوعات الأغاني والموشحات أو في أقاصيص الغزل وتراجم الأساطير، وغاية ما بلغه في هذا الفن يسلكه في عداد المئات، أو الألوف، من شعراء الأمم في مختلف اللغات، ولكنه لا يرفعه إلى منزلة الآحاد الذين لا تنطبق على عدهم أصابع اليدين، كما ارتفع - بموازين النقد جميعا - في فن الرواية المسرحية: فن الخلق والإبداع في تصوير النفوس وتصوير العلاقات بينها على السواء.
صفحة غير معروفة
أما أن يلحق بالفرق الجزالة ويوطن النفس على عيشة كعيشة الطرداء والشذاذ فليس بالمستحيل ولكنه بعيد، وأبعد منه أن يرتقي في صناعة المسرح الجوال إلى مكان يحتفل به تاريخ الآداب.
إن القائلين: «إن السبب يبطل العجب.» يقولون صوابا إذا أرادوا بمقالتهم أن عرفان السبب يريح من حيرة الأعجوبة التي تبده الذهن بما يذهله ويخالف مألوفه.
ولكنهم لا يقولون صوابا إذا وقع في ظنهم أن الأعاجيب بغير أسباب، فإن أعجب الأعاجيب له سببه كهذه الحوادث التي تشيع بيننا كل يوم وكل ساعة فيما نسمعه أو نراه.
وليس بطلان الحيرة وبطلان العجب بسواء، فإن الحيرة قد تبطل في أمر نعرفه وننفذ إلى سره أو نحسب أننا قادرون على النفاذ إليه، ويظل الأمر بعد ذلك عجبا نادرا كأندر ما تكون الأعاجيب.
فربما كان شكسبير قد أحس في صباه قدرة على النظم وراقه بعض ما اطلع عليه من مناظر التمثيل في المدرسة أو في أحاديث قرائها من أبناء قريته، وفيها من قراء اللاتينية غير قليل.
وربما استمع إلى أحاديث أبناء القرية العائدين من العاصمة يتندرون بفتنة لندن وفتنة هذا الفن الجديد الذي يناهض سلطان مجلسها ويقهره على قبول ما يأباه في عقر داره؛ فلا يملك أن يشوقه فن العاصمة الفاتن من بعيد، وإن فتنته للمستعدين لأقوى سحرا وأعمق أثرا من فتنته لمن يأنسون به ولا يزيدون على النظر إليه.
ولكنه كان ينبغي أن يولد حين ولد، وأن تدركه العسرة حين أدركته وأن يهجر وطنه حين اضطر إلى الهجرة، لينبغ في العمل الوحيد الذي كان نبوغه فيه أعجوبة الأعاجيب.
وهذه العبقرية على عظمتها إحدى عبقريات لا تحصى نعلم منها أن هذه الهبة العالية قد يوافقها زمان دون زمان، وقد تصلح لها حالة دون حالة، ولكنها تعم البيئات جميعا في الريف والحضر، وفي الرخاء أو الشدة، وفي شواغل العلم أو العمل. •••
كان مولد شكسبير في ولاية وارويك بقرية ستراتفورد على أصغر الأنهار التي تعرف باسم «أڨون»، وهي كلمة قلتية تقابل كلمة «نهير» باللغة الإنجليزية.
واسم شكسبير قديم في الولاية يتركب من كلمتين بمعنى: هزاز الرمح، ولعله كان في أصل التسمية لقبا مقصودا بهذا المعنى؛ لأن بحوث العلامة شيمبرز انتهت إلى رجل كان يسمى وليام شكسبير - كاسم الشاعر - قضي عليه بالموت في سنة 1248؛ لأنه كان يسطو على الأطراف يوم كان غزو الولايات والخروج على أمرائها آية من آيات النخوة والمخاطرة، وليس في الأسانيد التاريخية ما يدل على صلة بين وليام شكسبير هذا ووليام شكسبير الشاعر.
صفحة غير معروفة
أما أقدم المعروفين باسم شكسبير من المتصلين بنسب الشاعر فهو جده ريتشارد شكسبير المتوفى سنة 1561 قبل مولد حفيده بثلاث سنوات، وكان يزرع الأرض ويستأجرها ويرعى الماشية كما يؤخذ من حكم محفوظ بتغريمه اثني عشر بنسا لتسريحه في مراعي القرية قطيعا يزيد على مائة رأس في الرعية الواحدة.
وقد استقصى الباحثون في سيرة الشاعر تراجم ثلاثة يدعون باسم جون شكسبير بين منتصف القرن ونهايته، وهم غير جون ريتشارد أبيه الذي تكرر ذكره في سجلات القرية، وكان يختار له توقيعا يشبه رسم القفاز لأنه يجهل الكتابة، وقد التبس الأمر على بعض الذين تصدوا لترجمته بعد اشتهار ولده فذكروا مرة أنه كان يحترف الجزارة ومرة أخرى أنه كان يحترف الدباغة، وربما اشتغل بذبح الماشية ودبغ الجلود لاستخدامها في صناعة القفازات التي جعلها في توقيعه شارة صناعته، ومن جراء هذا التوسع في أعماله تعرض للحكم عليه بغرامة «اثني عشر بنسا»؛ لأنه ترك القمامة في الطريق، وهو إهمال لا يسلم منه من يحتاج في عمله إلى رعي الماشية وذبحها ودبغ جلودها، وله في هذه المخالفة شركاء مذكورون في سجلات القرية.
وليس لترجمة جون شكسبير مصادر يوثق بها غير التوقيعات والعقود المحفوظة في تلك السجلات، ومنها يعلم أنه ظل على حالة محمودة من اليسر والكفاية بعد وفاة أبيه، فاشترى في سنة 1556 بيتين من بيوت القرية الحسنة، وتزوج في السنة التي تليها بماري آردن بنت روبرت آردن صاحب الأرض التي كان يستأجرها ريتشارد شكسبير ويعيش من غلتها ومن رعي الماشية وبيعها، وهي فتاة متعلمة تنتمي إلى أسرة عريقة أغنى من أسرة زوجها؛ إذ كان أبوها يملك البيوت والأرض ويخص ماري وحدها بعد وفاته بستين فدانا غير بعض الحصص الموزعة في ميراث الأرض والمال، ولا شك أنه آثرها بأفضل الحصص بين أخواتها الثمان، إما لأنها كانت أصغرهن أو لأنه كان يأنس فيها النجابة والتفوق في الذكاء والمودة على أخواتها.
وولدت ماري لجون شكسبير طفلتهما حنة (1558) التي ماتت في طفولتها، ثم طفلة أخرى سمياها مرجريت (1562) ماتت بعد خمسة أشهر، ثم ولدت أول أبنائها وليام (23 أبريل سنة 1564)، ورزقا بعده بثلاثة أبناء هم: جلبرت، وريتشارد، وإدموند. وبنتين هما: حنة، وآن. وتوفيت ماري سنة 1608 بعد وفاة زوجها جون بست سنوات.
وكانت حالة جون قد اطردت في التقدم والرخاء بعد زواجه إلى سنة 1575 حين اشترى منزلين آخرين غير منازله التي كانت له قبل الزواج، ثم تقلبت به صروف التجارة والصناعة في أيام التحول الاقتصادي الذي طرأ في البلاد الإنجليزية على تجارة الداخل والخارج ونظام التصدير والاستيراد وتداول المراكز التجارية بين القرى والحواضر ومدن السواحل، فطاحت الأزمة بعتاده وعتاد زوجته وأثقلت كاهله بالمتاعب والهموم حتى شغلته عن وظائفه العامة في القرية، وكان قد تولى منها عدة وظائف هامة كأمانة الخزانة ووكالة الدعاوى ورئاسة المشايخ فاعتزلها أو عزل منها، وعين مجلس القرية بديلا له لانقطاعه عن جلساته.
ويجهل التاريخ تفصيلات هذه المحنة لأنها لم ترد في سجلات القرية المحفوظة، إلا ما كان من خبر هنا وخبر هناك عن القضايا التي رفعت عليه والديون التي طولب بها والعقود التي دونت فيها الرهون أو الإجارات، ولكن الخطأ في محنته إنما كان من أخطاء الضرورة التي أوقعه فيها التوسع في أعماله بين صناعة القفازات وزراعة الأرض وتجارة المبيعات من محصول الزراعة والصناعة ومباشرة الوظائف المتعددة في مجلس القرية، وغير ذلك من متاعب البيت ومطالب البنين والبنات، ولم يثبت في تاريخه المسجل ما يدينه بسيئة من سيئات الخلق أو سيئات الخطل العيب.
ويظهر من أسماء ذرية شكسبير أن الأبناء والبنات من هذه الذرية كانوا يسمون بأسماء أقربائهم وقريباتهم من العمومة والخؤولة، وأنهم كانوا يقيمون في قراهم ولا يطلبون الاغتراب عنها، وأن إخوة شكسبير الذكور لم يعمروا ولم يخلفوه؛ إذ مات جلبرت في السادسة والأربعين ومات إدموند في السابعة والعشرين ومات ريتشارد في التاسعة والثلاثين، ولم يشتغل منهم غير واحد بصناعة التمثيل وهو أصغرهم إدموند الذي ولد سنة 1580 وتوفي سنة 1607.
وقد توفيت البنات صغيرات، فماتت حنة الأولى وأختها مرجريت في سن الرضاع، وماتت آن أصغرهن في الثامنة من عمرها، ولم تبلغ منهن سن الشيخوخة غير حنة الثانية التي سميت على اسم أختها المتوفاة، فإنها ولدت سنة 1569 وتوفيت سنة 1646. •••
في هذه الأسرة الريفية نشأ وليام شكسبير بن جون بن ريتشارد شكسبير، ويخيل إلينا الآن أنه يحل منها في مكان ناشز غير معد لأمثاله؛ لأنها في جميع سماتها وعاداتها تطرد على شاكلة الأسر الريفية التي تتطلع إلى الستر أو الوجاهة ولا تطمح إلى مكان في العالم فوق ذلك أو وراء ذلك، ثم يصعد من بينها هذا الاسم الذي لا يدانيه في آفاق الشهرة الإنسانية غير آحاد معدودين، فليس في أبناء الأسر المالكة ولا في أبناء العروش الإمبراطورية من اشتهروا مثل شهرته وعني الناس بأقوالهم وأخبارهم عنايتهم بأقواله وأخباره، وإذا استثنينا الرسل والأنبياء من أصحاب الأديان الكبرى فليس في أصحاب الأقلام منذ كتب الإنسان بالقلم عشرة يعدون معه في الصف الأول الذي تقدم إليه بين الصفوف العباقرة العالميين. لا جرم يتخيل المتخيل حين ينتقل من سيرة ذويه إلى سيرته أنه ينتقل من جو إلى جو ومن عالم إلى عالم، وأن هذه الشهرة الضافية نشوز في تلك الرقعة الضيقة من تلك القرية المنزوية في بعض الطريق.
لكن الواقع أن وليام شكسبير - قبل اشتهاره وبعد اشتهاره - هو ابن تلك الأسرة في الصميم، وهو سليلها الذي نعرفه ونعرفها فلا ندري كيف ينشأ في غيرها، وهو بتلك الخلائق وتلك المشارب وتلك السيرة من المولد إلى الممات.
صفحة غير معروفة
وما من علم من أعلام التاريخ يغنينا العلم به عن العلم بكل صغيرة وكبيرة من شئون أسرته إذا استطعنا النفاذ إلى بواطنها وأسرارها؛ لأننا نفهمه كلما فهمنا كيف نشأ ومن أين أتى وماذا أخذ وماذا ترك من طبائع وسمات تظهر في قومه أو لا تظهر، ولكننا أحوج ما نكون إلى العلم بتاريخ الأسرة في هذا المقام؛ لأن القليل الذي علمناه منه يفسر لنا الكثير مما يحسبه المترجمون ألغازا في حياة الشاعر والفنان، ولو ازددنا علما بتاريخه في قريته وفي بيته لما بقي في سيرته ما يحسب في عداد الألغاز.
ولد وليام في الثالث والعشرين من شهر أبريل سنة 1564، وعمد في السادس والعشرين من ذلك الشهر في كنيسة القرية، فكتب اسمه في دفاترها كما يكتب بالصيغة اللاتينية، وتولى تعميده فيها القس برتشجيردل
Bretchgirdle
المشهور بحماسته للدعوة البروتستانتية، وكان قس الكنيسة يوم كان جون شكسبير من أمناء مجلسها.
ولا يعرف - على التحقيق - شيء عن تعليم وليام قبل سن التلمذة في مدرسة القرية، فربما تعلم مبادئ الهجاء والمطالعة في البيت قبل الثامنة من عمره: تعلمها من أمه إذا صح أنها كانت على معرفة حسنة بالكتابة كغيرها من بنات أغنياء الريف، أو تعلمها من مدرس يزورهم بين زوار أبيه، وكان يومئذ من وجوه القرية المقصودين.
وحانت سن القبول في مدرسة القرية فدخلها وانتظم في فصولها نحو خمس سنوات، وقد كان لهذه المدرسة نظار من خريجي جامعة أكسفورد يذكرون بأسمائهم في سجلات المجلس والكنيسة، وكان برنامج الدراسة في هذه المدارس التي اشتهرت باسم مدارس الأجرومية الحرة متفقا على دروس مقررة في أنحاء البلاد الإنجليزية، يتلقى التلاميذ بعد مبادئ القراءة والحساب طرفا من اللغة اللاتينية، ويقرؤون فيها حكايات إيسوب ومختارات من شيشرون وفرجيل وهوراس وأوفيد، ويمثلون بعض مناظر بلوتس وسينكا ويستظهرون نبذا من كتابات البلغاء في القرون الوسطى، ولا يدرسون من الإغريقية إلا ما يمكنهم من مراجعة الآيات في الكتب الدينية.
وحلت الضائقة بوالد وليام وهو في نحو الثانية عشرة، فترك المدرسة في هذه السن أو بعدها بقليل، وعكف على مساعدة أبيه في صناعته وتجارته ورعي ماشيته، وهي أعمال يستفيد منها الصبي الناشئ خبرة بالناس وبالطبيعة قلما تتيسر له في كتبه المدرسية.
وفي الثامنة عشرة تزوج ب «آن» كبرى بنات أبيها من أسرة هاثواي الريفية، وكانت تكبره بثماني سنوات؛ لأنها توفيت سنة 1623 وهي في السابعة والستين، فكان مولدها بين سنة 1555 وسنة 1556، ويفهم من صيغة وثيقة الزواج أنه تم بعد تردد من الأسقف المنوط به تدوين هذه العقود؛ فإن الوثيقة كتبت في السابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1582، وفي الثامن والعشرين منه كتبت وثيقة أخرى يشهد فيها رجلان من مقدمي الفلاحين أنهما مسئولان عن كل طعن في الوثيقة يعرض الأسقف لتبعة المخالفة لحكم القانون.
ويظهر بعد ذلك من تاريخ ولادة البنت الكبرى «سوسن» وليام شكسبير أن أسقف التعميد داخلته الشبهة لسبب لا يخفى؛ فإن الطفلة عمدت في السادس والعشرين من شهر مايو من السنة التالية - أي بعد ستة أشهر من تاريخ وثيقة الزواج - ووجب الاعتراف بهذه الشبهة التي بادرت الأسرتان إلى الاتفاق على تصحيحها؛ إثباتا للعلاقة الشرعية دون مساس بصحة التسجيلات في تاريخ الزواج أو تاريخ الولادة. •••
وبعد ولادة سوسن بسنتين (في الثاني من شهر فبراير سنة 1585) ولد له توأمان - ذكر وأنثى - سمي الذكر هامنت والأنثى جوديث، وأصبح لزاما عليه أن يبحث عن مورد للرزق غير مورده النزر المضطرب الذي يأتيه من معونة أبيه في متجره ومصنعه، وكانت الضائقة التي حلت بأسرته تستحكم وتتأزم ولا تؤذن بانفراج قريب، ففي السنة التي ولد فيها هذان التوأمان اضطر أبوه إلى التخلف عن أعماله بمجلس القرية ودواوينها؛ فخسر وظائفه في الحكومة كما خسر ثروته في التجارة والصناعة، وأصبح لزاما على وليام أكبر أبنائه ورب الأسرة الوحيد بينهم أن يستقل بعمل يكفيه أو يهجر القرية ليعول نفسه وأهله ما استطاع.
صفحة غير معروفة
ومرت من أواخر هذه السنة إلى سنة 1591 فترة فراغ في ترجمة وليام لم يسمع فيها خبر عنه في القرية ولا في لندن؛ حيث يغلب على الظن أنه أقام في هجرته الأولى، وكثرت الأقاويل عن هذه الفترة على غير هدى لملء هذا الفراغ.
ولإيضاح الغوامض والشبهات التي أثارتها بحوث النقاد وشكوك المعترضين والمعجبين معا بعد استفاضة ذكره وتشعب الآراء في نسبة أعماله إليه أو إلى غيره.
ويذهب الأكثرون من أصحاب الأقاويل المختلفة في ملء فراغ هذه السنوات مذاهب من الظن أو التخمين لا سند لها من الوقائع ولا من الشهادات المسلمة أو الوثائق المتفق عليها، وإنما يأخذون فيها بالقرينة والاحتمال القريب قياسا على المعهود من أحوال العصر أو أحوال المترجم وأمثاله، وبعضها رجم بالظن لا يرجع إلى شهادة عيان ولا إلى شهادة سماع مقبول، وقد تكون القرينة في نفيه أقوى من القرينة في ترجيحه.
فمن قائل إنه هجر القرية هربا من القصاص الذي أنذره به أحد النبلاء في الإقليم - سير توماس لوسي - لأنه علم أن وليام يطارد الصيد خلسة في أرضه بجوار ستراتفورد، ومن قائل إنه هرب من القرية على غير علم من أهله ليلحق بفرقة من فرق التمثيل الجوالة في الريف، ومن قائل إنه خرج من الجزيرة البريطانية كلها في رحلة من رحلات البعوث العسكرية التي كانت تتردد ذهابا وجيئة بين إنجلترا وشواطئ أوروبة الغربية، ويعتقد صاحب كتاب «شكسبير الحق» أنه لم يقصد إلى لندن عندما هجر قريته على أثر مولد طفليه، بل قصد توا إلى بليموث وركب البحر منها إلى بلاد المشرق بعد زيارة البلاد الإيطالية؛ لأن أوصافه لهذه البلاد أحجى أن تكون أوصاف خبرة عيان.
1
ويعتقد صاحب كتاب «شكسبير بين الصدق والرواية» أنه كان يختلف إلى جامعة أكسفورد قبل زواجه بسنوات، وأنه لم ينقطع عنها إلا بعد عقد الزواج وإلحاح الحاجة عليه بالتماس وجوه العمل لتدبير نفقات البيت، وأنه عمل بمدرسة القرية في هذه الفترة كما جاء في بعض أنبائه، ولا يتشكك صاحب هذه الرواية في احتمالها لخلو دفاتر القيد بالجامعة والمدرسة من اسم شكسبير؛ إذ كانت هذه الدفاتر خلوا من بعض الأعلام الذين حضروا دروس الجامعة باتفاق المؤرخين وأشهر هؤلاء الأعلام «أوليفر كرمويل» زعيم الثورة بعد جيل شكسبير.
2
ويتساوى ملء الفراغ بهذه الأقاويل وترك الفراغ لمن يشاء أن يملأه بأمثالها من التخمينات التي لا تقطع فيها الحجة بنقض ولا بتوكيد.
قال الشاعر الناقد جون ماسفيلد في كتابه عن شكسبير بعد الإلمام بطائفة من هذه الأقاويل: «كل هذا ليس بالبينة ولا بالرواية ولكنه تخمين جامح، وقد يقال مثله إنه ارتقى عرشا أو صار من قدماء الرومان أو عمل في صناعة النسيج أو افتتح حانة شراب، ولا فرق في السند بين ما قيل وما يقال على هذا المثال.» •••
هذه قيمة التخمينات والفروض التي تواترت في أقوال الشراح والنقاد لملء فراغ هذه السنوات في ميزان ناقد ملهم معجب أيما إعجاب بالشاعر الكبير، وليس في كلامه عن تلك الفروض مبالغة في جوهر الحقيقة، إلا أن تكون مبالغة السخرية والتعميم، يستدركها من شاء بالتفرقة بين الفروض التي تركن إلى سند من الواقع وصدق الظن والفروض التي لا تركن إلى شيء غير الوهم وخبط عشواء.
صفحة غير معروفة
وبعد هذه الفترة من الفراغ في سيرة وليام نسمع به في سنة 1591، ونعلم أن هذه السنة كانت نهاية السنوات العجاف في حياته، وأنه قد انتظم في صناعة التمثيل والتأليف، وعمل في أكبر الفرق التمثيلية وهي فرقة الإيرل أڤ لسيستر التي من أجلها أباحت الملكة اليصابات إقامة المسارح في العاصمة.
وهنا محل لاستقصاء فرض من الفروض التي ذهب إليها مؤرخوه ليملأوا به فراغ السيرة في السنوات الخالية، ولكنه فرض له سند من الواقع والاحتمال جدير بالالتفات إليه من طرفيه.
فمن المحقق أن وليام لم يشتغل بالتمثيل في تلك الفرقة إلا بعد تمهيد طريقه إلى قصر آل لسيستر للظفر بالشهادة التي لا غنى عنها لمن يريد أن يشتغل بالتمثيل ولا يحسب - في رأي الشرطة - من طغمة الشذاذ والأفاقين.
ومن المحقق أن «لسيستر» غادر لندن على رأس بعثة عسكرية إلى الأرض الواطئة لمؤازرة الهولنديين في حربهم للدولة الإسبانية، وكانت مغادرته للعاصمة في سنة 1585 التي انقطعت فيها أخبار وليام من القرية ومن العاصمة ومن كل مكان في الجزيرة البريطانية.
ومن المحقق أن لسيستر قد استدعى للسفر في حاشيته الممثل الهزلي كمبس
Kemps
الذي كان نديمه المختار من رجال فرقته وكان في قصره بمثابة «المضحك» الخاص في قصور الملوك الأقدمين، ولا يبعد أن يكون قد صاحبه في تلك البعثة أيضا خمسة من ممثليه الذين زاملهم شكسبير بعد ذلك في الفرقة التمثيلية؛ لأن هؤلاء الممثلين الخمسة - وبينهم أشهرهم جورج بريان - كانوا يستدعون للتمثيل في القصور الملكية بين سنتي 1586، 1587 ويقيمون الحفلات في بلاط الدانمرك وبلاط سكسونية، كما جاء في أخبار دعوات البلاط بالمملكتين.
ويلاحظ أن «كمبس» الذي لا شك في سفره مع لسيستر في بعثته إلى هولندة كان مقيدا في هذه البعثة باسم دون جولهلم
Gulihelmo
ولم يقيد باسمه المشهور بين رواد المسرح؛ فلا يبعد أن يكون وليام وزملاؤه - في المستقبل - قد دخلوا هذه البعثة بأسماء غير أسمائهم المتداولة في غير السجلات العسكرية، وأنه مهد طريقه إلى صحبة لسيستر أثناء غيابه عن البلاد الإنجليزية؛ لأن التعرف إلى هذا القائد النبيل صاحب المقام الأول والحظوة الأثيرة في البلاط لا يتم بعد عودته من القارة في وقت قصير.
صفحة غير معروفة
والمعروف من سيرة وليام بعد سنة (1591) قليل بالقياس إلى أخبار نظرائه وإن لم يكن أقل من أخبار معاصريه، ولكن هذا القليل كاف للعلم بنجاحه وارتفاع شأنه، وانصراف همته إلى تعزيز مكانته في المجتمع ورد المفقود من تراث أهله في قريته، فحصل على حلة من حلل التشريف «الرسمية» تخوله التلقب بلقب السيد أو الجنتلمان، وسجل أداء الرسوم لهذه الحلة في شهر أكتوبر سنة (1596)، وشارك في مسارح العاصمة مع انتمائه إلى فرقة لسيستر إلى آخر أيامه في التمثيل، وحاول جهده أن يستعيد حصص الأرض التي ضاعت من أسرته بالرهن أو البيع، واستعاد منها ما ارتضى مالكوها أن يبيعوه، واقتنى البيوت والأكواخ لسكنه وسكن أقربائه، واشترى في سنة 1602 مائة وسبعة وعشرين فدانا في ستراتفورد القديمة، ثم عاد إلى مسقط رأسه ليقيم فيه سنة 1611، وبقي ثمة إلى أن أدركته الوفاة سنة 1616 في الثانية والخمسين من عمره، لا يفارق بلدته إلا لينظر في بعض أعماله بالعاصمة، ثم يكر إليها راجعا متزودا له ولأقربائه فيها بما تتطلبه حياة المستورين من أهل الريف.
وفي أوائل سنة 1616 أحس الشاعر بدنو أجله؛ فكتب وصيته في شهر يناير من تلك السنة ونقحها في الخامس والعشرين من شهر مارس قبل وفاته بأقل من شهر، وأوصى فيها بحصص مقدرة من المال والأرض والعقار وبقايا الأثاث والعتاد لزوجته ومن بقي من ذريته بقيد الحياة، وهن: سوسن بنته الكبرى، وجوديث بنته الصغرى، وحفيدته اليصابات. لأن ابنه الوحيد «هامنت» كان قد مات صغيرا سنة 1596 في الحادية عشرة من عمره؛ وأوصى ببعض الهبات والهدايا لفقراء القرية ولأفراد من مساعديه وصحبه، ولم يذكر شيئا في الوصية عن حصصه في المسرحين اللذين كان شريكا فيهما إلى ما بعد سفره من لندن، كأنه كان قد باع ما يملكه في غير قريته حين شعر باقتراب أجله.
ومات في الثالث والعشرين من شهر أبريل، أي في نفس اليوم الذي ولد فيه، وأعد قبيل وفاته أسطرا من الشعر أوصى بكتابتها على ضريحه في مقبرة الكنيسة، فحواها التذكير بحرمة العظام المطوية في رجامها، ودعاء بالبركة لمن يرعاها وباللعنة لمن يحركها من مكانها.
وقد كتبت الأسطر المنظومة بلغة ساذجة تشبه لغة العامة، واستدل بعض المتأخرين بهذه السذاجة على أن الأسطر المنظومة وأشعار الروايات والدواوين لم يكتبا بقلم واحد، ولكن الأسطر - ولا شك - كانت مكتوبة باللغة الشائعة في القبريات التي تعودها أبناء الريف، ولم يكن من السائغ أن تكتب بالأسلوب الفخم الذي يتخيره الشعراء لمنظوماتهم الأديبة.
ونسي أناس آخرون من الشراح والمعقبين زمان الشاعر ومكانه في موطنه، فوهموا أنه كتب تلك القبرية لأنه توقع أن تحتفي الأمة بذكراه وتنقل رفاته إلى المكان الذي جعلوه بعد ذلك مثوى للعلية من النوابغ والعظماء في كنيسة وستمنستر، ولكن القبرية تفهم على وجهها الصحيح من حيث الأسلوب والمعنى إذا فهمت على أنها «وصية محلية» يقرأها أبناء تلك الجيرة ممن يطيفون بالمقبرة ويباشرون دفن موتاهم بين جدرانها، وقد زار ستراتفورد قبل نهاية القرن السابع عشر (1694) أديب من خريجي أكسفورد يسمى وليام هول، فقال في رسالة كتبها إلى صديق: «إنني ذهبت في اليوم التالي لزيارة رفات شكسبير العظيم المدفون في الكنيسة، فقرأت الأسطر التي أمر في حياته بحفرها على شاهد قبره، وفيها من قلة الدلائل على العلم ما قد يبين عن قلته في غيرها لولا أنها تنطوي على شيء يحتاج إلى تعقيب، فإن في الكنيسة موضعا يطلقون عليه اسم (منزل العظام) ويودعونه بقايا العظام المستخرجة من حفائر المقبرة، وهي من الكثرة بحيث تملأ المركبات الكثيرة، وقد أراد الشاعر أن تترك عظامه آمنة في مثواها؛ فلعن من ينبش عنها ترابها، ووجه الخطاب إلى عمال الكنيسة وخدمتها، وهم على الأغلب الأعم شرذمة من أجهل الناس ...» •••
وليست هذه الصفحة الأخيرة بالصفحة الوحيدة التي نفهمها حق فهمها حين نفهم وليام شكسبير في قريته وبين آله وعشيرته؛ فإن السيرة كلها صفحات لا نفهم سطورها ولا ما بين سطورها بمعزل عن بيئة القرية وما احتوته من بيئة الأسرة بين جوانبها.
فينبغي أن نحضر في أخلادنا أن وليام شكسبير - في أخلاقه وعاداته - وريث أسرة ريفية حريصة جد الحرص على السمت والسمعة وكرامة الجاه على سنة أهل الريف في عصره، وأنه كان بين إخوته سليل جيل قصير الأعمار يندر بين رجاله خاصة من كان يناهز سن الشيخوخة أو يقارب الستين.
ويغنينا إحضار هذه الصفة في أخلادنا عن أسئلة كثيرة سألها المترجمون والشراح، ونظروا فيها إلى سيرته العالمية دون أن يرجعوا بها إلى سيرته في أسرته وقريته؛ فضلوا عن جوابها في متاهة الظنون، وإن جوابها لعلى منال اليد منهم لو التفتوا إليه.
لماذا هاجر من قريته؟ ولماذا توارى عن الأعين والأسماع ست سنوات أو سبعا بعد هذه الهجرة؟ لماذا كف عن الكتابة بعد الأربعين بقليل؟ لماذا ترك لندن وانزوى في قريته ولما يجاوز الخامسة والأربعين؟ من أين جاءه العلم بمراسم الشريعة وإجراءات الدعاوى ومصطلحات المحاكم والقضاة؟ ومن أين جاءه العلم برياضة الصيد وطبائع الحيوان؟
أسئلة لا يسألها من عرفه متصلا بمسقط رأسه مشاركا لآله وعشيرته في عاداته وشمائله ومعايير السمعة والشرف في نظره.
صفحة غير معروفة
فهجرته من قريته في الموعد الذي هاجر فيه بعد أن عال وثقلت نفقته على أهله وثقلت نفقتهم عليه، وولد له في سنة الهجرة توأمان، وأبوه يخسر جاه الوظيفة وجاه التجارة في تلك السنة ولا يحسن بابنه الشاب في نحو العشرين أن يبقى كلا عليه، وباب الهجرة مفتوح على مصراعيه أمام شبان القرى والعواصم مع بعوث السلم والحرب في المشرق والمغرب.
وكما هجر قريته يوم اضطر إلى الهجرة عاد إلى الظهور يوم استطاع أن يظهر بعمل مرضي موفور الكرامة لا يخجله أن ينتسب إليه إذا استعان بمورده منه على معونة أهله.
ولقد كف عن الكتابة قبل الخامسة والأربعين، فكان قعوده عن عمله الناجح من غرائب سيرته التي لا بد لها من تأويل لا يستغربونه كما يستغرب من المؤلف الناجح هذا القعود في عنفوان قواه، فلماذا لا يكون هذا التأويل أنه لم يكتب ولم يقعد عن الكتابة، وإنما كتبت له الروايات والقصائد ومات كاتبها المزعوم فانقطع في وسط الطريق.
ولكن الخامسة والأربعين، أو نحوها، ليست بمنتصف الطريق عند من يبلغ أمده في الثانية والخمسين، وليس المضي في الكتابة بالعمل الميسر لمن يشرف على مسرحه ويشرف معه على مسرحين كبيرين له فيهما حصة الشريك وحصة الخبير بشئون التمثيل والإخراج، وقد تشغله من قبل أسرته وعشيرته أعمال تتجدد وتتكاثر عاما بعد عام، على قلة المعين وشدة العناية بمن يعولهم هنالك من صغار أو كبار.
ونجاح المؤلف في كتابة الروايات لا يعني أنه يملك باختياره أن يمضي في كتابتها إلى غير انتهاء، فربما كان الانتهاء إلى القمة غاية شوط النجاح، وربما كان المؤلف قد استنفد حاجته وحاجة عصره إلى هذا النمط من الروايات كما ظهر من هبوط منزلة المسرح بعد عهد الملكة اليصابات بقليل.
وقد أقام الشاعر في لندن ما أقام فلا نخال أن مقامه بها زهده في معيشة الاستقرار والسكينة بين أحضان الطبيعة؛ إذ كانت لندن في أوائل القرن السابع عشر تستهل عهد العظمة والصولة ولكنها كانت أبعد شيء عن الطمأنينة والدعة، وكانت تجتذب إليها طلاب المغامرة والمخاطرة وتضطرب بلواعج النزاع على مذاهب الدين ومذاهب الفكر ومآرب السياسة بين بيوت الملك وأشياع المتألبين لها من أصحاب الدولة الدائلة أو أصحاب السلطان القائم، وقد رأى شكسبير فيها مصارع خمسة أو ستة من أصدقائه النبلاء والمتأدبين، طاحت رؤوسهم أو نكبوا في مناصبهم وأموالهم، ولم يسلم صاحبه لسيستر من بينهم بعد الحكم عليه بالموت إلا لما صادفه من الحظ والحظوة في أعين الملكة التي كانت تدنيه وتقصيه على حكم الدسيسة والفتنة، ولم يسلم صديقه الشاعر مارلو من الاتهام بالكفر ولا من الاغتيال المريب مع اتصاله الخفي بعيون الدولة وجواسيسها، وليس من شأن هذه الحياة القلقة أن تصرف رجلا في مزاج شكسبير عن الحنين إلى قريته ومآلف صباه، بل لعلها عجلت بعزيمة العودة إليها وجعلت هذه الراحة أمنية من أماني النجاح في عمله، وقد يحن مثله إلى اللياذ بأحضان الطبيعة ولو لم تربطه بها مآلف الصبا وأواصر الجيرة والقرابة.
وقد تقدم أن المتشككين حسبوا من غرائب هذا القروي الذي خرج من مدارس الريف قبل أن يكمل تعليمه فيها أنه يعرف من مراسم القضاء ومصطلحات المحاكم ما تحتويه الروايات المنسوبة إليه، ولكن هذه النشأة القروية - نشأة شكسبير خاصة - أحجى أن تمنع العجب وإن كانت لا تمنع الإعجاب، فإنه نشأ في بيت يكثر فيه الكلام عن القضايا والدعاوى ويعمل أبوه في مجالسها ومنتدياتها، وما لم يعرفه من وظيفة المجلس فهو خليق أن يعرفه من عقود الصفقات والمعاملات التي سيق إليها في حالتي رواجه وكساده، وخليق بابنه الأكبر أن يزداد علما بأحاديث القضايا والذرائع القانونية بعد هجرته من القرية إلى عاصمة المملكة في عصر المحاكمات والتهم والوشايات، وهي من ضروب الأحاديث التي تطول جرائرها إلى زمن بعيد، ولا تخلو حواشي النبلاء وحلقات الأدب والفن من اللغط بها والتشدق بعباراتها وادعاء العلم بخفاياها والتشيع لهذا أو ذاك من المدعين أو المدينين فيها.
أما العلم برياضة الصيد فلا يستغرب من القروي المقيم في الريف، ولا سيما الريف الذي ولد فيه الشاعر واشتغل فيه بتربية الحيوان ورعايته على مقربة من مروج الصيد المشهورة في الأقاليم الإنجليزية، ومن عادة المشاهدين للصيد أن يشهدوه في الخلاء وعند أرباض المدن ولا يشهدوه حيث يقيم النبلاء في عمائرهم وقصورهم، ومنها ما لم يكن محجوبا عن شكسبير أيام انتمائه إلى رعاة المسرح من أولئك النبلاء.
ولنسأل ما شئنا أن نسأل عن غرائب هذه العبقرية العالمية فإننا لا نهتدي إلى جواب سؤال منها إذا ابتعدنا بها عن قريته وأسرته، ولعلنا حين نقترب بها من القرية والأسرة لا نحتاج إلى سؤال.
الرجل
صفحة غير معروفة
ليس لشكسبير صورة مرسومة في أيام حياته، وكل ما يرى اليوم من الصور والتماثيل التي تختلف فيها الملامح والأوضاع فهو نسخ منقولة من تمثاله النصفي على ضريحه أو من صورة صنعت له بعد موته بسنوات، وهي صورة دروشوت
Droeshout
التي ظهرت في الطبعة الأولى من مجموعة رواياته وقصائده.
وصانع هذه الصورة مارتن دروشوت (1601-1650) مهندس فلمنكي نزل بلندن مع أبويه ولم تكن سنه تزيد على خمس عشرة سنة حين مات شكسبير في سنة 1616، ومضت ست سنوات بعد موته حين صنع الصورة في أواخر سنة 1622 قبيل ظهور الطبعة الأولى من المجموعة.
والمفهوم أنه استعان في استحضار ملامح الصورة برسم تخطيطي تممه بما وعته ذاكرته وراجعه فيه زملاء الشاعر وعارفوه، وجاءت الصورة على ما يظهر مطابقة لقسمات الوجه وتركيب الجسم غاية المستطاع؛ لأن بن جونسون الشاعر - أعرف الناس بشكسبير - كان يرتضيها ويلمح فيها صفات صاحبه وزميله، وقد كتب تحتها أسطرا منظومة قال فيها يخاطب القارئ: «إن هذا الرسم الماثل أمامك يحكي فيه الرسام صورة شكسبير الرضي الوديع، وإنه ليجتهد اجتهاده أن يباري الطبيعة في صنيعها، ولكنه لو استطاع أن يرسم ذكاءه كما رسم طلعته لفاقت الصورة الكتاب، فأما وهو غير مستطيع فهاك صورة ذكائه فانظر إليها في حروف هذه الصفحات ...»
وقد حاول الرسام جهده أن يودع صورته لمحات من صفات النفس كما تنم عليها ملامح الوجوه، فوضحت فيها صفات اللطف والوداعة التي قدمها بن جونسون على سائر صفاته، وبدا فيها مع سماحة الطباع شيء من الجنوح إلى العزوف والاحتجاز في غير جهامة، وشيء من الاعتزاز في غير صلف أو مناجزة، كأنها تنبيه خافت يهمس ولا يجهر، ولكنه لا يهمل ولا يأذن للناظر إليه أن ينساه.
ولا بد أن يكون شكسبير رضي الخلق حقا ليذكره بن جونسون بهذه الخصلة قبل سواها من عامة خصاله، فإن بن جونسون لم يكن بالرجل الذي يرضيه ما يرضي غيره من شمائل الطيبة والوداعة، وقد غضب مرة من أحد الممثلين فدعاه إلى المبارزة فقتله وأوشك أن يؤخذ به على أعواد المشنقة لولا سابقة له في الحرب ودالة له على بعض العظماء، وكان يلوم من يحسب إصابته بالمرض خبرا دون أخبار الزلازل وكوارث الطبيعة، وبينه وبين شكسبير منافسة قوية تثيره عليه ولا ترضيه عنه لو لم تكن سجية السماحة والمودة فيه أقوى من دوافع المنافسة والعداء، بل لا بد أن تكون المودة فيه قوة لا تقهر ولا يسهل نكرانها أو إغفالها في معترك الخصومة والمزاحمة بين أهل الفن وأصحاب المسارح ونظراء الأدب والوجاهة في العاصمة والريف، وقد ارتفع في شهرته إلى الذروة التي تغري بالحسد والغيرة في مجاله وفي غير مجاله، ولكنه لم يدع لأحد من منافسيه ذريعة للتجني عليه، ولم يستدرجه أحد قط إلى مقابلة الخصومة بالخصومة ومجاوبة الذم بالذم والوقيعة بالوقيعة، وخرج من حرب الشهرة الزبون بعدو واحد متهم في عداوته وصداقته، هاجمه عند زملائه وبالغ في إغرائهم بتصديق مثالبه وإقناعهم برأي في الرجل مثل رأيه، فلم يكن لحملته صدى غير الإعراض.
ويشاء القدر الساخر أن تبقى هذه الحملة العنيفة بعد ثلاثة قرون ليرجع إليها طلاب الشهادة لفضل الشاعر وكفايته وصدق دعواه، فهي اليوم حجة من الحجج المقنعة التي تقوم عليها سمعة شكسبير وتنتفي بها عنه شبهات الادعاء والانتحال، وتجد من ثمة مكانها في سيرته بين كفتي الثناء والانتقاص، لترجح بها كفة الثناء.
في الفصل الثالث من رواية هنري السادس التي ألفها شكسبير كلمة يتحدث فيها عن قلب نمر في إهاب امرأة، وهذه هي الكلمة التي استعارها روبرت جرين - منافس شكسبير في التأليف المسرحي - ليقول إن قلب النمر إنما هو ذلك القلب الذي يكمن في إهاب ممثل يظن أنه الوحيد الذي «يهز الستار»، ويومئ بذلك إلى اسم شكسبير الذي يتألف - كما تقدم - من كلمتين بمعنى «هزاز الرمح» ... ثم يحذر «جرين» زملاءه الشعراء من هذا الدعي الذي داخله الغرور؛ فخيل إليه أنه ينظم الشعر المرسل كأقدرهم وأبرعهم في صناعة القصيد.
ولم تكن هذه الحملة أولى الحملات التي شنها جرين على الممثلين الذين يرفضون رواياته أو يقبلونها ولا يحفلون بآرائه في تمثيلها وإخراجها وتقدير حقوقها، فإنه أطال الحملة عليهم في جملتهم وأفرد أناسا منهم بأسمائهم، وختم هذه الحملات المتواترة عليهم بحملته الأخيرة قبيل وفاته (1592) على شكسبير.
صفحة غير معروفة