وكان زوجها يحاول إرضاءها عن اختيار الشيخ، يلطف لها حينا ويعنف بها حينا آخر، فلا يبلغ منها شيئا. فلما ارتفع الضحى، أقبلت إلى ابنتها ثائرة تريد أن تنتقل إليها الثورة، عصية تريد أن تحملها على العصيان، ولكنها تحدثت وتحدثت إلى ابنتها، فلم تر فيها ميلا إلى الثورة، ولا استعدادا للعصيان، فلما سألتها مغيظة عن رأيها، قالت «منى» في صوت هادئ مضطرب بعض الشيء: ومتى كان لي في مثل ذلك رأي؟! إنما الرأي لخالد، فأنا مقيمة إن أقام، ومرتحلة إن ارتحل، هنالك تحولت ثورة الأم فجأة إلى حزن عميق، فانحازت إلى زاوية من زوايا الحجرة التي كانت تتحدث فيها إلى ابنتها، وأغرقت في بكاء صامت متصل.
ولو كشف للناس عما كان في قلبها إذ ذاك لرأوا فيه شيئا من خيبة الأمل والاستعداد للإذعان؛ فقد رأت من زوجها إصرارا، ومن ابنتها إيثارا لطاعة الزوج، وماذا تستطيع أن تصنع وحدها أمام هذه القوى التي تكاثرت وتظاهرت لا تريد إلا أن تفرق بينها وبين ابنتها؛ ومتى لقيت من الحياة خيرا؟! أما زوجها فمشغول بشيخه وتجارته، وأما بناتها فلا تكاد إحداهن تتزوج حتى تنسى كل شيء وكل إنسان إلا زوجها وبنيها، وماذا تنكر عليهن وهن لا يزدن على أن يسرن سيرتها! فقد نسيت هي دارها وأمها منذ زفت إلى الحاج مسعود؛ فلم لا تنسى «منى» دارها وأمها منذ زفت إلى خالد، ثم تنجم في قلبها الساذج عاطفة مؤلمة تشبه الغيرة وما هي بالغيرة؛ فهي لم تلد لزوجها إلا بنات، وهؤلاء بناتها يلدن لأزواجهن البنين، فهن أحسن منها حظا، وأعظم منها نصيبا من الخير، وآثر منها عند أزواجهن، ولو أنها ولدت للحاج مسعود غلاما أو غلامين لكانت له معها سيرة غير سيرته هذه، ثم تلوم البائسة نفسها على ما ساورها من سوء الظن بزوجها، وهو الذي لم يقدم إليها إلا خيرا وبرا، وهو الذي لم يفكر في أن يدخل عليها ضرة لعلها تلد له غلاما، بل هو الذي لامها أشد اللوم وعنفها أشد التعنيف وأنذرها بأنه سيشكوها إلى الشيخ حين ألحت عليه منذ سنتين في أن يتخذ زوجا ثانية لعلها تلد غلاما، فما ينبغي أن يئول أمر هذه الدار إلى البنات وأزواجهن من الغرباء، وكانت جادة في هذا الإلحاح، وكانت قد اختارت للحاج مسعود بنفسها فيما بينها وبين نفسها زوجته الثانية، ولكن الحاج مسعود كان جادا في رفضه وجادا في إنذاره بأن يرفع أمرها إلى الشيخ، وقد زاد حبه لها منذ تلك المحنة، واشتد عطفه عليها، حتى لقد كان يصطحبها معه إلى الحج إيثارا لها بالخير وكراهية لفراقها؛ فما ينبغي أن يسوء ظنها به أو يفسد رأيها فيه، وما ينبغي لها إلا أن تطيعه وتذعن لأمره، إنه سيفرق بينها وبين ابنتها؛ فليكن ما يريد، فلولا أن الله قد كتب ذلك لما خطر هذا الخاطر للشيخ، ولما ألح فيه الحاج مسعود، وهل خلق النساء في هذه الحياة إلا لطاعة الأزواج والإذعان للقضاء المكتوب؟!
فلما عرف خالد ذلك تردد ساعة بين الرضا والسخط، ولكنه لم يلبث أن اطمأن إلى الرضا؛ فهو لم يتعود أن يخالف عن أمر الشيخ، وهو مدين بما في حياته كلها من خير وشر للشيخ ولأبيه، فأما الشيخ الكبير فقد زوجه نفيسة وأذاقه ثمرة البؤس، ولكنه خطب به «منى»، وأما الشيخ الشاب فقد زوجه منى وفتح له أبوابا من الخير،
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا .
وهو يقبل مع امرأته على حماته يسليانها ويعزيانها ويترضيانها، حتى تظهر الرضا وفي نفسها إذعان، ولكنه إذعان ساخط مغيظ.
فإذا قص خالد أمره على أخيه وصديقه سليم، قال له هذا ضاحكا: لم تنبئ بأمرك جاهلا! فقد علمت منه مثل ما تعلم، وقد سررت له وحمدته للشيخ وإن كنت لأضمر له حبا عميقا، وأكاد أندم على أني لست من أتباعه وشيعته، فلو قد كنت منهم مثلك لجاز أن يجد لي عملا كالذي وجده لك، يبسط لي في الرزق ويخرجني من هذه المدينة التي أخذت أبغضها أشد البغض وأضيق بأهلها أشد الضيق. قال خالد أتحب أن أكلمه في ذلك؟ قال سليم: لا تفعل! فإني لم أحسن رعاية حقه، ولا أراني قادرا على أن أستأنف معه سيرة جديدة؛ فقد ألحقني أبوه بعملي كما ألحقك بعملك، فوفيت أنت للرجلين، ووفيت أنا للشيخ الكبير وقصرت في ذات الشيخ الصغير، وماذا تريد أن أصنع؟ لقد لاعبته صبيا، وداعبته وخاصمته شابا، فكيف تريدني على أن أرى فيه الآن شيخا له فضل أبيه، أتراني أستطيع أن أدين لك بمثل ما تدين به للشيخ، وإنما نحن أتراب، لعبنا معا، ونشأنا معا، ثم افترقت بنا طرق الحياة، فأصبح هو شيخ طريق، وأصبحت أنا كاتبا في المديرية، وأصبحت أنت كاتبا في المحكمة، أستغفر الله، بل موظفا في الدائرة السنية يقبض في آخر الشهر ثمانية جنيهات لا أربعة. قال خالد وهو يضحك: صدق الله العظيم:
من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا . ثم سكت خالد حينا ثم قال: ولكني غير مطمئن إلى هذا الانتقال كل الاطمئنان. قال سليم: لا تكن محمقا، راتب ضخم، وخير كثير، وفراق لهذه المدينة، ورضا الشيخ، ماذا تريد أكثر من ذلك؟! وهم خالد أن يتكلم، فمضى سليم في حديثه قائلا: لا تهتم لنفيسة وابنتيها، فسأرعاهن بعد سفرك كما ترعاهن أنت الآن، وأنت تعرف بر زبيدة بهن وحبها لهن، أليست جلنار خطب سالم؟! قال خالد وهو يضحك: وصلتك رحم! فما كنت أشك أنك ستقوم مقامي منهن. قال سليم: ولكن ذلك لن يعفيك من أن ترزقهن وتعين أباك. قال خالد: وهل في ذلك شك؟ سأيسر عليهن في الرزق، وسأضعف لأبي معونته. ولم تمض أسابيع حتى كان خالد قد استقر في مدينته تلك النائية القريبة، واستأنف عمله الجديد، ثم لم تمض أشهر حتى كانت «منى» قد رزقته غلاما رابعا.
الفصل الحادي والعشرون
قال سليم وهو مغرق في الضحك - وكان قد جاء زائرا لخالد وأسرته: ماذا تريد؟ لقد أصبحت تلك الناحية من دار أبيك بيمارستانا، وأصبحت زبيدة ممرضة لإحدى المجانين، فأما نسيم فقد أمرتها أن تعزل الصبيتين وأن تعنى بهما، وألا تجعل بينهما وبين أمهما سببا حتى تنجاب عنها هذه المحنة، وأظنك توافقني على أن الدور لم تقم ليمرض فيها المجانين؛ فللمجانين دارهم الخاصة في القاهرة، وأظنك توافقني أيضا على أن زبيدة ليست هي التي تحسن رعاية المجانين والقيام عليهم، فأطعني يا بني، ولنرسل نفيسة إلى حيث ينبغي أن تقيم.
قال خالد وفي عينيه دمعتان تريدان أن تسقطا ولكنه يعلقهما بين جفونه في شيء من الجهد: حاش لله! لن يكون هذا وأنا حي، ماذا أقول لعبد الرحمن وزوجه إذا التقينا في الآخرة؟! وماذا أقول للشيخ إذا سألني عن العهد الذي أعطيته على نفسي؟ وكيف أرضى لابنتي أن يقال إن أمهما قد اضطرت إلى مستشفى المجانين؟!
صفحة غير معروفة