كان هذا كله مغريا لعلي بالإصهار إلى الحاج مسعود، فكيف وقد سمع علي أن صغرى بناته جميلة رائعة الجمال لم تبلغ الرابعة عشرة من عمرها بعد؛ وليس من البعيد أن يكون علي قد وجد في ضميره الخفي على شيخه بعض الموجدة حين صرف عنه مسعودا وحذره من الإصهار إليه، ولكن هذا ظن نستغفر الله منه، فإن بعض الظن إثم، إنما الشيء الذي لا شك فيه هو أن شيئا من فتور قد سرى في اجتهاد علي كما تسري النار الخفية الضئيلة في المقادير الضخمة الهائلة من الهشيم، وظن آخر نستغفر الله منه؛ لأن بعض الظن إثم، وهو أن شيئا من الفتور الخفي جدا، قد أخذ يسري في حب علي لابنه خالد وفي عطفه عليه، ولو أمكن أن يحسد الآباء أبناءهم لجاز أن تكون شرارة ضئيلة جدا من الحسد قد وقعت في قلب علي حين سمع الشيخ يرغب الحاج مسعودا في صهر خالد هذا الفتى الذي اتخذ له زوجا فأضاعت عقلها جنية البيت، والذي لم يكد يكسب حياته إلا منذ وقت قصير، والشيطان خبيث بغيض يندس إلى القلوب الطاهرة وإلى النفوس الزكية، فيلقي فيها شيئا من فساد، إلا أن يعصم الله هذه النفوس وتلك القلوب من نزغات الشيطان، ولعله قد عصم منها نفس علي الزكية وقلبه الطاهر الذي ملئ علما ودينا؛ ولكن الشيطان وقح لا يعرف الحياء، ملح لا يكره أن يثقل على الناس بما يوسوس في صدورهم من الشر الذي يغري بالإثم ويورط في سوء الظن، يلتمس لذلك حيلا لا تحصى، يوسوس بذلك مباشرة في صدور الناس أحيانا، ويجري به ألسنة الأعداء والحساد والجهال من الأصدقاء أحيانا أخرى، وهو قد فعل ذلك مع علي، لم يجترئ أن يواجه حبه للشيخ وثقته به، وعطفه على خالد وأمله فيه، فدس من أصحابه من قال له مازحا بعد تلك الليلة التي عبث الشيخ فيها به: لقد قسا عليك الشيخ أمس، وصرف عنك خيرا كثيرا. ومع ذلك فمن يدري ؛ لعل الشيخ إنما صرف عنك شرا كبيرا، فإن للأولياء أمثاله أسرارا لا يفهمها أمثالنا، ومع ذلك فإني أرجو ألا يكون نصيب هذه الصبية إن زفت إلى خالد كنصيب تلك المرأة البائسة التي لم تكد تقيم معه أعواما حتى مسها لطف الله. ولم يكد علي يسمع هذا الكلام حتى ثار وفار، وهم أن يبطش بصاحبه لولا بقية من حلم؛ فقد استباح هذا الرجل لنفسه أن يجرؤ على الشيخ، ومن دون الجراءة على الشيخ أهوال، واستباح هذا الرجل لنفسه أن يعرض بخالد، ولولا أن الله عز وجل قال:
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور
لما رجع هذا الرجل إلى أهله موفورا، ولكن لا أقل من أن تنقطع الصلة بين علي وبين هذا الرجل الذي اتخذه الشيطان مطية إلى الفساد، وقد كان ذلك، فأعرض علي عن صاحبه بعد أن زجره زجرا عنيفا، وأقسم: لا يكون بينه وبينه سبب منذ اليوم.
ومن المحقق أن عليا قد عني بتجارته عناية شديدة، عناية لم تغن عنه شيئا، ولكن على المرء أن يسعى إلى الخير جهده، وعني ببنيه وبناته وبنسائه، وأحب داره حبا شديدا، وأي غرابة في ذلك، فالمؤمن حقا مكلف أن يصل الرحم، ويحسن القيام على أهله وداره وبنيه، والقيام على الأبناء وعلى ذوي القربى وأولي الأرحام واجب يعاقب المقصر فيه ويثاب الناهض به، وهو بعد هذا صدقة يضاعف الله جزاءه لمن يؤدونه على وجهه، ومن الجائز أن تكون عناية علي بتجارته، وقيامه على أهله وسعيه في إصلاح أمره، كل ذلك قد يضطره إلى قليل من التقصير في ذات الشيخ، وإلى التخلف القليل عن بعض مجالسه، ولكن الشيخ يعرف أمره كله حق المعرفة، وهو يعذر تقصيره ويعفو عن تخلفه، ومن الجائز أن يصرفه هذا كله عن بعض الرفق بابنه خالد، ولكن خالدا رجل قد توسط العقد الثالث من عمره؛ فهو لا يحتاج إلى العناية والعطف كما يحتاج إليهما هؤلاء النسوة الضعاف، وهؤلاء الصبية الصغار، وربما كان الحق على خالد أن يعنى بأبيه وإخوته أكثر مما يفعل إلى الآن، ولكنه شاب، وللشباب ضلاله المؤقت، وخالد مغرور بمنصبه الجديد، ولا شك في أنه سيثوب إلى نفسه، وسيذكر أن حمل أبيه ثقيل، وأنه يستطيع أن يخفف بعض هذا الحمل، أليس يقبض أربعة جنيهات في آخر كل شهر؟! كل هذه خواطر لعل نفس علي قد تحدثت بها إلى علي حديثا همسا لا يكاد يسمع! ولكنها تحدثت به على كل حال، فهي خليقة أن تلام، والنفس أمارة بالسوء إلا من رحم ربي، وعلي حريص كل الحرص على أن تناله رحمة الله؛ فهو يلوم نفسه لوما عنيفا، ويجتهد في العبادة اجتهادا شديدا، وينفق في غرفة أم خالد ليلة قائمة هائمة بذكر الله جاهرة بتلاوة القرآن، قد طرد عنها الشيطان طردا، ورد عنها النوم ردا، حتى إذا صلى علي الصبح وشرب القهوة نازعته نفسه إلى الراحة وشيء من النوم، فيتجهم لها ويغلظ عليها ويشتد في تأديبها، ويقسم لا يذوق النوم حتى يذهب إلى متجره ويعود إلى غدائه؛ فإذا صلى الظهر نام وطلب إلى هناء أن توقظه ليدرك صلاة العصر، قبل أن تفوته، فإذا صلى العصر سعى إلى شيخه فشهد معه صلاة العشاءين وحضر معه حلقة الذكر.
وفي ذات يوم ذهب خالد إلى متجر أبيه بعد صلاة العصر، فرآه جالسا يدير ذكر الله على سبحته تلك؛ فسلم الفتى، ولكن عليا لم يرد عليه سلامه ولم يرفع إليه رأسه، وإنما ظل مطرقا يدير ذكره في أناة، يمد صوته بحروف المد أكثر مما تعود أن يفعل، ويساقط حبات المسبحة في بطء متكلف، حتى إذا أدار ذكر الله على سبحته من طرف إلى طرف استغفر الله فأطال استغفاره، وصلى على النبي فأكثر الصلاة عليه، ووهب ثواب هذا كله للشيخ رحمه الله، ثم أدخل سبحته في جيبه مستأنيا، ثم مسح وجهه بيديه متشهدا، ثم التفت إلى خالد وهو يقول: ألست بخير يا بني؟ إني لم أرك منذ أمس. قال الفتى: لقد أمضيت صدر الليل عند الشيخ، وغدوت إلى عملي وجه النهار، وجئت ... فقاطعه علي رفيقا به وهو يقول: جئت لتراني، ولتقص علي ما كان بينك وبين الشيخ والحاج مسعود في خلوتكم أمس؛ فقد أنبئت بهذه الخلوة. قال خالد: نعم. قال علي: عفا الله عن الشيخ! فلو كان أبوه حيا لكنت رابع ثلاثتكم أمس، وعفا الله عنك يا بني! فلولا أنك حديث السن لما قرأت فاتحة الخطبة وأبوك غائب، ولكنك رأيت الشيخ يدعوك فلم تستطع له خلافا، ولم تفكر إلا في أن تجيب إلى ما دعيت إليه. ولو كنت مكانك لانصرفت من عند الشيخ إلى أبي لأبشره بهذه الخطبة، ولكنك انصرفت بالبشرى إلى سليم؛ فقد علمت أنك طرقت بابه عليه حين تقدم الليل. قال الفتى مضطربا متلعثما: فإني لم أجرؤ على إزعاجك وقد كاد الليل ينتصف، ولم أجرؤ على أن أباكرك بهذا النبأ قبل أن أغدو على عملي. فأما سليم ... قال علي مقاطعا: فليس بينك وبينه من الكلفة مثل ما بينك وبين أبيك! ثم تشهد علي واستغفر الله ونهض إلى ابنه فضمه إليه وقبل بين عينيه، وقال: قد سامحتك فليسامحك الله، ومتى استطاع الآباء أن يطيلوا الموجدة على أبنائهم، أما الأبناء فما أقدرهم على أن يمضوا في القسوة على آبائهم! اذهب يا بني فقد عفوت عنك. ثم بسط يده فتناولها خالد وقبلها صامتا، وظل في مكانه قائما واجما لا يقول شيئا ولا يأتي حركة، فنظر إليه أبوه ثم اندفع في الضحك وهو يقول: ما قيامك أمامي كالصنم لا تقول شيئا ولا تأتي حراكا؟ أمغتبط أنت بهذه الخطبة؟ أضربت مع الحاج مسعود موعدا للزواج؟ قال خالد: أما أني مغتبط بهذه الخطبة فما أدري ماذا أقول لك، وإنما موقفي منها كموقفي من تلك الخطبة الأولى: أمر الشيخ الكبير فأطعت، ودعا الشيخ الصغير فأجبت، والله يختار لنا ويلهمنا التوفيق فيما نأتي وما ندع؛ وأما موعد الزواج فما ينبغي أن نحدده ولم يحل الحول على موت عبد الرحمن، وما كان ينبغي أن نتحدث فيه وأنت غائب؛ وبعد فإنا لم نحدث أمس أمرا جديدا، ولم نزد على أن ننفذ وصية من الشيخ الكبير كنت بها عالما. قال علي وقد أحس في نفسه شيئا من الندم لغلظته على ابنه، وكثيرا من الرضا عن طاعة ابنه له ووفائه لحميه القديم - قال علي: بارك الله عليك يا بني وألهمك التوفيق، وكتب لك الخير في كل خطوة تخطوها أو عمل تقدم عليه، أقم معي حتى إذا دنا الغروب سعينا إلى الشيخ فشهدنا معه الصلاة.
الفصل السادس عشر
قالت زبيدة لزوجها سليم: لقد سمعتك تتحدث إلى خالد أمس بأن أكثر أهل النار من النساء. قال سليم وهو يتكلف الغضب: فقد كنت تتسمعين علينا إذا؟ قالت زبيدة: لا والله ما تسمعت عليكما، ولا احتجت إلى أن أتسمع إليكما؛ فقد كان حديثكما عاليا مرتفعا، يسمعه من في الدار، ويسمعه من يمر بها في الطريق. كان خالد فخورا مغتبطا لأنه سمع هذا الحديث من شيخه فأقبل فرحا به يعيده عليك، وقبلته أنت راضيا مسرورا كأن لك عند النساء ثأرا، ثم مضيت تفسره وتعلله وتزيد فيه.
قال سليم وهو مغرق في الضحك: وماذا فهمت من هذا كله؟
قالت زبيدة: فهمت أن النساء كافرات للنعمة، جاحدات للجميل، مضيعات للمعروف، تحسنون إليهن فيفرحن، ثم يسرع إليهن النسيان! فهن لا يذكرن لكم خيرا ولا يعرفن لكم جميلا، وهن مع ذلك ذاكرات للشر حافظات للسيئة، لا يكاد زوج المرأة منهن يؤذيها بالهين أو العظيم من الأمر حتى تنسى حبه لها وبره لها وما قدم إليها من معروف، وتأخذه بسيئات لا تحصى؛ فإثمهن الأعظم وجريمتهن الكبرى هي هذا العقوق، وأي إثم أعظم من العقوق وكفران النعمة؟ وهن من أجل ذلك يصرن إلى النار فيؤلفن من أهلها الكثرة الساحقة.
قال سليم وهو لا يكاد يفيق من ضحكه: وهل تنكرين ذلك أو ترتابين فيه؟ قالت زبيدة: لا أنكر شيئا ولا أرتاب في شيء، وإني لتائبة إلى الله من كل ذنب، طالبة عفوه عن كل خطيئة، باذلة ما أملك من الجهد لأبلغ رضاه ورضاك أنت، فإن رضا الزوج من رضا الله، وأنا مع ذلك مشفقة ألا أنجو من النار . قال سليم: اجتهدي، فعسي أن يعصمك الله منها، وأن يجعلك من أهل الجنة. قالت زبيدة وقد أخذت تضحك: فأما أنتم معشر الرجال، فأقلكم في النار وأكثركم في الجنة؛ لأن الطاعة فيكم فاشية، والمعصية فيكم نادرة، ولأنكم لا تؤذون أحدا ولا تتقدمون إلى أحد بما يكره، وإنما أنتم خير خالص لا يمازجه الشر، وعسل خالص لا يشوبه العلقم؛ فأما أن تسوموا نساءكم سوء العذاب وأن ترهقوهن من أمرهن عسرا، فإنما ذلك تأديب لهن، تستوفون ما لكم من حق الطاعة، وتتقربون بتأديبهن إلى الله، وأما أن تمسكوا نساءكم على ما يكرهن من الألم والبؤس، وأن تعلقوا على رءوسهن هذا السيف القاطع سيف الطلاق، وأن تصوبوا إلى صدورهن هذا السنان الذي ينفذ إلى أعماق القلوب، سنان التزوج بضرة تدخلونها على الزوج في دارها وتنغصون بها حياتها، وتذيقونها ألم الغيرة وشقاء الحسد، وتورطونها في الغدر والكيد والنفاق، فليس عليكم من هذا كله بأس، إنما تستمتعون بما أتاح الله لكم من رخصة وبما أتاح لكم من حق، فإن ضاقت المرأة بشيء من ذلك أو أنكرته أو ثارت له، فهي كافرة للنعمة، جاحدة للجميل، عاصية لله؛ وهي من أجل ذلك صائرة إلى النار مع أمثالها اللاتي يؤلفن الكثرة الساحقة من أهلها.
صفحة غير معروفة