إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما . ثم يرفع صوته بهذه الكلمات وجلساؤه معه: «اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون.» وإذ ذاك يكون المؤذن قد دعا إلى صلاة المغرب، فينهض الشيخ وهو يقول: المغرب جوهرة فالتقطوها. فإذا صلى وصلى الناس معه ودعا فقصر في الدعاء، مشى إلى المائدة ومشى معه الضيف جميعا. وقام عبد الرحمن كأنه الجني يشرف على طعامهم داخل الدار، وعلى عشاء هذه الجماعات المتكاثفة خارج الدار، وينفق أولئك وهؤلاء في طعامهم وأحاديثهم وقتا غير قصير. ثم يدعو الشيخ عبد الرحمن ويسأله باسما: ألا تظن أنه قد آن لك أن تستريح؟ فيقول عبد الرحمن: وأي راحة آثر عندي من هذا! ولكن صلاة العشاء قد وجبت يا سيدنا. يقول الشيخ: الليل كله وقت لصلاة العشاء، ثم ينهض مع ذلك متثاقلا فيخطو خطوات لا يلبث بعدها أن يسترد نشاطه ويعود شابا فتيا، وإذا هو يقيم الصلاة ويؤم الناس، فإذا أتم الفريضة أكثر من التنفل، ثم يتحول عن القبلة ويأخذ في بعض الحديث ساعة أو بعض ساعة يستخفي أثناءها عبد الرحمن فلا يراه أحد. ثم ينظر الشيخ فإذا عبد الرحمن ماثل بين يديه، فيقول: الآن أقيموا حلقة الذكر.
ولم يعرف عبد الرحمن في حياته كلها سعادة كالتي عرفها في هذا الأسبوع، ولكنه لم يعرف في حياته كلها شقاء كالذي عرفه بعد أن قفل الشيخ وأصحابه راجعين إلى المدينة. فقد كان حق هذه الزيارة الكريمة المباركة أن تتم قبل أعوام طويلة حين كانت تجارة عبد الرحمن الضخمة رابحة، وحين كانت ثروته العريضة نامية. فأما في هذه الأيام التي كسدت فيها التجارة وتضاءلت فيها الثروة، وثقل فيها الرجل عن السعي وضعف عن احتمال الهم الملح والجهد الثقيل، فإن هذه الزيارة الكريمة المباركة قد تملأ قلب المضيف غبطة وسرورا، وقد تشيع ذكره والثناء عليه، وقد ترفع مكانه في الجنة درجات، ولكنها بعد هذا كله تكلفه من النفقة ما لا طاقة له ولا قدرة له عليه. وقد جد الرجل مع ذلك حتى نهض بالحق، وأدى ما استتبعه هذا الأسبوع من دين. ولكنه لم يكد يفرغ من ذلك حتى أحس الجهد وبلغ منه الإعياء، فلزم داره ولم يبرحها إلا حين دعي إلى رضوان الله بعد شهور.
الفصل الثاني عشر
لم تعرف المدينة قط عاما كهذا العام، امتلأ فيه شهر الصوم بالخير والبركة وبالحب والتواصل، وبذكر الله والعكوف على طاعته، حتى لم يشك الفقير فقرا، ولم يحس البائس ضرا، ولم يجد الغني غرورا بثروته ولا فتنة بماله وجاهه. إنما شاع في المدينة شيء من الدعة والأمن والأمل والرخاء، فصام الناس مخلصين لله في صومهم، وقد اطمأنوا جميعا إلى أنهم سيفطرون إذا وجبت الشمس كما لم يتعودوا أن يفطروا، وسيؤدون صلاتهم على أحسن ما تؤدى الصلاة، وسيسمعون القرآن كأحسن ما تكون تلاوته وترتيله، وسيعودون إلى بيوتهم فينامون نوما هادئا مطمئنا ليستقبلوا يوما راضيا سعيدا.
وكان الشيخ مصدر هذا كله؛ فقد عاد من القاهرة في هذا العام كما تعود أن يعود من أسفاره، فاحتجب عن أصحابه ثلاثة أيام. ثم ظهر لهم في اليوم الرابع، فقال لهم وسمع منهم، ولكنه قال لهم أثناء السمر: قد أظلنا شهر الصوم. ثم التفت إلى خالد وقال ضاحكا: وما أرى قاضيك إلا سيأمرنا بالصوم بعد غد. ثم أطرق ساعة ورفع رأسه وقال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما. وما أرى أنه سيغم علينا غدا، وما أرى أننا سنكمل شعبان ثلاثين يوما. سنصوم بعد غد إذا، فأذنوا في الناس ، وليبلغ القريب منكم البعيد في المدينة أن من شاء أن يكرمني فهو ضيفي أثناء الصوم كله. فلما سمع جلساء الشيخ حديثه هذا وجموا له شيئا كأنهم يعجبون لما سمعوا، وينكرون هذه الدعوة العامة.
ولكن الشيخ قال في تؤدة وهدوء: إن الذين صحبوني منكم إلى القاهرة يعلمون أن يدي لم تمتلئا قط بالخير والنعمة كما امتلأتا في هذه الرحلة. والذين لم يصحبوني إلى القاهرة قد رأوا من غير شك هذه السفن الكثيرة الموقرة التي ألقت مراسيها على الشاطئ وأرسلت إلي ما كانت تحمل من أنواع الهدايا وضروب البر. ولست أدري ماذا أصاب الناس في هذا العام؛ فقد مرضوا كلهم بالكرم، وحرصوا كلهم على أن يعطونا مما أعطاهم الله، فاجتمع لنا من ذلك ما لا نستطيع أن نستنفده إلا أن يشاركنا الناس فيه، وإنما هو مال الله، فيجب أن يرد إلى الله. وهم بعضهم أن يتكلم، فابتدره الشيخ قائلا: هون عليك! فإنا لم نكن ننتظر هذا الخير لنكفل لإبراهيم بعدنا حياة راضية، وإبراهيم بعد خليفتي فيكم، وأنتم أوصيائي عليه. هنالك ارتج مجلس الشيخ وضج الناس بالبكاء، والشيخ ينظر إليهم باسما ويتلو السورة الكريمة:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا . ثم يقول بعد إطراقة خفيفة: لقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المنام، وقد قال الغزالي إن النبي لا يرى في المنام. والله ما هكذا كان الأمل فيك يا غزالي! لقد رأيته بعيني رأسي هذا راكبا بغلته. وسمعته يتلو هذه السورة في صوت ما سمعت قط صوتا يشبهه حلاوة وعذوبة. فلما أفقت من نومي ذكرت أن الله عز وجل نعى إلى سيد الخلق نفسه حين أنزل عليه هذه السورة، فأولت رؤياي هذه كما أول سيد الخلق نزول السورة عليه. ثم سكت وأطرق، وسكت القوم مثله وأطرقوا كأن على رءوسهم الطير، ثم رفع رأسه قائلا:
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت . صدق الله العظيم.
صفحة غير معروفة