قال عبد الرحمن: ولست أدري ما الذي سلط علينا هذه الشياطين؛ فقد كنا آمنين وادعين موفورين، ثم أصبحنا ذات يوم وإذا الشر يأخذنا من جميع أقطارنا، شياطين يأتوننا من يونان، وشياطين يأتوننا من إيطاليا، وشياطين يأتوننا من فرنسا، وشياطين يأتوننا من بلاد الإنجليز. صدقني يا أبا خالد إن الله قد غضب علينا، وقد بحثت كثيرا عن أسباب هذا الغضب، فالله لا يغضب على الناس لغير سبب، وإنما هو قد عودهم أن يحسن إليهم تفضلا منه، وألا يغضب عليهم حتى يستوجبوا غضبه بمنكر يأتونه، أو ذنب يقترفونه، أو إثم يتورطون فيه، وقد سألت الشيوخ في الأزهر والأولياء الصالحين الذين يعكفون في المساجد، ويلوذون بمشاهد أهل البيت، فلم أجد عند أحد منهم شيئا. ولكني غفوت ذات ليلة بعد أن صليت العشاء، فما راعني إلا شيخنا وهو يبسم لي ساخرا، ثم يدنو مني فيمسح على رأسي ويتلو هذه الآية الكريمة:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، ثم ينأى عني قليلا قليلا وهو يقول: اتبعني أبا صالح فإني سأفر بنفسي وديني من هذه القرية الظالم أهلها، وقد أفقت مذعورا، ولم أستطع منذ تلك الليلة أن أقنع نفسي بأني لم أر إلا حلما، وإنما استقر في قلبي أن الشيخ منتقل إلى رضوان الله، وأني لن ألبث بعده إلا قليلا، ولقد أقبلت أبا خالد وأنا أحدث نفسي بالسفر لأزوركم وأحدث عهدا بالشيخ، فمن يدري! لعله الوداع.
قال علي وصوته يرتجف: هون عليك! فإنك لم تر إلا حلما، وقد تركت الشيخ على أحسن ما عهدته قوة ونشاطا، وقد حملني تحية إليك ودعاء لك، ولكنه دعاني حين انصرفت عنه بعد وداعه، فأسر إلي أنه هابط إلى القاهرة؛ فقد طال عهده بأهل البيت، ثم قال في ابتسامة ما رأيت قط أعذب منها، لقد كانت شفتاه كأنما تنفرجان عن نور قال: أبلغ عبد الرحمن أنا سنكون له ضيفا.
هنالك لم يملك عبد الرحمن نفسه أن قال بأعلى صوته: الله اكبر! الشيخ ضيفي! ثم أهوى إلى صديقه فقبل رأسه وهو يقول وفي عينه دمعتان تترقرقان: ويحك أبا خالد! لم أخرت علي هذا النبأ السعيد؟!
ومهما يكن من شيء فقد سافر علي إلى القاهرة وفي قلبه شيء من حزن وشيء من أمل، وعاد إلى المدينة وفي قلبه كثير من الحزن وكثير من اليأس، إلا من روح الله، ولكنه قال لصديقه وهو يودعه: سأعود إليك بعد حين؛ فما ينبغي أن أتخلف عن مصاحبة الشيخ، ولا بد من أن نزور معه أهل البيت.
الفصل العاشر
أما خالد فقد كدنا نشغل عنه بحديث أبيه، وليس في هذا شيء من بدع؛ فإنه كان يعيش في أيام لم تكن حياة الأبناء فيها شيئا ما دام آباؤهم ناهضين بما كان ينهض به الآباء من الأمر في ذلك الوقت، فهم كانوا كل شيء، يصدر عنهم ما يدبر شئون الأسرة من أمر، وينتهي إليهم ما يعرض للأسرة من خطب، وما أبناؤهم إلا ظلال لهم، بل ظلال ناقصة تصور ما كان آباؤهم يريدون لهم أن يكونوا، إنما كان الأبناء يستكملون شخصيتهم وينهضون بأمرهم كله حين كان آباؤهم يفارقون هذه الأرض أو يضطرهم المرض والكبر إلى أن يلزموا بيوتهم عابدين أو فارغين، لا يأتون شيئا ولا يدعون شيئا؛ لأنهم لا يقدرون على شيء.
وكان علي في ذلك الوقت مالكا لأمره كله، لم يعرف قط نفسه قويا كما كان في ذلك الوقت، ولم يستجمع قط قواه العاقلة والعاملة كما استجمعها في تلك الأيام، ولذلك أسرف على نفسه وعلى أسرته في كل ما كان يأتي ويدع: إضاعة للتجارة، وإتلاف للمال، وإسراف مع ذلك في الزواج والطلاق، واستكثار مع ذلك من البنين والبنات، حتى كان حديث الناس في المدينة وفي بعض القرى المجاورة، وحتى تحدث إليه أصحابه في ذلك، فكان يقول لهم ما ذكرناه آنفا من أنه إنما يستوفي ما أباح الله له من الحق حين أذن للمسلمين أن يتزوجوا مثنى وثلاث ورباع، وكان يقول لهم في شيء من الغلظة والاستهزاء: ما تنقمون مني! من استطاع منكم أن يصنع صنعي فليفعل، ألسنا قد أمرنا بالزواج وبأن نستكثر من النسل ما وسعنا ذلك؛ لأن نبينا
صلى الله عليه وسلم
مباه بنا الأمم يوم القيامة؟ فهل تعيبون علي أن أكون سببا من أسباب امتياز النبي بأمته على غيرها من الأمم يوم القيامة! وكان أولو الجراءة من أصدقائه يذكرون له كثرة النفقة وثقل العبء، فيسخر منهم وقد يتجاوز السخرية إلى التأنيب، ويقول لهم: ما رأيت قوما مثلكم يشكون في قدرة الله، وينكرون فضله على الناس؛ إن الله هو الذي يرزقنا الولد. وقد ينبغي أن تعلموا، إن كنتم لا تعلمون، أن الله لا يخلق فما إلا أطعمه، ولا يبرأ نسمة إلا كفل لها رزقها، وقد نهينا عن قتل الولد مخافة الإملاق، ولست أفرق بين قتل الولد مخافة الإملاق وتجنبه مخافة الإملاق، كل ذلك يرجع إلى شيء واحد هو ضعف الثقة بالله، وأعوذ بالله أن تضعف ثقتي به أو يحل في قلبي اليأس من فضله.
صفحة غير معروفة