واختلطت فرانسي بالأطفال الآخرين اللائي على شاكلتها، وتعلمت في ذلك اليوم الأول أكثر مما توقعت، تعلمت نظام الطبقات في الديمقراطية العظيمة، وحيرها موقف المدرسة وآلمها، وكان من الواضح أن المدرسة تكرهها هي ومثيلاتها، لا لسبب إلا للحالة التي هن عليها، وكانت المدرسة تعاملهن معاملة من لا حق له في الانتساب إليها، وأنها مجبرة على قبولهن، تفعل ذلك بأقل ما يسعها من اللطف، وكانت تنفس عليهن الفتات القليل من التعليم الذي تلقي به إليهن، وتعاملهن هي أيضا معاملة طبيب مركز الصحة، كما لو كن لا يملكن حق الحياة والعيش.
وبدا كأن الأمر يقتضي أن يحتشد جميع الأطفال المنبوذين في صف واحد لمواجهة الأمور التي تقف في سبيلهم، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك، فكل طفل من هؤلاء الأطفال يكره الآخر، كما كانت المدرسة تكرههم جميعا، وقد اعتادوا أن يقلدوا عواء المدرسة حين يتحدث بعضهم إلى بعض.
وكان هناك دائما طفل سيئ الحظ تختاره المدرسة من بين الأطفال، وتتخذ منه ضحية الفداء، وهذا الطفل المسكين هو الذي توبخه المدرسة وتعذبه وتنفس به عن شقاء عنوستها، وما إن يوصم الطفل بهذه الوصمة المريبة، حتى ينقلب بقية الأطفال عليه، ويضاعفوا من العذاب الذي يلقاه من المدرسة، بل يخصون بالملق والرياء على نحو فريد أولئك الذين تقربهم المدرسة منها، وربما يظنون أنهم بذلك يقتربون من النفوذ والسلطان.
واحتشد ثلاثة آلاف طفل في تلك المدرسة المستوحشة القبيحة التي لم تتهيأ لها الأسباب إلا لألف واحد فقط، وأخذت القصص الشائنة تدور بين الأطفال، ومن هذه القصص أن الآنسة فايفر وهي مدرسة شقراء باهتة الشقرة لها ضحكة مجلجلة، كانت تهبط إلى الطابق الأرضي لتقضي بعض الوقت، تغازل مساعد الخادم في الأوقات التي تحل مكانها في ملاحظة المدرسة عريفة أخرى، مدعية أن الأمر يقتضيها الخروج إلى الإدارة، ودارت قصة أخرى على لسان الصبية الصغار الذين كانوا هم الضحايا، وتحكي القصة أن الرئيسة، وهي امرأة نصف بدينة قاسية، عضتها الأيام بنابها ترتدي ثيابا محلاة بقطع من النقود، تمضي بالصبية المشاكسين إلى مكتبها وتجعلهم يخلعون سراويلهم، حتى تستطيع أن تسلخ أعجازهم العارية بهراوة من نخيل الروطان (وكانت تضرب البنات الصغيرات فوق ثيابهن).
وكان العقاب الجسدي ممنوعا بلا شك في المدارس، ولكن كيف يتسرب الأمر إلى خارج المدرسة؟ ومن ذا الذي يبوح بالخبر؟ لا يفعل ذلك بطبيعة الحال الأطفال المضروبون، فقد كان هناك تقليد في الحي يقضي بأن الطفل الذي يقول إنه ضرب في المدرسة خليق بأن يضرب في البيت مرة ثانية؛ لأنه لم يسلك مسلكا حسنا في المدرسة؛ ولذلك كان الطفل يتلقى عقابه صامتا، تاركا الأمور تجري مجراها.
وأقبح ما في تلك القصص أنها كانت كلها هي الحقيقة الشائنة.
كانت الوحشية هي الصفة الوحيدة التي تطلق على المدارس الابتدائية، في ذلك الحي بين سنتي 1908-1909م، ولم يكن علم النفس الخاص بالأطفال قد سمع عنه في ويليمسبرج في تلك الأيام، وكانت مؤهلات التدريس يسيرة، وهي التخرج في المدرسة الثانوية ثم قضاء سنتين في مدرسة للتدريب على التعليم، وقل من المعلمات من كان لهن فن ودراية بوظيفتهن، أما الأغلبية فكن يحترفن المهنة لأن التعليم من الوظائف القليلة المفتوحة أمامهن؛ ولأن أجرهن أفضل من العمل في المصنع؛ ولأنه يمنحهن إجازة صيف طويلة ويتيح لهن معاشا حين يعتزلن، وكن يشتغلن بالتعليم لسبب واحد هو ما من رجل رغب في زواجهن، وكان محرما على السيدات المتزوجات أن يشتغلن بالتعليم في تلك الأيام، وهكذا راحت معظم المعلمات يعانين اضطرابا في الأعصاب نتيجة حرمانهن إرضاء عواطفهن المكبوتة، وكانت هؤلاء النساء العاقرات ينفسن عن سورة غضبهن بإيذاء أطفال النساء الأخريات، فيشبعن رغبتهن في ممارسة سلطانهن بطريقة ملتوية.
وأقسى المعلمات قلبا هن أولئك اللائي خرجن من بيوت تماثل بيوت الأطفال الفقراء، والظاهر أنهن كن في إحساسهن بالمرارة حيال هؤلاء الأطفال الصغار البائسين، يتمثلن على نحو ما لقين من شقاء أليم في نشأتهن الأولى.
ولم تكن كل المعلمات يسلكن هذا المسلك السيئ بلا شك، فقد كانت تفد أحيانا إلى المدرسة معلمة دمثة الخلق، تشارك الأطفال فيما يعانون وتحاول أن تساعدهم، ولكن مثل هذه المرأة لا تمكث طويلا في اشتغالها بالتعليم، فسرعان ما تتزوج وتترك الوظيفة أو تطاردها زميلاتها من المعلمات، حتى يخرجنها من الوظيفة.
وكان ما يسمى تلطفا «الخروج من الفصل» مشكلة قاسية؛ ذلك أن الأطفال نبه عليهم بأن يذهبوا إلى دورة المياه، قبل أن يغادروا البيت في الصباح ثم ينتظروا حتى ساعة الغداء، ومن المفروض أن يكون لديهم وقت لذلك في الفسحة، ولكن قليلا من الأطفال كانوا يفيدون من ذلك الوقت، فقد كان تزاحم الأطفال عادة يمنع الطفل من الاقتراب من دورة المياه، وإذا ما أسعده الحظ وذهب إلى هناك (حيث توجد عشرة مغاسل لكل خمسمائة طفل)، فإنه يجد أن الأماكن قد أخلاها من قبل التلاميذ العشرة الذين هم أكثر الأطفال شراسة في المدرسة، إذ يقفون في الممرات ويمنعون دخول القادمين جميعا، ويصمون آذانهم عن الاستعطاف المدر للشفقة الصادر من جموع الأطفال المعذبين الذين يحتشدون أمامهم، وفرض قليل منهم رسما قدره بنس وكان لا يستطيع دفعه إلا القليل، ولم يكن الزعماء يرخون قبضتهم عن الأبواب الدوارة حتى يدق الجرس بانتهاء الفسحة، وما من أحد استطاع أن يكتشف على وجه اليقين أية متعة، كانت تصيب هؤلاء من وراء هذه اللعبة الشبيهة برقصة الموت، ولم يكن يعاقبهم أحد أبدا لأن المدرسين والمدرسات لم يدخلوا قط دورة مياه الأطفال، ولم يتكلم واحد من الأطفال؛ لأن الطفل يعرف أنه مهما صغرت سنه يجب ألا يشكو، ويعلم أنه إذا وشى بأحدهم فسوف يعذبه عذابا يصل إلى حد الموت أو يكاد. وهكذا ظلت هذه اللعبة الشريرة تجري بلا انقطاع.
صفحة غير معروفة