شجرة تنمو في بروكلين

نوال السعداوي ت. 1442 هجري
136

شجرة تنمو في بروكلين

تصانيف

وكانت فرانسي تحب المسرح حبا جما، ورغبت ذات مرة في أن تكون عازفة على أرغن اليد، ثم أرادت أن تكون مدرسة، فلما تناولت أول قربان مقدس لها أرادت أن تكون راهبة، وحين بلغت الحادية عشرة رغبت في أن تكون ممثلة .

وأطفال ويليمسبرج إذا غاب عنهم كل شيء، فإن المسرح لا يغيب عنهم، كان في حيهم في تلك الأيام عدد كبير من الفرق الجيدة، مثل: فرقة بلاني وفرقة كورس بايتون ومنتدى فيليب، وكان منتدى فيليب قائما عند المنعطف بالضبط، وفرانسي تذهب إلى هناك عصر كل يوم من أيام السبت، حين تستطيع أن تنتزع من أمها قطعة من فئة العشرة سنتات (إلا حين يغلق المسرح أبوابه في فصل الصيف) وكانت تجلس في أعلى المسرح وتنتظر في الصف دائما ساعة، قبل أن يبدأ العرض لتحصل على مقعد في أول صف.

وقد شغفت ببطل الفرقة هارولد كلارنس، فكانت تنتظره عند باب المسرح بعد حفلة يوم السبت النهارية، وتتبعه إلى بيته الوضيع المصنوع من الحجر البني، حيث يعيش حياة عادية في حجرة حقيرة الأثاث، وكان يمشي في الشارع بخطى متصلبة مثل الممثلين القدامى، ووجهه يبدو متوردا كوجوه الأطفال، وكأنما لا يزال يحمل أثر دهان الشباب، وكان يمشي في خطى متصلبة خلي البال، لا ينظر إلى اليمين أو إلى اليسار، ويدخن سيجارا وجيه المنظر يلقيه قبل أن يدخل البيت؛ لأن صاحبة البيت لا تسمح للرجل العظيم بأن يدخن في حجراتها، وتقف فرانسي على منعطف الشارع تتأمل بعين الخيال والأحلام عقب السيجار المهمل، وتنزع عنه حلقة الورق وتلبسها في إصبعها أسبوعا، متظاهرة بأن تلك الحلقة ما هي إلا خاتم خطبتها له.

ومثل هارولد وفرقته في يوم من أيام السبت مسرحية «حبيبة راعي الكنيسة»، وفيها وقع راعي كنيسة القرية الوسيم في غرام جيري مورهاوس بطلة الفرقة، واضطرت البطلة - لسبب ما - أن تبحث عن عمل في محل بقالة، وكانت هناك امرأة شريرة تحب راعي الكنيسة الشاب الوسيم أيضا، وخرجت لتنال من البطلة، ودخلت المحل تتبختر مزهوة بفرائها غير المألوفة للقرية وجواهرها العجيبة، وطلبت في كبرياء وعظمة رطلا من البن، ومرت لحظة رهيبة حين لفظت الكلمات الخطيرة «اطحنيه!»، وزمجر المتفرجون، وكانت الفكرة أن البطلة الرقيقة الجميلة ليست من القوة، بحيث تستطيع أن تدير العجلة الكبيرة، وأن عملها أيضا يقتضي أن تكون قادرة على طحن البن، وناضلت بقدر ما تستطيع، لكنها لم تقو على أن تدير العجلة دورة واحدة، وأخذت تستعطف المرأة الشريرة، مبينة أنها في أشد الحاجة للاحتفاظ بوظيفتها، لكن الشريرة رددت: «اطحنيه!» فلما بدا موقفها ميئوسا منه دخل هارولد الوسيم المحل بوجهه المتورد يرتدي مسوحه، ولما تبين الموقف ألقى قبعته الكهنوتية الواسعة على المسرح في حركة تمثيلية طبيعية، وتقدم بخطواته المتصلبة إلى الآلة وطحن البن. وهكذا أنقذ البطلة، وعم المتفرجين سكون رهيب حين انتشرت على المسرح رائحة البن الطازج المطحون، ثم ساد المكان هرج ومرج ... بن حقيقي! الواقعية تتمثل على المسرح! وكان كل شخص قد رأى بنا مطحونا آلاف المرات، ولكن حدوث ذلك فوق خشبة المسرح يعد قلبا للأوضاع المألوفة، وصرت الشريرة على أسنانها، وقالت: لقد هزمت مرة أخرى!

وعانق هارولد جيري ووجهها شاخص إلى النظارة، وأسدل الستار، ولم تشارك فرانسي أثناء الاستراحة الأطفال الآخرين في إزجاء وقت الفراغ في البصق على أغنياء القوم الجالسين في المقاعد الأمامية، التي يبلغ ثمن المقعد منها ثلاثين سنتا، بل أخذت تفكر في الموقف الذي أسدل عليه الستار، إنه لتوفيق عظيم أن يدخل البطل في الوقت المفضل يطحن البن، ولكن ماذا كان يحدث لو أنه لم يأت؟ كانت البطلة خليقة بأن تطرد من عملها، حسنا جدا، وماذا بعد؟ إنها سوف تخرج باحثة عن عمل آخر حين يشتد بها الجوع، وسوف تمسح البلاط كما تفعل أمها، أو تبتز الأموال من مغازلة الرجال، شأنها شأن فلوسي جاديس، إن عملها في محل البقالة أمر ضروري؛ لأن المسرحية قالت هذا فحسب.

ولم ترض فرانسي عن المسرحية التي شاهدتها في السبت التالي أيضا، فليكن؛ فقد عاد الحبيب الذي غاب طويلا إلى البيت في أنسب وقت ليدفع الرهن، ولكن ماذا كان يحدث لو عجز عن أن يدفعه؟ إن صاحب البيت خليق بأن يمهلهم ثلاثين يوما لإخلاء الشقة، ذلك هو ما يحدث في بروكلين على الأقل، وقد يهتدون إلى حل في ذلك الشهر، ولكن إذا لم يحدث ذلك واقتضاهم الأمر أن يخرجوا من البيت فعليهم أن يتدبروا الأمر ما وسعهم، فتذهب البطلة الجميلة وتحصل على عمل في المصنع، ويذهب أخوها المرهف الحس ليتجول في الشوارع ويبيع الصحف، وتقوم أمها بتنظيف البيت أثناء النهار، ولكنهم سيعيشون على أية حال. وقالت فرانسي عابسة بينها وبين نفسها: أجل سيعيشون أيتها الحمقاء، فالموت لا يأتي إلا بعد جهاد طويل.

ولم تستطع فرانسي أن تفهم لماذا لم تتزوج البطلة الرجل الشرير، إن هذا خليق بأن يحل مشكلة الإيجار، ثم إن الرجل الذي أحبها بلا شك كل ذلك الحب، حتى ارتضى لنفسه أن يعاني صنوف العناء جميعا لأنها لم تقبل أن تتزوجه؛ خليق بألا تتجاهله؛ لأنه على الأقل كان حاضرا بين يديها، حين غاب البطل وراء شيء لا يستطيع تحقيقه.

وألفت هي الفصل الثالث لتلك المسرحية، وأخذت تفرض الفروض متسائلة: ما الذي كان يحدث لو أن الأمر كيت وكيت، وكتبت هذه الفروض في حوار فأنست في كتابته سهولة عجيبة؛ لأن الأمر يقتضيك في كتابة قصة أن تعلل لم كان الناس هكذا؟ ولكنك حين تكتب الحوار فالأمر لا يقتضيك أن تفعل ذلك؛ لأن ما يقوله هؤلاء الناس يفسر لم كانوا هكذا! ولم تجد فرانسي مشقة في الاسترسال في الحوار، وغيرت رأيها مرة أخرى بشأن المهنة التي تنتوي أن تمارسها، واستقر رأيها على ألا تكون ممثلة بحال، بل ستكون كاتبة من كتاب المسرح.

29

وسيطر على جوني في صيف تلك السنة نفسها وهم بأن طفليه يشبان، وهما يجهلان المحيط العظيم الذي يغسل شواطئ بروكلين، وأحس جوني أن الواجب يقتضيه أن يركبوا البحر في سفينة، وقرر أن يأخذ الطفلين في زورق للتجديف عند كانارسي، ثم ينفقوا وقتا في صيد السمك من أغوار البحر. ولم يكن جوني قد مضى قط لصيد السمك أو ركب زورقا من زوارق التجديف، لكن اختمرت في رأسه تلك الفكرة.

صفحة غير معروفة