أفاقا في وقت واحد. دبت فيهما حركة بطيئة كتقلصات اعترت زوايا الفم، والجفون والأطراف. فتحا عينيهما، ندت عنهما آهة عميقة من التوجع، تقلبا على الجنبين، زحفا على أربع مقدار ذراع، جلسا على الرمال، أجالا في الخلاء المحيط بهما نظرة ثقيلة نصف عمياء. تلاقت عيناهما في نظرة عابرة لم تكد تكفي لكي يرى أحدهما الآخر. - ما أثقل رأسي! - ما أثقل رأسي! - لا ريب أني أغادر مرضا طويلا. - لا شك أني أبعث من موت. - يا له من خلاء ميت. - لعلي في قبر، أكذلك يبدو القبر من الداخل؟!
وتلاقت عيناهما مرة أخرى. - من أنت؟ - من أنت؟ - إنك عار تماما كيوم ولدتك أمك. - وأنت أيضا، ألا تدرك ذلك؟ - يا للعجب! أين ملابسي؟ - أين ملابسنا؟ - من أنت؟ - من أنت؟ - اسمي عبد الواحد. - اسمي عبد القوي. - ترى أسمعت هذا الاسم من قبل؟ - محتمل أنني سمعت اسمك كذلك. - ماذا جاء بك إلى هنا؟ - ماذا جاء بك إلى هنا؟ - في الذاكرة تلف وعناء. - في الذاكرة تلف وعناء. - واضح أننا تعرضنا معا لشر واحد. - أجل. - غير بعيد أنني لا أراك لأول مرة. - ويخيل إلي أنني عرفت في حياتي شخصا يقاربك في الشبه.
نهضا معا بصعوبة، وقفا يترنحان، أخذا يتنفسان بعمق. - ما الذي جمع بيننا؟ - لا يمكن أن نوجد هكذا معا مصادفة. - ثمة علاقة تربط بيننا، فما هي؟ - ما هي؟ - سنتخلص من الإعياء والخور ونتذكر كل شيء. - من خبرتي السابقة أؤكد لك أن رأسينا تعرضا لضرب مركز. - ضربنا لنسرق، وقد سرقنا بالفعل كما ترى. - ومن خبرتي أيضا أؤكد لك أننا تعاطينا مخدرا جهنميا. - ولكنني لا أتعاطى أي مخدر. - لعله دس إلينا في غفلة منا! - لعله، ولكننا سنعود إلى وعينا ... - استيقظي يا ذاكرة، حقا إن الإنسان بلا ذاكرة هو لا شيء! - ها أنت تتنبه إلى أننا من فصيلة الإنسان. - لا يتعرى إلا الإنسان؛ أما الحيوان فيخلق بملابس طبيعية. - من حسن الحظ أن تكون إنسانا ولو سرقت وتعريت وتألمت. - علينا أن نقاوم الذهول وإلا ذبنا في الخلاء. - وهو خلاء صامت لن يجيب بحرف لو سئل ألف سؤال. - صدقت. - الحق أن وجهك غير غريب، ولا صوتك. - كذلك وجهك وصوتك. - نحن نتقدم بلا شك. - الذكريات تقبل حتى أكاد أمسك بها؛ ولكنها سرعان ما تدبر. - اشحذ جهاز استقبالك. - صه .. ها هي ذكرى، كأنها عواء! وثمة ظلام كأنما يتكدس في كهف! - حقا؟! .. وإني أكاد أمسك بأرقام محددة .. ترى ما هي؟ - وثمة إيقاع شيطاني، لعله زار، أتعرف الزار؟ - كلا، ولكن هناك خطة .. خطة هامة!
وفرق بينهما صمت. مضى كل منهما يحرك رأسه بشدة، ويتنفس بعمق، ثم تبادلا نظرة حية لأول مرة.
ارتسمت في وجهيهما الدهشة. - رباه! - عبد القوي! - عبد الواحد! - ماذا حدث لنا أيها الأخ؟ - أجل ماذا حدث؟
وساد الصمت مرة أخرى تحت شمس الخريف الدافئة حتى تمتم عبد الواحد: كنا ماضيين نحو الطريق الزراعي. - أجل رأيناه بالعين على ضوء النجوم. - ثم؟ - ثم انقض علينا قطاع الطرق، لا شك عندي في ذلك. - وسرعان ما غبنا عن الوجود. - آه، تذكرت، كنا قادمين من مخيم البدوي. - ذلك الرجل الكريم الذي استضافنا في الواحة. - الواحة! .. أجل الواحة .. وقد قضينا وقتا طيبا في الخيمة .. وتعاطينا ...
فقاطعه عبد الواحد بحدة: إنك أنت أصل المصائب! - كلما هفت نفسك إلى لذة مسحت ضعفك في أنا! - أنت الذي شجعته! - لم اشتركت أنت معنا؟ - ضقت بالعزلة ... - هي حجتك إذا أردت أن تمسح ضعفك في ... - وقد وصلنا البدوي حتى مشارف الطريق ... - وعقب رجوعه بوقت غير قصير وقع لنا ما وقع. - وحملنا المعتدون إلى هذا الخلاء ثم تركونا عرايا!
وجعل كل منهما يقطب متذكرا، حتى قال عبد الواحد: سرقوا ملابسنا بما فيها. - نقودنا وأوراقنا الخاصة. - تركونا بلا شيء في لا شيء. - فنحن وما حولنا لا شيء. - هراء ما تقول! - ولكنك أنت من قلته! - إني لا أتكلم؛ ولكني أفكر، والتفكير طرح فروض واحتمالات ... - معذرة يا أخي، ولتفكر في هدوء. - ويجب أن تفكر أنت أيضا. - إنما اعتمادي - بعد الله - على إحساسي الباطني وحده. - ماذا يقول لك إحساسك الباطني؟ - إنها ستفرج من حيث لا ندري! - ربما هلكنا قبل ذلك.
فرفع عبد القوي كتفيه العاريين في صمت واستسلام فقال عبد الواحد: لقد سلبونا جميع ما نملك، إلا العقل. - وهو ما زال في شبه غيبوبة. - أجل، ولكن من اليسير أن ندرك أن علينا أن نذهب إلى أقرب نقطة شرطة. - فكرة صائبة، هيا بنا ... - لا تتعجل، أنسيت أننا عرايا يستحيل عليهم مواجهة الناس؟! - ولكنك أنت الذي اقترحت ذلك. - قلت لك إني أفكر، وإن التفكير ما هو إلا طرح فروض واحتمالات! - معذرة ... - وإذن فعلينا قبل ذلك أن نحصل على ملابس. - فكرة صائبة، ولكن كيف؟ - أن نعود مثلا إلى صاحبنا البدوي. - أسرع، لنسرع أيها الأخ ... - ولكننا في خلاء مجهول لا ندري شيئا عن موقعه، ولا بوصلة معنا ولا مرشد. - لم يبق إلا أن تنتظر حتى يعبر أحد فننهبه كما نهبنا. - وأي مجنون يعبر هذه المتاهة؟ - يا لها من ورطة مضحكة! - مضحكة؟! - المآزق تبعث في نفسي الضحك. - ذاك أنك أهوج ملهوج لا يركن إليه في أزمة. - أنسيت مواقفي في نجدتك عند الخطر؟ - لا يمكن أن ينسى ذلك، ولكن لا تضحك في المآزق!
أحنى عبد القوي رأسه مستجيبا، أو متظاهرا بالاستجابة، فواصل عبد الواحد كلامه قائلا: اتفق الرأي على أننا نزلنا ضيفين في خيمة البدوي، ولكن ما الذي دفع بنا إلى الواحة؟ - ولكنك لم تحل مشكلة وجودنا في الخلاء عرايا بعد؟ - يقتضي حلها بالرجوع إلى الوراء قليلا؛ فنحن لم نستكمل الوعي بنفسنا وحالنا بعد. - فليتم ذلك قبل أن نهلك في الخلاء. - لا تبدد الوقت، ماذا جاء بنا إلى الواحة؟ .. لا أظننا من أهل الواحات! - الثابت أننا من أهل الأرض. - أين كنا قبل أن نذهب إلى الواحة؟ .. ولم ذهبنا إلى الواحة؟
صفحة غير معروفة