وبعد أن وصل إليها النبي
صلى الله عليه وسلم
وأفضى إليها ببشرى ربحها الجزيل، علا وجهها البشر والإيناس وطلبت منه أن يعود إليها بميسرة فعاد ثانية إلى مطيته يحثها نحو وادي فاطمة، وقامت هي إلى سطح دارها لتراقبه سائرا في الصحراء والغمامة فوقه تنثر ظلال السلام حوله، تقف إن وقف وتسير إن سار، ولما وصل ميسرة حكى لها ما رآه من البراهين والكرامات،
7
وما تعرفه في صحبته من البركات مع حسن السمت والهدي والدل وبما قاله الراهب عنه، فما لبثت أن تاهت في بحار التفكير، وكلما لج بها الفكر انتقلت من حال إلى حال.
ما شاهده ميسرة وقصه عليها آيات بينات على أنه الرجل المنتظر الخالد الذي سيرفع من شأن العصر، وشهادة الراهب والسحابة التي رأتها رأي العين أمور زادت من أفكارها وآمالها حتى أصبح ذلك الوجه المبارك المشرق لا يغيب لحظة عن أنظار خيالها، أما شبح تلك الشخصية الكبيرة فقد غمر لبها وقيد روحها بسلاسل الجاذبية إلى أن استولى على عرش قلبها النبيل.
كانت تناهز الأربعين، أي أنها قطعت مرحلة لا يستهان بها في طريق الحياة، ولكنها ما زالت في نضارة الحياة عليها مسحة من الجمال، وكان أثر جاذبيته منذ المقابلة الأولى بليغا راسخا لم تتمكن من محوه والتملص من قيوده، وقد زاد احتكاكها به أثر هذا الإحساس شدة كلما تقابلت معه بعد ذلك، إلى أن كان يوم عودته من الشام فإذا بتلك العاطفة وذلك الانجذاب قد تعمقا في القلب وتشبثا في الروح فتحولا إلى حب شديد.
لقد فتن الرسول الهادي أم المؤمنين بلطفه وشخصيته النافذة وأخلاقه العالية، فوهبته قلبها وتعلقت نفسها الطاهرة بسلك محبته بكل ما فيها من قوة وجلد، وما كادت يدها تصل إلى هذا السلك النوراني حتى اهتز كيانها بقوة غريبة وانقلبت حياتها الهادئة الساكنة إلى سلسلة من الأيام، حلقاتها مرائر الآمال والأحلام.
الفصل الثالث
جلست أم المؤمنين ذات يوم تغامر بحارا من التفكير
صفحة غير معروفة