قال مربيه: «ظهرت عليه في صغره علائم الذكاء والفطنة»، إلا أن تربيته التي تلقاها منذ وفاة أبيه لم تكن كافية لإنضاج مداركه وإكمال مواهبه، فظل ابن الحكم وحفيد عبد الرحمن الثالث خاملا، وعاش عاجزا جبانا مترددا عاريا عن العزم والإرادة، أقل الملوك شأنا في أسرة بني أمية.
هذه الأخلاق الضعيفة حركت عوامل الطمع في نفس المنصور، وحدت به إلى الطموح نحو العرش، وجعلته يعزم على ارتقائه العرش في بيت الزهراء بدلا من هشام، كان «الملك الكريم» فأراد أن يكون الخليفة.
اختلف المؤرخون في هذا الأمر؛ لأن معظمهم يقول بقيام هذا الأمل في نفس المنصور وأنه سعى جهده لإخراج مشروعه من دائرة الفكر إلى حيز العمل، ولولا خشيته من النتائج لتم له ما أراد.
اهتم أولا أن يكون الخليفة منسيا من شعبه دون أن يزعزع أركان الخلافة، فسعى في أن يقلل خروج الخليفة من قصره وكانت الظروف في جانبه؛ لأن هشاما كان لا يراه الناس في الجامع إلا قليلا، وإذا خرج من قصر لآخر متنزها خرج وهو ملتف بالبرنس، فكان يرى بعين الخيال وهو مسرور منشرح الفؤاد أن آماله ستتحقق بلا اضطراب ولا شغف.
فهمت صبيحة مراميه وشعرت بأغراضه ومقاصده، فأرادت أن تراقبه من كثب ولم تطق بعد ذلك استبداده ولم تستطع صبرا على رؤية العرش مهددا، فزجت بنفسها في الميدان لتحافظ على كيان ابنها وتنقذ عرشه.
بذلت كل ما في نفسها من جهد وعزم، إلا أنه لم يكن في يدها الآن شيء من القوة.
وقد شعرت بهذه الحقيقة عندما تقدمت إلى الميدان ورأت أن رجال المنصور وأعوانه شاغلون أهم المناصب في أقلام الحكومة وإداراتها وفي كل ركن من أركان الإدارة، حتى في قصرها بيت الزهراء.
كانت تهم فيصادفها ألف عقبة وعقبة، تتقدم خطوة إلى الأمام فتقابلها عثرات وموانع، لم تكن مالكة لاستقلالها، لقد كبلها المنصور بخيوط دقيقة تخفى على الناظرين، ولكنها خيوط قوية يصعب الإفلات منها، فصبرت حتى اشتدت عزيمتها وقام في أعماق نفسها دافع يسوقها إلى رفع لواء التمرد والعصيان؛ إذ كانت تقول في سرها: ما هذه الجرأة؟ ومن أين لأبي عامر كل هذا النفوذ؟ أين كنت أنا؟ وكيف أرى ذلك بنفسي؟ آه! إن الرجال الشاغلين للوظائف في قصري كلهم معروفون لدي ولكنني أعلم أنهم من أتباع المنصور.
كيف لها أن تعلم ذلك؟ لم يكن وقتئذ فرق وأحزاب ورجال تتحيز لرجال، كانت متحدة مع المنصور فكرا وعقلا، متفقة معه قلبا ولسانا، كانت يدها مع يده في كل أمر وكل مشروع، فترى فيمن يعينهم المنصور أنهم رجالها الصادقون، فليس سبيل إلى سوء الظن، كان الزمان زمان إخلاص واتحاد، أما اليوم وقد زال ما بينهم من طمأنينة فابتدآ يراقبان حركات بعضهما وقد تنقب كل منهما ببرقع النفاق فهي الآن تنصب له الفخاخ سرا، وقد علمت بآماله وأمانيه فسعت أولا في جعل رجال القصر محببين منها، وقد أظهرت في هذا السبيل همة جديرة بالتقدير والإعجاب.
تبدلت الحال بغير الحال وصار قصر الزهراء مسرحا للفتن والدسائس، وصبيحة تراقب ذلك بسرور ولا تألو جهدها لإنقاذ ابنها ونفخ روح الحياة في نفسه الخامدة.
صفحة غير معروفة