يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأذكره لكل غروب شمس
ساءلت التاريخ كثيرا عن ذلك، فلم أقع من طياته وأسراره على ما ينقع الغليل، اللهم إلا نتف وأقوال أجملتها في هذه الصحائف القليلة التي أعرضها اليوم على الأنظار بعد مرور ألف وثلاثمائة وثمانية عشر ربيعا على ذبول تلك الزهرة المعنوية الجليلة.
وقد خطرت لي سانحة أريد أن أثبتها هنا قبل ختم هذه الصحائف، هي ذكرى صغيرة أريد بها المقارنة بين قلب الخنساء الكبير ونفسية امرأة يابانية.
إننا لنعلم الخطوات الواسعة التي خطتها الأمة اليابانية في سبيل الرقي والمدنية، فإن نعجب بمدنيتهم وفلاحهم فإن عصبيتهم نحو تاريخهم وقوميتهم وتمسكهم بتقاليدهم الملية وعاداتهم الوطنية أحرى بالتقدير وأجدر بالإعظام.
إن تحليل وتعميق الشعور الكامن في النفس اليابانية للوصول إلى حالتها الروحية وللوقوف على أسرار سعادتها والاطلاع على غايتها من الحياة والإحاطة بالعوامل التي رفعتها إلى هذه الرتبة العالية والمكانة السامية، لذة معنوية تدخل على النفس ظلال الغبطة والسرور.
أسعدتني الظروف فيما مضى بلذة معنوية من هذا القبيل؛ إذ كنت أطالع كتابا عن اليابان يبحث عن علو أفكار المرأة اليابانية وظرفها الفطري، وقد ذكر فيها المؤلف بدهشة وإعجاب متانة أخلاقها وقوة جنانها وعلو طبعها، إلى غير ذلك من مزايا تربيتها الروحية، ثم استطرد من ذلك متسائلا عن أثر الوراثة في ذلك التهذيب وعن الأجيال التي نمت وتمرنت فيها هذه التربية الروحية حتى كملت إلى حد إظهار الرزانة والوقار أمام مرائر الحياة وجبر النفس وستر دموع العين بابتسامات لطيفة في أوقات الضنك والشدة، ثم استطرد من ذلك إلى تصوير الحرب الروسية اليابانية وتحدث عن اليابانيات وثبات جأشهن وهن يودعن أزواجهن وأولادهن وآباءهن وإخوانهن الذاهبين إلى ميادين الحروب، وكيف أنهن كن يملكن العبرات في ذلك الموقف الرهيب وتفتر ثناياهن بالابتسامات المشجعة والكلمات المعزية والمعاني الحماسية بدل أن يذرفن الدموع التي قد تفت في السواعد وتثبط من العزائم وتقلل من النشاط، وقد كانت الواحدة منهن لتعلم وهي تودع أعز إنسان لديها أنه قد لا يرجع إليها سالما، وقد لا تحظى بقبلاته فيما بعد، ولكنها لا تفتأ عن بذل ما تبعث فيه الحمية وما تجدد فيه العزيمة للكفاح وملاقاة الأهوال، وقد أضاف المؤلف أن هؤلاء النسوة ما كانت إحداهن لتتأخر عن سبيل التضحية لحظة واحدة فداء الوطن والإمبراطور، ولو أن التقاليد أو العادات تبيح لهن الاشتراك في المعامع والحروب مع الرجال، إنهن ليخضن غمراتها بشوق وتلهف بلا بطء ولا توان.
وبعد أن ذكر المؤلف الشيء الكثير عن شهامة اليابانية سرد هذه الحادثة التي شاهدها بنفسه رأي العين والتي لا أرى مندوحة من نقلها هنا كما هي، إنها لقصة بالغة ذات مغزى سام تسوق المرء إلى التفكير العميق، وقد أستطيع هنا أن أسوق القارئ إلى وادي الحس وأفيض عليه بشيء من الشعور الذي غمرني عند تلاوتها، قال المؤلف: «كان ذلك في أوائل الحرب الروسية اليابانية، وكانت الجيوش تساق إلى ميادين المعارك، ففي هذه الآونة كانت يابانية تودع حبيبا لها، ذاهبا إلى الحرب فرأيته يقول لها: هيا بنا نتصافح فإنني ذاهب.» فسألته متعجبة: إلى أين؟ - إلى الحرب، فأشرق جبينها وارتسمت على وجهها ظلال الغبطة والشوق وسألته بنغمة كلها سرور ونشاط: إلى الحرب! أليس كذلك؟ إلى أعدائنا الروس؟ - نعم، إلى أعدائنا الروس.
فقامت اليابانية من فورها وقد كانت جالسة على حصير، تبرق عيناها بنيران الشوق والسرور وما كاد حبيبها يلمح في نظراتها ذلك الهيجان حتى سألها: أكنت ترغبين في مرافقتي؟
فأجابته وهي تكاد لا تملك خفايا تأثراتها: نعم، كنت أريد ذلك، أريد أن أموت، أن أجود بحياتي في ميدان الحرب، ولو أستطيع أن أموت وأحيا سبع مرات لجدت بحياتي في كل هذه المرات، فداء الوطن والإمبراطور.
صفحة غير معروفة