وحمل إليه النسيم من الحقول الغارقة في الظلام شذا مسكرا من زهر البرتقال، فتح له عوالم خفية من المسرات، فطرب طربا استخفه، وأخرجه من قيود الاتزان، فسألها بشغف: خبريني يا وردة، لماذا تعيشين؟
فهزت منكبيها وأتت على كأسها. ولكنه كرر سؤاله بجدية لا لبس فيها، فقالت: وهل لهذا السؤال من معنى؟ - لا بأس أن نسأله أحيانا. - إني أعيش، هذا كل ما هنالك. - بل إني أنتظر جوابا أفضل.
فكرت قليلا، ثم قالت: لنقل إني أحب الرقص، والإعجاب، وأتطلع إلى الحب الحقيقي. - هذا يعني أن الحياة عندك هي الحب. - ليكن. - ألم تحبي مرة ثم كرهت الحب؟
فقالت بامتعاض: غيري فعل. - وأنت؟ - كلا. - كم مرة أحببت؟ - قلت لك يوما ...
ولكنه قاطعها: لندع جانبا ما قلته يوما، صارحيني الآن بكل شيء. - ها هو طبعك الوحشي يغلبك. - ألا تريدين أن تتكلمي؟ - قلت ما عندي.
فتنهد آسفا، ثم سألها محموما: والله، ما موقفك منه؟
حدجته بنظرة ارتياب حادة، فقال بتوسل: أجيبيني من فضلك يا وردة. - أومن به. - بيقين؟ - طبعا. - من أين جاء اليقين؟ - إنه موجود وكفى. - أتفكرين فيه كثيرا؟
ضحكت كالمرغمة، وقالت: عند كل حاجة أو شدة. - وفيما عدا ذلك؟
فقالت بحدة: ألا ترى أنك تحب تعذيب الآخرين؟
ولبث في الملهى حتى الثالثة صباحا، ثم انطلق بسيارته - وحده - إلى الطريق الصحراوي. وقال إن خروجه وحده هذه الليلة يعتبر تطورا ذا شأن. ثم أوقف السيارة في جانب من الطريق المقفر، وغادرها إلى ظلمة شاملة، ظلمة غريبة كثيفة بلا ضوء إنساني واحد. لا يذكر أنه رأى منظرا مثل هذا من قبل؛ فقد اختفت الأرض والفراغ، ووقف هو مفقودا تماما في السواد، ورفع رأسه قبل أن تألف عيناه الظلام، فرأى في القبة الهائلة آلاف النجوم عناقيد، وأشكالا، ووحدانا. وهب الهواء جافا لطيفا منعشا موحدا بين أجزاء الكون. وبعدد رمال الصحراء التي أخفاها الظلام انكتمت همسات أجيال، وأجيال من الآلام، والآمال، والأسئلة الضائعة. وقال شيء إنه لا ألم بلا سبب، وإن اللحظة الفاتنة الخاطفة يمكن أن تمتد في مكان ما إلى الأبد. وقد يتغير كل شيء إذا نطق الصمت، وها أنا أضرع إلى الصمت أن ينطق، وإلى حبة الرمل أن تطلق قواها الكامنة، وأن تحررني من قضبان عجزي المرهق. وما يمنعني من الصراخ إلا انعدام ما يرجع الصدى. وأسند جسمه إلى السيارة ونظر نحو الأفق. وأطال وأمعن النظر. وثمة تغير جذب البصر، رق الظلام، وانبثت فيه شفافية. وتكون خط في بطء شديد، ومضى ينضح بلون وضيء عجيب كسر أو عبير. ثم توكد فانبعثت دفقات من البهجة والضياء والنعسان. وفجأة رقص القلب بفرحة ثملة، واجتاح السرور مخاوفه وأحزانه، وشد البصر إلى أفراح الضياء يكاد ينتزع من محاجره. وارتفع رأسه بقوة تبشر بأنه لن ينثني. وشملته سعادة غامرة جنونية آسرة، وطرب رقصت له الكائنات في أربعة أركان المعمورة. وكل جارحة رنمت، وكل حاسة سكرت، واندفعت الشكوك والمخاوف والمتاعب. وأظله يقين عجيب ذو ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة، وملأته ثقة لا عهد له بها، وعدته بتحقيق أي شيء يريد. ولكنه ارتفع فوق أي رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنة من تراب. لا شيء! لا أسأل صحة، ولا سلاما، ولا أمانا، ولا جاها، ولا عمرا. ولتأت النهاية في هذه اللحظة؛ فهي أمنية الأماني.
صفحة غير معروفة