لوح بيده ممتعضا، فاستطرد مصطفى: مترجمة مثلا؟ أخشى أن تصمم يوما على هجر البيت. - لكنه بيتها!
فحدجه بنظرة ساخرة، وقال: بثينة مستغرقة في دروسها، وجميلة توشك أن تنساك.
فغض بصره في ارتباك، فعاد مصطفى يقول: أنا أقوم بالواجب، ولا أتوانى عن نقدك مر النقد.
فقال عمر ضاحكا: منافق عتيق! - أما زوجتي؛ فلا تكف عن شن الحرب عليك. - طبعا ... طبعا. - وكثيرا ما أدافع عنك عندما نكون منفردين، وأرجع سلوكك إلى «مرض نفسي خطير»، ثم أؤكد لها في نفس الوقت أنه مرض غير معد.
12
ليس كمثل وردة في حبها أحد؛ هي مغرمة برجلها لحد الجنون، مغرمة بعشها لحد العبادة، وهي متفرغة لحبها، تقوم بجميع واجباتها بلا معين. وكان عمر ينظر إلى الجدران، والأثاث، واللوحات، ويشم الورد في الأصيص، ويستمع إلى أنغام الحجرة الشرقية، ثم يقول إنه آدم في الجنة. وهي لا تطالبه بشيء، وربما دفعها دفعا لابتياع ما يلزمها من ثياب وحوائج. وزاد وزنها فعالجته بالمشي، وبشيء من الرجيم، وحرصت ما استطاعت على ألا يفرط في طعام أو شراب. وشعر تماما بأنها تذوب في شخصه، وتتفانى في حبه، وتتعلق به كأمل أخير. وفي ليالي الشتاء الطويلة انطويا على نفسيهما، وطال بهما السهر في الحجرة الشرقية، يغرقان في أحاديث لا نهاية لها، عن الماضي، والحاضر، والمستقبل، والواقع والخيال، والحقيقة والحلم، تتخللها القبلات والملاطفات. ولولا الشرفة المغلقة المطلة على الميدان ما روعتهما بين حين وآخر عواصف الشتاء أو انهلال المطر. واستنفدت ليالي الشتاء الأحاديث، وشملها الصمت أوقاتا، ولكنه صمت مضمر للرضى، والارتياح، والطمأنينة المتبادلة. وطافت به مرة خيالات فابتسم، ومرة وجم. وتخيل تصادم سيارتين عند مفترق الطريق، وتطاير رجل وقور في العمر فجزع. وهمس الصوت الحنون: أين أنت؟
فأجاب في شبه حياء: لا شيء.
فطوقت عنقه بذراعها، وقالت: أراهن أنه شيء هام.
هز رأسه نفيا، فسكتت برهة، ثم بفطنة قالت: لا أدري لم لا تزورك بثينة وجميلة في مكتبك؟
وكان يفكر في العنكبوت الذي يبني بيتا غاية في الغرابة ليصطاد ذبابة، ولكنه قال: بثينة لا تريد. - هل بلغت رغبتك؟ - حملها إليها مصطفى. - لم تحدثني عن ذلك؟ - ليس للأمر أهمية. - بل يهمني كل ما يخصك.
صفحة غير معروفة