بدأ الموسيقيون يوقعون على نغماتهم الرقيقة الشجية، وسكنت الجماهير تنتظر رفع الستار، فهمس لبريه في أذن راجنو: ترى هل يظهر مونفلوري على المسرح الآن؟ قال: نعم، ما من ذلك بد؛ لأنه صاحب الدور الأول في الرواية، ولأنه قد علم أن سيرانو لا يحضر بعد الآن، وأظن أني قد خسرت الرهان! قال: فليكن، فقد كنت أتوقع من حضوره شرا عظيما.
وهنا دق الجرس ثلاث دقات ثم ارتفع الستار، فظهر مونفلوري على المسرح لابسا ملابس راع، وعلى رأسه قبعة محلاة بالورود مائلة إلى أذنه، وفي يده أرغول طويل ينفخ فيه، فصفق له الجمهور تصفيقا كثيرا، فشكرهم بإيماءة رأسه، ثم أنشأ يمثل دور فيدين، ويتغنى بهذه القطعة:
هنيئا للذين يبتعدون عن قصور الملوك جهدهم، بل يعتزلون العالم بأسره، ويفرون منه إلى مكان ناء في منقطع العمران، لا يرون فيه غير وجه الطبيعة الجميل ...
وهنا رن صوت عظيم في جوانب القاعة يقول: «ألم أحرم عليك التمثيل شهرا كاملا يا مونفلوري؟»
فدهش الجمهور، وجمد مونفلوري في مكانه، والتفت الناس يمنة ويسرة يفتشون عن صاحب الصوت أين مكانه، ووقف النساء في المقاصير ينظرن ماذا جرى، وهمس راجنو في أذن لبريه، قد ربحت الرهان يا صديقي، فها هو ذا سيرانو قد حضر. فقال لبريه: ليته لم يحضر، وليتك خسرت كل شيء! وما هي إلا لحظة حتى ظهر سيرانو يتخطى الرقاب، ويدفع المقاعد بين يديه دفعا، ويزمجر زمجرة الرعد، حتى وصل إلى كرسي أمام المسرح فاعتلاه، وهز عصاه الطويلة في وجه الممثل وقال له: اترك المسرح حالا يا أحقر الممثلين، وإلا فأنت أعلم بما يكون، فسخط جمهور من الناس سخطا شديدا، وضجوا من كل ناحية: مثل يا مونفلوري، مثل ولا تخف، فتشجع مونفلوري وعاد إلى التغني بقطعته: «هنيئا للذين يبتعدون عن قصور الملوك جهدهم، بل يعتزلون العالم بأسره ...» فقاطعه سيرانو وصاح وهو يزأر زئير الليث: كأنك تأبى أيها الغبي الأحمق إلا أن أجعل ظهرك مزرعة لعصاي هذه، فاترك المسرح حالا، فقد أوشكت أن أغضب. فاحتدم الجمهور غيظا، وأخذوا يصيحون: صه أيها المجنون، مثل يا مونفلوري، إنه فضول غريب، إنها سماجة نادرة، فعاد إلى الممثل هدوءه وسكونه، وعاد إلى التغني بقطعته: «هنيئا للذين ...» فما نطق بأول حرف منها حتى وثب سيرانو من كرسيه الذي كان واقفا عليه إلى أقرب كرسي إلى المسرح، وهز عصاه في وجهه وصاح: لا تمثل أيها الدب الهائل ولا تنطق بحرف واحد، فإن فعلت ضربتك بعصاي هذه على وجهك ضربة لا تعرف من بعدها أين مكان أنفك منك، قد أمرتك وليس في العالم قوة تستطيع أن تعترض أمري، فطاش عقل مونفلوري وتلجلج لسانه، والتفت إلى الأشراف الجالسين على المسرح من حوله وقال: النجدة يا سادتي! فنظر أحدهم إلى سيرانو نظرة عظمة وكبرياء، وقال له: كفى هذيانا أيها الفضولي الثرثار، فقد أزعجتنا بضوضائك، وكدرت صفونا، والتفت آخر إلى الممثل وقال له: مثل يا رجل ولا تحفل بشيء فأنا أحميك، وقال آخر: لقد تجاوز الحد هذا الوقح حتى كاد يفرغ صبرنا.
فاتجه إليهم سيرانو وأنشأ يخاطبهم بهدوء وسكون، ويقول: يجب على حضرات السادة الأشراف أن يلزموا أماكنهم ويحافظوا على حيدتهم، فإني أشعر أن عصاي تتلهف شوقا إلى التهام شرائطهم وأوسمتهم.
فانتفض الأشراف غيظا وتناهضوا للقيام، وهاج الجمهور هياجا شديدا، وأحاط جمع عظيم منهم بكرسي سيرانو وأخذوا يصيحون في وجهه ويولولون، ويقلدون أصوات الحيوان: كالديك والهر والكلب والحمار، فاستدار نحوهم سيرانو وألقى عليهم نظرة هائلة مخيفة فتراجعوا قليلا، إلا أنهم ظلوا مستمرين في هياجهم وضوضائهم، وأخذوا يغنون بصوت واحد أنشودة هزلية يقولون فيها: «برغمك يا سيرانو ستمثل رواية كلوريز، برغمك يا سيرانو سيمثل مونفلوري!» يكررونها مرارا، فاستدار إليهم ثانية وزمجر في وجوههم، وصرخ فيهم صرخة هائلة، وقال: ألا تستطيعون أيها السفلة الأوغاد أن تتركوا سيفي هادئا في غمده ساعة واحدة؟ لا أحب أن أسمع منكم هذه الأنشودة مرة أخرى، وإلا حطمتكم جميعا! فقال له أحدهم: إنك لست بشمشون الجبار الذي ضرب جمعا عظيما من الناس بفك كلب فقتلهم، فالتفت إليه وقال: أستطيع أن أكون مثله لو أنك أعرتني فكك يا هذا! ثم التفت إلى مونفلوري، فرآه لا يزال واقفا في مكانه. فقال: يا للعجب! إنه لم ينفذ أمري حتى الآن، إنه يأبى إلا أن أجعل هذا المسرح مائدة أشرح عليها لحمه تشريحا، فعاد مونفلوري إلى استنجاده واستصراخه، وظل يقول: النجدة النجدة! الغوث الغوث! فازداد غضب الجمهور وهياجهم، وأحاطوا بكرسي سيرانو من كل ناحية، وأخذوا يهددونه وينذرونه بالويل والثبور، وعادوا إلى الترنم بأنشودتهم الأولى، وتقليد أصوات الحيوان، فاستدار إليهم فجأة، ثم وثب من كرسيه إلى الأرض، وتقدم نحوهم بعصاه، فتقهقروا بين يديه، حتى اتسعت الدائرة من حوله اتساعا عظيما، فصاح فيهم: إني آمركم جميعا أن تسكتوا، لا ينطق أحد منكم بحرف واحد بعد الآن، إني أعرف صور وجوهكم جميعها، فليس في استطاعة واحد منكم أن يفلت من يدي، من ذا الذي يريد أن يكون أول ناطق ليكون أول قتيل؟ ثم مر بهم يتصفح وجوههم واحدا فواحدا ويقول: من ذا الذي يريد؟ أأنت أيها الفتى؟ أم أنت أيها الكهل؟ أم أنت أيها الشيخ الهرم؟ من منكم يحب أن يكون اسمه أول اسم في جريدة الأموات؟ لم يجبني أحد بحرف واحد! ما سكوتكم؟ أجبنتم؟ ما لكم تفرون من وجهي؟ قلدوا أصوات الحيوان، غنوا الأنشودة الباردة! أرى صمتا عميقا وسكونا سائدا، لا حركة ولا إشارة! أظنهم قد ماتوا من شدة الخوف، الآن أستطيع أن أستمر في عملي! ثم اتجه إلى المسرح، وأنشأ يقول بصوت خشن أجش: أيها الأشراف، أيها الغوغاء، أيها الرجال، أيتها النساء، لا أريد أن أرى على جسم المسرح هذا الدمل القذر الخبيث، فإن لم ينفجر من نفسه فجرته بهذا المبضع القاتل، ولا أحب أن يعترض أحد منكم إرادتي، أو أخذت البريء بذنب المجرم، والجار بذنب الجار! ثم وضع يده على مقبض سيفه، وقد استحالت صورته إلى صورة وحش هائل قد كشر عن أنيابه للفتك بكل من يدنو منه.
فسكن الجمهور سكونا عميقا لا نأمة فيه ولا حركة. فقال مونفلوري بصوت خافت متقطع: إنك بإهانتك إياي يا سيدي قد أهنت الإلهة «تالي»! فقال: لا شأن لك بتلك الإلهة أيها الأحمق المأفون؛ لأنها إلهة التمثيل لا إلهة السخافات، ولو أنها شاهدت موقفك هذا وأنت تمثل بهذا الجسم الضخم الغليظ، وهذه الحركات الباردة الثقيلة، لتناولت مني عصاي هذه، وضربتك بها على أحقر عضو في جسمك، وهأنذا أصفق ثلاث مرات، وعند التصفيقة الثالثة لا بد أن تتلاشى من المسرح يا رأس الثور، أسمعت؟ فحاول مونفلوري أن يتكلم، فصفق سيرانو التصفيقة الأولى، فطار قلب الممثل فرقا ورعبا، وظل يقلب نظره في الجماهير، فلم يجد بينهم معينا ولا ناصرا، فأنشأ يقول بصوت مرتعد: سادتي! سادتي! أيرضيكم أن أهان في حضرتكم، وأن يهان الفن على مرأى منكم ومسمع؟! فصفق سيرانو التصفيقة الثانية، فاشتد اهتمام الجماهير، وتطاولت أعناقهم، وتحولوا من الهياج والغضب إلى الاهتمام بمعرفة النتيجة، وأخذ بعضهم يهمس في أذن بعض بأمثال هذه الكلمات: سيبقى، سيخرج، سيجبن، سيقاوم، لا يستطيع البقاء، لا يليق به الفرار، فحاول مونفلوري أن يقول شيئا آخر، ولكنه سمع التصفيقة الثالثة، فاختفى من المسرح كأنما غاص في مهوى عميق!
فهتف الجمهور لسيرانو هتافا عظيما، إلا بضعة أفراد قلائل، لا، بل أخذ الكثير منهم يسب الممثل ويشتمه ويسخر منه، وجلس سيرانو على كرسيه جلسة الفائز المنتصر، فتقدم نحوه فتى من المتفرجين وقال له: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك: ما السبب في بغضك مونفلوري؟ فصمت سيرانو لحظة، ثم ألقى عليه نظرة باسمة هادئة وقال له: عندي لذلك سببان: أولهما قبح تمثيله ورداءة حركاته، وأنه يغني الشعر العذب الرقيق بصوت مأخوذ مختنق فيفسده على صاحبه، وينغصه على الناس، أما السبب الثاني فهو سري الخاص الذي لا يمكنني أن أبوح به لأحد، فتقدم نحوه فتى آخر وقال له: ولكنك حرمتنا على كل حال مشاهدة رواية «كلوريز»، وما كنا نؤثر ذلك ولا نرضاه! قال: أظن أني لم أحرمك شيئا نفيسا أيها الفتى، فإن نظم «بارو» كنثره: كلاهما بارد غث لا يساوي شيئا؛ ولذلك قد كفيتكم وكفيت نفسي مئونة سماع روايته السخيفة غير آسف عليها! فصاحت فتاة في المقاصير: من ذا الذي يعيب شاعرنا بارو؟ أيستطيع أحد أن يجرؤ على ذلك؟ وتكلمت فتيات أخريات بمثل كلامها، فرفع سيرانو نظره إلى المقاصير، وأنشأ يخاطبهن ويقول: لكن يا سيداتي أن تكن جميلات رائعات كما تشأن، ولكن أن تختلبن الألباب، وتستلبن العقول بحسنكن ودلالكن، ولكن أن تبتسمن الابتسامات اللامعة البديعة التي تضيء بنورها ظلمات هذه الحياة، ولكن أن تبعثن السعادة والغبطة والسرور والبهجة في نفوس الناس جميعا، فيحيوا بفضلكن في هذا العالم حياة المسرة والهناء، ولكن أن توحين روح الشعر إلى الشعراء، وتملينها عليهم بسحركن وفتنتكن فيستطيعوا أن يطيروا بأجنحتهم في أجواء السموات العلا، ويشرقوا منها على الدنيا ومن فيها شموسا وأقمارا، لكن كل هذا ولكن ليس لكن أن تجلسن في محكمة الشعر لتحكمن في قضية الشعراء!
وكان «بلروز» صاحب الحان واقفا على مقربة منه. فقال له: وما رأيك يا سيدي في المال الذي خسرته الليلة بسببك؟ قال: هذه هي الكلمة الوحيدة المعقولة التي سمعتها الليلة في هذا المكان، ثم ضرب يده في جيبه، وأخرج منه كيسا مملوءا فضة، ورمى به إليه، فتهلل «بلروز» فرحا وابتهاجا، وقال له: بمثل هذا الثمن آذن لك يا سيدي بالحضور كل ليلة، وبتعطيل ما تشاء من الروايات! ثم التفت إلى المتفرجين وقال لهم: قد انتهى التمثيل يا سادتي، فهيا جميعا إلى الباب لتستردوا نقودكم.
صفحة غير معروفة